فى خضم الصراع الثقافى والحضارى والفكرى المعاصر هل ما زال الدين هو الحل ؟
والجواب :
أن من المشاكل الخطيرة فى تاريخ الفكر الإسلامى دوران هذا الفكر فى فراغ موحش رهيب فى رحلة البحث عن قرار ، وفى وهج هذا الدوران الفكرى المضطرب عاش الإنسان فى الماضى ويعيش اليوم أقسى ما يمكن أن يتصور من حياة .
ولنأخذ مثالا على ذلك من أحد مفكرى العصر ، وهو ألبير كامى ، فإذا قرأت بحوثه وقصصه ومسرحياته فإنه سيبهرك بثرائه الفنى الرائع ، وبعمقه الساحر الأخاذ ، لكنه فى النهاية سيسلمك إلى إحساس عاصف باليأس والعبثية واللاجدوى ، فكل كتاباته طافحة بهذه القتامة ، ولا يجد أبطاله من نهاية سوى الانتحار كنتيجة طبيعية ومنطقية لإيمانهم بفوضى العدالة، وعدالة الفوضى . فألبير كامى ليس سوى رمز لعشرات ومئات من مفكرى هذا العصر الذين فقدوا الإيمان بشىء معين أعلا من الإنسان ، وأهدى من المادة ، ففقدوا وضوح الرؤية اللازم لكل من يشق طريقه فى الحياة .
إن إيمانهم كان بالعقل البشرى وحده ، لكن ليس فى استطاعة هذا العقل وحده مهما بلغ من نضوج أن يقدم الحل أو الحلول العاقلة لمعادلة الحياة الصعبة المتشابكة لأن العقل نفسه بعض من هذه المعادلة ، ولأنه يرتطم دائما بأسوار محدوديته فيقع عاجزا عن التحليق والطيران .
وهنا يبرز الدين كحل إلهى شامل وعميق ليقدم لمعادلة الحياة تفسيرها المنطقى الذى لا يتهرأ فى حومة الصراع ودورانه المفزع .
الدين كحل يبدأ من منطلق الإيمان بالأعلى لينظم الوجود كله فى ضوء هذا الإيمان ، ذلك الوجود الذى يدل بكليته وأفراده على الإيمان بالله ، حيث الأثر يدل على المؤثر ، ولولا الشجرة مثلا ما كانت الثمرة .
والعلاقة بين الإنسان وخالقه يجب أن تحددها دائما علاقة العجز والقدرة ، أو علاقة النقص والكمال ، فليس فى طاقة الإنسان أن يلحق شأو خالقه ، لأن شأو الخالق ليس مدى طفرة أو طفرات ، وإنما هو اللانهائية بكل ما تنطوى عليه اللانهائيات من قدرات وأسرار .
فالإيمان إذن عملية ترسيخ لوضعية الإنسان على هذه الأرض بدلا من تركه مذبذبا هكذا فى مهب الرياح ، وإذا كانت بعض الفلسفات المادية تعطى الإنسان فى حياته غاية أو هدفا ، فإن الدين يسبقها إلى ذلك متخطيا تخوم الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة ، عاقدا بين غاية الإنسان هنا وغايته هناك أوثق الوشائج وأعمق الصلات ، بينما تظل جهود الفلسفات المادية حبيسة اللحظة المعاشة لا تتخطاها إلى غيرها من حياة .
والإنسانية لكى تحقق وجودها الأفضل لا بد أن تتخطى بعض غاياتها الحياتية ، وتؤمن بأن وراء هذه الغايات الحياتية غايات أخرى أسمى تستحق الإقدام على التضحية من أجلها بكل ما وسعها من إيمان ، وهنا يبرز دور الدين .
أما الإنسانية إذا لم تكن مؤمنة سوى بالغائيات الدنيوية ، فإنها قد ترتطم حتى بآمالها فى الدنيا محطَّمة ومحطِّمة ، وهنا يظهر جليا قصور الماديات .
الدين كحل يهب الإيمان الواثق المتكامل ، ويعطى الهدف من الوجود للوجود ، ويحفز على التجاوز الواثب المتفتح ، والدين وحده هو الذى يعطى للحياة حياتها ، ويعطى للإنسان نبضه المتطلع إلى الأسمى دائما وإلى الأشمل دائما وإلى الأخلد دائما ، وتلك هى رسالة الدين .
- فى الفكر الإسلامى من الوجهة الأدبية ، للدكتور محمد أحمد العزب ، القاهرة : المجلس الأعلى للثقافة ، 1983 م ، (ص 71 - 76) .