بتـــــاريخ : 10/23/2008 6:20:38 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 911 0


    السُّنَّة النبوية – حول أسس التعامل معها

    الناقل : heba | العمر :43 | المصدر : www.dar-alifta.org.eg

    كلمات مفتاحية  :
    إسلام فكر اسلامى

    ما هى الأسس التى ينبغى علينا أن نتعامل مع السنة النبوية الشريفة على أساسها ؟
    والجواب : 
        السُّنَّة هي المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نقلها إلينا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التابعون من بعدهم ثم الطبقات التالية، ونحن نعرفهم بأسمائهم، فلكل منهم ملف كامل ضمن علم يسمى "علم الرجال"، وعلم يسمى "الجرح والتعديل" يشتمل على قواعد الحُكم على هؤلاء الرجال من جهة الأخلاق وتسمى "العدالة"، فيشترط في راوي الحديث "الصحيح" أن يكون "عدلاً"، ومن جهة العقلية، وتسمى "الضبط"، فيشترط في الراوي أن يكون "ضابطًا" أي كفئًا في الرواية. 
        وقد حظيت السُّنة باهتمام بالغ من العلماء وطلاب العلم، فجري عليها تمحيص وتدقيق شديدان على مستويي السند والمتن، فلم يقتصر التوثيق لتصحيح الحديث على النظر في "الرواية" و"الرواة"، ولكن أيضًا تطرق علماء الحديث وشرّاحه إلى جانب "الدراية"،وهو العناية بالمتن ووزنه على ثوابت الشريعة وأصولها، بحيث لا يُقبل حديث -مهما كان سنده- يكرّ على أصول الشريعة ومبادئها الثابتة بالبطلان أو الإبطال. وهناك كتب كثيرة لخدمة السُّنة بين كتب التاريخ، وكتب المسانيد، وكتب الصحاح، وكتب الأحاديث الضعيفة، وأخرى خُصَّصت لتتبع "الموضوعات"؛ أي الأحاديث المفتراة على نبي الله صلى الله عليه وسلم.
        ومن هنا تتبدّى لنا القضية الأولى أمام الباحث الاجتماعي حين يقترب من السُّنة؛ وهي قضية التوثيق، وقد تعرضنا لموجز عنها فيما سبق.
        فيبدأ الباحث بالنظر في "السَّند"؛ للتأكد من نسبة القول أو الفعل أو الصفة أو التقرير الوارد، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فلا معنى لسائر العملية البحثية التي تعتمد على حديث غير موثَّق. فقد يكون الكلام طيبًا، ولكنه ليس كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الخطأ الشنيع أن نتغاضى عن هذا الأمر؛ حيث شدَّد النبيّ صلى الله عليه وسلم على جُرم وعقوبة نسبة الشيء إليه كذبًا، فجاء في الحديث المتواتر (إن كذبًا عليّ ليس ككذِب علٍى أحد، من كذب عليّ متعمَّدًا فليتبوَّأ مقعده من النار)
    (1).
        والنظر في السَّند لم يعد من مهام طلبة العلم أو الباحث العادي اليوم، فكيفية الرجوع إلى الكتب المعتبرة مهمة أهل علم الحديث المتخصصين، والباحث يراجعهم في صحة السند أو حسنه أو ضعفه. وهم يختلفون في موقفهم من بعض الأحاديث، ويجمعون في الموقف من بعضها الآخر، لكن بصفة عامة يشار إلى بعض الحقائق:
    - كلّ الصحابة ثقات بلا خلاف بين أهل السُّنَّة. والتابعون ثلاث طبقات: كبار التابعين وهم ملحقون بالصحابة: أي ثقات، وأواسط التابعين والأصل فيهم الثقة ما لم يرد قول لإمام من أئمة الحديث والجرح بتضعيفه أو تجرحه، وصغار التابعين لا يوثقون إلا بشهادات أئمة الحديث.
    - وأقوى الأحاديث صحة ما اتفق عليه الشيخان (البخاري ومسلم) يليه ما انفرد به البخاري ثم ما انفرد به مسلم.
    - بعد هذين الكتابين تأتي كتب السُّنن الأربعة الأولى، ويقال فيما رووه معًا (رواه أصحاب السنن): سنن أبي داود، سنن ابن ماجه، سنن النسائي، سنن الترمذي، وفيها روايات ضعيفة، ولكن كم كبير جدًا منها -مع الاحتياط- يميل إلى الصحة والحُسن، وتضم إلى الكتابين السابقين لتعرف جميعًا بالكتب الستة (فيقال: رواه الستة أي الشيخان والأربعة).
    - يلي هؤلاء مسند أحمد وموطأ مالك. ثم يلي ذلك سنن الدَّارَميّ والدَّارَقَطني وصحيح ابن حِبَّان، ومصنف ابن أبي شيبة وغيرها... والكتب الأخيرة وإن كانت بها روايات صحيحة ومهمة ومشهورة كثيرة أيضًا، إلا أن بها أحاديث كثيرة ضعيفة.
        ثم على الباحث بعد ذلك –كخطوة ثانية- أن يُكمل ذلك بالنظر في المتن؛ لتأكيد الخطوة الأولى، وكلاهما تقعان ضمن قضية التوثيق.

        القضية الثانية قضية فهم متن الحديث –بعد توثيقه- قبل الاستنباط منه في مضامين ومنهجيات البحث العلمي الاجتماعي. ويُستعان في فهم المتن بالرجوع لأهم كتب الشروح المشهورة، والتي صارت اليوم متوفرة مثل سائر كتب التفسير والفقه وعامة كتب التراث عن طريق شبكة المعلومات.  ولا يعني الإرشاد إلى هذه الكتب الشارحة للحديث أنها مراجع نهائية تغني عن التدبر الذاتي، فالفهم لا يزال قابلاً لمزيد من التعميق، ولا يزال –وسيبقى- الباب مفتوحًا لننهل من السُّنَّة الكثير والكثير مما لم يكن مطروحًا من قبل، سيما مع ارتفاع "السقف المعرفي" وتقدم المعارف الكونية والحياتية كل يوم.

        أما القضية الثالثة؛ وهي الخاصة بالاستنباط والاستفادة المعرفية والبحثية من السُّنّة، فهي تحتاج إلى مَلكة مهمة يمكن اكتسابها، ومن الضروري اكتسابها؛ ألا وهي: ملكة "الفهم الكلي للشريعة الإسلامية".
        هذا الفهم قد يكون أكثر جلاءً في أذهان البعض عنه لدى غيرهم، وجلاؤه أو وضوحه يزداد بازدياد مدى المعرفة بتفاصيل الشريعة، والعلاقات البينية في منظومتها، ومدى إدراك الباحث (أو المجتهد) للآثار المترتبة على هذه الرؤية الكلية. وكلما كان الباحث أكثر اطّلاعًا وتعلُّمًا للشريعة، كلما كانت هذه الرؤية أعمق لديه كنظرية حاكمة لذهنيته ولعملياته البحثية.
        هذا الفهم ينقل إلى فقه "المآلات"، وفقه "المقاصد الشرعية" وفقه "العلل والمناطات"، وهي كلها مساعدات للفهم وللاستنباط الجيد. وقد كان هذا "المكون النظري" السابق على مطالعة الحديث سببًا في الاختلافات الفقهية حتى بين الأئمة كمالك والشافعي
    (2). بل إن أمر الخلاف كان واردًا –وظلال النبوة وارفة على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحديث (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) (3) المشهور يقف شاهدًا على عقليتين أقرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاً منهما: عقلية الالتزام بظاهر النص، وعقلية النظر في العلة والمقصد ومراد الشارع. ولا إشكال إذا توافق ظاهر النص مع علته ومع مقصده، لكن حين تستشعر عقلية الباحث تعارضًا، فإن مكونات هذه العقلية تميل إلى ترجيح الأخذ بالظاهر أو ترجيح الأخذ بالعلة.
        والفاصل بين العقليتين وبين ما يمكن أن يظهر من عقليات هو عمق الرؤية الكلية، ودقة الاطلاع على تفاصيل المسألة، والالتزام بالثوابت وعدم إبطالها بطريق مباشرة أو بطريق غير مباشرة.  والعمل من أجل تكوين هذه الرؤية الكلية الحاكمة للقبول والاستفادة من السُّنَّة يحتاج الباحث إلى خطوات هي:
    أ‌- تتبع الديانة؛ أي تتبُّع الكتاب والسُّنة، وعدم الاكتفاء بجزء دون جزء؛ حتى لا يتشرذم الذهن.
    ب‌- التنظير: أي بناء نظرية ما في كل مسألة (وسنضرب لها أمثلة).
    ج- التفعيل: أي محاولة تفعيل هذه النظرية في المشكلة محل البحث، إذا كانت ذات ارتباط.
        فعند حكم الباحث على الأشياء، وأثناء توليده للأفكار من الوقائع أو حول هذه الوقائع، لابد من مراعاة النظرية أو النظريات التي كوّنها من قبل حين تتبَّع الكتاب والسُّـنَّة. إن الأمر -لو ندري- مردُّه الإيمان بالكتاب والسُّنة، وحبهما، والالتزام الحقيقي بهما في الأمر كله.
        هذه الخطوات الثلاث (التتبع، التنظير، التفعيل) هي الخطوات المطلوبة لحسن التعامل مع السُّنة، تعاملاً واعيًا، بما يخدم حسن السير في هذا الزخم الواقعي المعيش. وبهذه الخطوات نأخذ من مناهج السلف الصالح دون أن نقف عند مسائلهم، وهذا واجب الباحث وطالب العلم اليوم لمواجهة مشكلات كل زمان.
        وهذه الخطوات الثلاث في سبيل تكوين الرؤية الكلية تصلح للتعامل مع عموم الشريعة الإسلامية قرآنًأ وسُنة. بيد أنه ينبغي ملاحظة الفارق بين التعامل مع القرآن والتعامل مع السُّنة من وجوه، أهمها:
    1- أن القرآن محفوظ على مستوى الحرف فما فوقه، بينما السُّنَّة محفوظة على مستوى المعنى أساسًا.
    2- أن القرآن مُعجِز، والسُّنة غير مُعجزِة؛ لأن السُّنَّة تدخلت فيها أقوال الرواة. ومن ثمَّ، فالقرآن حاكم على مُشْكِل الحديث.
    3- أن القرآن يُتعبد به وبتلاوته في كل وقت وعلى كل حال مع الإيفاء بشروط الطهارة والوعي والتقديس... والسُّنَّة لا يتعبد بتلاوتها ولكن بتنفيذها.
    4- أن القرآن كتاب هداية؛ ومن ثم هو الأقرب -غالبًا- لاستنباط المبادئ العامة والسُّنن الإلهية والقيم والقواعد الكلية. أما السُّنَّة فهي تطبيق لهذه القواعد والمبادئ والقيم.ومن ثم، يمكن القول إن الكتاب مطلق؛ أي متحرر من قيود الزمان والمكان والأحوال والأشخاص والأوضاع، أما السُّنة فهي نسبية؛ أي إن الواقع جزء منها. ومن هنا، ينبغي في التعامل مع السُّنة عند التنظير (استخراج النظرية بعد التتبع)؛ أن نجرّد تنظيرها من واقعها؛ حتى تكون أيضًا مطلقة هي الأخرى.

    مثال تطبيقي للتعامل مع الأصلين:
        والخطوات الثلاث في التعامل مع الأصلين (الكتاب والسُّنَّة) نضرب عليها مثلاً بقضية "المرأة" المثارة حاليًا، فلكي يعالجها الباحث المسلم من منظور إسلامي، فعليه الجمع بين المصدرين الأصيلين، فيتـتبع الآيات والأحاديث كخطوة أولى، يجمعها ويتدبرها ويراجعها على أهل العلم من السابقين واللاحقين تثبتًا وفهما وتعميقًا.
        ثم تأتي الخطوة الثانية (الاستنباط)، وهي الخطوة الوعرة التي تحتاج إلى اجتهاد ذهني وإعمال فكر، وربط بين الجزئيات، ومراجعة للكليات، وموازنة بين المفترقات، ومراجحة بين المتخالفات.
    - فالآية الأولى من سورة النساء تدل على أن الرجل والمرأة خلقهما الله عز وجل {مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}- الآية 6, سورة الزمر. فالأصل واحد، وكل منهما زوج للآخر، وهذا يعني أنهما "متكاملان" يكمّل أحدهما الآخر، فيستخرج الباحث من ذلك فكرة "التكامل" النافية "للتقابل التناقضي" أو العدائي.
    - وأيضًا قال سبحانه وتعالى : {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى}- الآية 36، سورة آل عمران, فنفي "المماثلة" ونفي المماثلة لا يعني بالضرورة المواجهة أو المعاركة، فقد قال أيضًا: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْض}ٍ- الآية 195، سورة آل عمران, وقال سبحانه وتعالى : {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}- الآية 97, سورة النحل.. ففي هذا عدم تفرقة. فالقرآن نفى "المماثلة" ونفى كذلك "المفارقة"، فأيهما العام؟ وأيهما الخاص؟ أو أيهما الأصل المطلق؟ وأيهما الاستثناء المقيّد؟ أم أن هناك وصفًا آخر يجمع الأمرين، ولا يحيلهما نقيضين؟ (والجمع بين الدليلين –إن أمكن- أولى من إهمال أحدهما)-قاعدة.
    - نكمل التـتبع، فنجد قول الله سبحانه وتعالى : {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}- الآية 32, سورة النساء. فأشار إلى أنه سبحانه وتعالى فضّل الرجال على النساء، كما فضَّل النساء على الرجال، ولكل نصيب مما اكتسب، ونهى كلاً منهما عن تمني ما فضَّل به الآخر، وأمرهم بسؤاله سبحانه وتعالى من فضله، وبيَّن لهم أنه سبحانه وتعالى يعلم ما لا يعلمون: {إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}- الآية 32, سورة النساء.
    - وفي آيتين أخريين بيَّن شيئًا مما فضَّل به الرجال، فقال سبحانه وتعالى : {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}- الآية 228، سورة البقرة, وقال سبحانه وتعالى : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ }- الآية 34, سورة النساء.
        وبالتأمل نجد أن هناك "مساواة ": {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}- الآية 228، سورة البقرة, {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ}- الآية 195، سورة آل عمران, ولا نجد أن هناك "تساويًا" أو "تسوية"، فنفرّق بين المساواة والتساوي، لقوله سبحانه وتعالى : {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}- الآية 32، سورة النساء, هذا ما يمكن أن أستنبطه من تتبع القرآن، ثم أجد أن السُّنة تؤكده.
        فالحديث يقول: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال)
    (4). أي إنه يحرّم الانتقال، والرغبة في الانتقال، والسعي إلى الانتقال من دائرة النوع إلى الدائرة الأخرى، فيجب ألا يسعَى الرجل إلى أن يكون امرأة أو كالمرأة، وألا تسعَى المرأة للتشبه بالرجل وتسمى بالمترجّلة.
        "المساواة دون التسوية" تطرح أن الرجل والمرأة مختلفان، وهما زوجان متكاملان، فلمن تكون الكلمة "عند التعارض"؟ الكلمة تكون لمن منحه الله سبحانه وتعالى القدرة على القيادة وعلى فصل الخطاب. ففي شئون النساء تشهد النساء، وربما لا تقبل شهادة رجال. وفي شئون البيت منح الله سبحانه وتعالى القوامة للرجال على النساء.
        أتأمل المميز بينهما، أجد أن المرأة كائن "ضعيف"، الجميع من الرجال والنساء، ومن القدماء والمحدثين -اللهم إلا بعض دعاة "الجندر"- متفقون على أن المرأة "أضعف" من الرجل، والخلاف بين أهل الفكر وداخل الدعوات والحركات النسائية المهتمة بالمرأة حاليًا ليس في هذه الحقيقة، إنما في آثارها، وما "ينبغي أن" يترتب عليها، وهنا يبرز تمــيُّز الموقف الإسلامي في قضية المرأة.
        من تتبع القرآن والسُّنَّة- نجد أن الإسلام لم يمتهن النساء في أيَّ نص من نصوصه، رغم الافتراءات الكثيرة، إذن هو يؤسس نظرية "الضعف المحترم"، فيما تقوم كل الدعوات الأخرى إما على "تذئيب المرأة"؛ أي دعوتها لتكون ذئبًا بين الذئاب وإخراجها عن طبيعتها التي طبعها الله سبحانه وتعالى عليها، وإما على "عدم احترام ضعفها". وهذا ليس في الغرب فقط، بل ينطبق أيضًا على الممارسات الموروثة في كثيرة من مجتمعات المسلمين، فيما نصوص الكتاب وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وممارساته براء من الاقتراب من مثل هذه الشائنات.
        ففي الكتاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}- الآية 19، سورة النساء, {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا}- الآية 4، سورة النساء, {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله}- الآية 229، سورة البقرة, {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }- الآية 231، سورة البقرة, {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }- الآيتان 231-232، سورة البقرة, {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}- الآية 233, سورة البقرة.
        {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } - الآية 1، سورة الطلاق, {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}- الآية 6, سورة الطلاق.
        فالضعف المحترم وقوامة الرجل هنا معناها الترتيب التكاملي الذي تجد مثله بين الرجال أنفسهم، وفيما بين النساء أنفسهن. ففيما بين الرجال حاكم ومحكوم وقائد ومقود وأب وابن، وفيما بين النساء أم وابنة، وأخت أكبر وأخت أصغر.. وهكذا. فهذه كلها ترتيبات تكاملية لضعف الثاني عن الأول، وهو ضعف مكرَّم محترم تتم رعايته، ويتحمل الأول المسئولية فيه.
        نظرية المساواة دون التساوي، ونظرية الضعف المحترم، ونظرية الترتيب التكاملي، والتكامل دون الصراع، ونظرية الخصائص والوظائف؛ (أي إن لكلٍ من الطرفين الزوجين خصائصه التي تفرض له أو عليه وظائف معينة)، كل هذه النظريات المتكاملة والمستنبطة من تتبع الديانة (الكتاب والسُّنة)تصير أصلاً.
        الخطوة الثالثة هي التفعيل، ومنه ردّ الجزئيات والوقائع المخالفة وإبطالها، ونقصد به ألا أقبل فكرة أو أستخدم تعبيرات فيها إبطال لهذا الأصل (النظرية)، وخاصة الأفكار الوافدة من رؤية كلية مختلفة، والأفكار الراكدة في مستنقع موروثات ما أنزل الله بها من سلطان، كقولهم: شاوروهن وخالفوهن، وقولهم: المرأة مخلوق ناقص،.. وهكذا.
        فأمام القول الأول يقول سبحانه وتعالى : { وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}- الآية 6، سورة الطلاق, ويقول سبحانه وتعالى : {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}- الآية 233، سورة البقرة.
        وأمام القول الثاني يوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى نقصان عقل المرأة في نسيان الشهادة، ونقصان دينها فيما يضيعه الحيض والنفاس من الصلوات والصيام. فكيف يتم تعميمها، وقد خصصها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كيف ولا يعمم ما عمَّمه من قوله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله)
    (5). وفي حديث أم زرع قوله صلى الله عليه وسلم للسيدة عائشة: (فكنت لك كأبي زرع لأم زرع) (6) متفق عليه،..؟ كيف ونصف الدين أخذناه من فم امرأة، هي أم المؤمنين السيدة عائشة (رضي الله عنها)؟
        هذا مجرد مثالٍ موجز لتطبيق لخطوات الثلاث على التعامل في قضية ما مع الكتاب والسُّنَّة، وهما الأصلان في شِرعة الإسلام. وهناك مصادر أخرى للتعامل معها والاستفادة منها إلى جانب الأصلين، ككتب التفسير وكتب الفقه وكتب الشروح وكتب السيرة، وهي تفيد في فهم الأصلين والاهتداء بهما. والمثال ليس حجرًا على التتبع أو التنظير المختلف، إنما الغرض هو بيان "الإمكان"؛ إمكان أن نتعامل مع تراثنا ومع الكتاب والسُّنَّة تعاملاً إيجابيًا ٍفي حقول العلوم الاجتماعية والإنسانية؛ بما يحقق عدة أهداف:
    - تحقيق الصلة بين المسلم ودينه، الصلة العلمية، والصلة العملية، وهذا مراد الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في هذا الشأن.
    - تحقيق الصلة بين الدين وتراثه من جهة، وبين واقع وأفكار المسلمين اليوم من جهة أخرى، من خلال إعادة قراءة التراث، وتجديده (وليس إصلاحه فهو ليس بفاسد)، ومحاولة تفعيله في الدراسات والمناهج المعاصرة.
    - بناء جيل مسلم جديد يفكر بالإسلام، في كل شئون الحياة والعلم، ويجدّد النهضة العلمية، ويحقق مراد الله سبحانه وتعالى في البلاد والعباد، و الله ولي ذلك وهو القادر عليه.

     

    الهوامش:
    -----------------------
    (1)
    1052, كتاب الجنائز, باب 33 (فتح الباري- البخاري- أ).
    (2)
    وهذا يفسِّر ما وقع بين مالك والشافعي في مسألة ركعتي تحية المسجد والإمام قائم يخطب يوم الجمعة (حديث سليك الغطفاني) الذي سبق التعرض له. سبق تخريجه ص 102.
    (3)
    سبق تخريجه ص 117.
    (4)
    عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال. 4779, كتاب اللباس, باب 61 (فتح الباري- البخاري- أ).
    (5)
    سبق تخريجه ص 139.
    (6)
    الحديث: عن عائشة قالت: جلس إحدى عشرة امرأة، فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً، قالت الأولى: زوجي لحم جمل غث، على رأس جبل: لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل، قالت الثانية: زوجي لا أبث خبره، إني أخاف= =أن لا أذره، إن أذكره أذكر عجره وبجره، قالت الثالثة: زوجي العشنق، إن أنطق أطلق وإن أسكت أعلق. قالت الرابعة: زوجي كليل تهامة، لا حر ولا قر، ولا مخافة ولا سآمة، قالت الخامسة: زوجي إن دخل فهد، وإن خرج أسد، ولا يسأل عما عهد. قالت السادسة: زوجي إن أكل لف، وإن شرب أشتف، وإن اضطجع التف، ولا يولج الكف ليعلم البث. قالت السابعة: زوجي غياياء، أو عياياء، طباقاء، كل داء له داء، شجك أو فلك أو جمع كلا لك. قالت الثامنة: زوجي المس مس أرنب، والريح ريح زرنب. قالت التاسعة: زوجي رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من الناد. قالت العاشرة: زوجي مالك وما مالك، مالك خير من ذلك، له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارح، وإذا سمعن صوت المزهر، أيقن أنهن هوالك. قالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع، فما أبو زرع، أناس من حلي أذني، وملأ من شحم عضدي، وبجحني فبجحت إلي نفسي، وجدني في أهل غنيمة بشق، فجعلني في أهل صهيل وأطيط، ودائس ومنق، فعنده أقول فلا أقبح، وأرقد فأتصبح، وأشرب فأتقنح، أم أبي زرع، فما أم أبي زرع، عكومها رداح، وبيتها فساح. ابن أبي زرع، فما ابن أبي زرع، مضجعه كمسل شطبة، ويشبعه ذراح الجفرة. بنت أبي زرع، فما بنت أبي زرع، طوع أبيها، وطوع أمها، وملء كسائها، وغيظ جارتها، جارية أبي زرع، فما جارية أبي زرع، لا تبث حديثنا تبثيثاً، ولا تنقث ميرتنا تنقيثاً، ولا تملأ بيتنا تعشيشاً. قالت: خرج أبو زرع والأوطاب تمخض، فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين، يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فطلقني ونكحها، فنكحت بعده رجلاً سرياً، ركب شرياً، وأخذ خطباً، وأراح علي نعماً ثرياً، وأعطاني من كل رائحة زوجاً، وقال: كلي أم زرع، وميري أهلك، قالت: فلو جمعت كل شيء أعطانيه، ما بلغ أصغر آنية أبي زرع .
    قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كنت لك كأبي زرع لأم زرع". 6111, كتاب فضائل الصحابة, باب 14, مسلم.


    المصدر : الطريق إلى فهم التراث ، لفضيلة مفتى الديار المصرية ، الدكتور على جمعة .

    كلمات مفتاحية  :
    إسلام فكر اسلامى

    تعليقات الزوار ()