دار الحديث كثيرا حول مدى أصالة الفكر الإسلامى ، وقدرته على استعمال المنهج العلمى السليم ، فما مدى صحة ذلك ؟
والجواب :
أن بيان أصالة الفكر الإسلامى ، وما قدمه للإنسانية من جهود أصيلة ساهمت فى رقى الحضارة البشرية ككل هو أمر واسع المجال ، وذلك لتعدد واتساع المجالات الفكرية التى أسهم فيها المسلمون بنصيب وافر ، ولهذا سنقتصر هنا على تقديم نموذج لهذه الأصالة والمنهجية التى تمتع بها المسلمون من خلال علم واحد وحسب وهو علم أصول الفقه .
1- أصول الفقه والمنهج :
أصول الفقه من العلوم التي أنشأها العقل المسلم على غير مثال ، غير مقلد لأي أمة سبقته في هذا المضمار ، شأنه في ذلك شأن مصطلح الحديث وعلومه ، ويُعد كل واحد منهما منهجاً بالمعنى الدقيق.
فأصول الفقه منهج للتعامل مع النص الشرعي ، وفي تعريفه عند مدرسة الرازي مثلاً تذكر أركان المنهج العلمي ؛ حيث عرفه الرازي في المحصول بأنه : (( مجموع طرق الفقه على سبيل الإجمال وكيفية الاستدلال بها ، وكيفية حال المستدل بها )) (1) .
وعرفه البيضاوي في قوله : ((معرفة دلائل الفقه إجمالاً وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد))(2).
ومن هذه التعريفات يمكن استخلاص أركان ذلك المنهج ، وأنه يحرص على معرفة :
أ- مصادر البحث .
ب- طرق البحث .
جـ- شروط الباحث .
وهي الأركان المنطقية لأي منهج في البحث العلمي الذي يبعد عن الخرافة ، ويبتعد عن الذاتية ، ويقرب من الموضوعية .
وعلوم الحديث بما دوّن في علم مصطلح الحديث ، أو علم الجرح والتعديل ، أو علوم الحديث رواية أو دراية إنما تعد منهجاً في التعامل مع النص ثبوتاً ، وتوثيقاً بالمعنى الأعم حيث تشتمل هذه العلوم على نقد السند ونقد المتن معاً ، حتى يتم الحكم على المنقول بالقبول أو الرد سنداً ومتناً ، وهذا المنهج بديع للمسلمين دون من سواهم من الأمم .
ويبدو أن اليهود حاولوا ذلك من قبل ففشلوا ، حيث إن الأسانيد التي تحت أيدينا الآن تزيد عن مائة ألف (3) في حين أن أسانيد اليهود على قلتها لا تصل إلى موسى ، بل بين منتهاها وبين موسى ألف وخمسمائة سنة أو أكثر من ثلاثين عصراً أو جيلاً .
يقول ابن حزم في كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل : ((...ومن هذا النوع كثير من نقل اليهود بل هو أعلى ما عندهم إلا أنهم لا يقربون فيه من موسى كقربنا فيه من محمد صلى الله عليه وسلم بل يقفون ولا بد حيث بينهم وبين موسى عليه السلام أزيد من ثلاثين عصراً في أزيد من ألف وخمسمائة عام ، وإنما يبلغون بالنقل إلى : هلال وشماني وشمعون ومرعقيبا وأمثالهم ، وأظن أن لهم مسألة واحدة فقط يروونها عن حبر من أحبارهم عن نبي من متأخري أنبيائهم أخذها عنه مشافهة في نكاح الرجل ابنته إذا مات عنها أخوه ، وأما النصارى فليس عندهم من صفة هذا النقل إلا تحريم الطلاق وحده فقط على أن مخرجه من كذاب قد صح كذبه )) ا.هـ (4) .
إن التفكير المنطقي لمريد الحق هو التأكد أولاً مما تقوم به الحجة حيث ثبت لدي المسلم أن ذلك هو القرآن والسنة ، فلابد من طريق للتثبت والتوثيق لهذه المصادر ، فإن ثبتت فكيف نفهمها ، فكان ذلك المنهج هو المنهج الدقيق لأداء ذلك الهدف ، والوصول إليه .
ويمكن أيضاً تشغيل أصول الفقه - كمنهج - في علاقته مع الفلسفة - كمجال - في استفادة العلوم الاجتماعية من ذلك المنهج ، وذلك بتجريد ما يمكن أن نطلق عليه نظريات الأصول ، وتطبيقها ، أو أجزاء منها في تلك العلــوم .
فالحُجيّة التي تحدد المصادر الأصلية ، وتبين كيفية إقامة الدليل على حُجيّتها ، وتوثيق المصدر ، والتعامل مع مساحة القطعيّ والظنيّ ، ثم كيفية الإلحاق ، وفك التعارض ، وتحقيق مقاصد العلم وتطبيقاته ، وغيرها من المباحث التي يمكن الاستفادة من أصول الفقه في العلوم الاجتماعية والإنسانية عند تجريد نظرياته ، وعرضه بصورة أخرى غير الصورة الموروثة فيها .
وتفصيل ذلك أن :
الفكر الأصولى لعلماء أصول الفقه الإسلامى قد انطلق لغرض معين حاول أن يضع علامات الطريق للوصول إليه ، ذلك أن المجتهد وهو من يستنبط الأحكام الفرعية من أدلتها التفصيلية يحتاج إلى تحديد مصدر أحكــام ، ثم بيان كيفية التعامل معها ، ثم بيان شروط الباحث، وهى الأمور التي ضمنها علماء الأصول في تعريف أصول الفقه ، بل كانت سبباً في إطلاق لفظ ( أصول ) بالجمع عليها . ولم تطلق كلمة أصل الفقه على ذلك العلـــم ، فمدرسة الرازى الأصولية تعرف ذاك العلم بأنه : معرفة دلائل الفقه إجمالاً وكيفية الاستفاده منها ، وحال المستفيد ( أي المجتهد).
2- الإجراءات والفلسفة تكشفان عن المنهج :
وإذا ما سرنا على أن المنهج إنما هو فلسفة تنبثق عنها إجراءات -وهو تعريف المنهج المختار عندنا - : تبين مدى العلاقة بين أصول الفقه وبين الفلسفة الإسلامية .
فأصول الفقه يشتمل بدون شك على بيان الإجراءات اللازمة للتعامل مع النص لفهمه ، والوصول إلى أوصاف الفعل البشرى ، وهي الأوصاف التي تدور في نطاق ما يسميه الأصوليون بالحكم .
فالحكم عندهم : ((هو خطاب اللّه المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع))(5) .
وله أقسام هي : الوجوب ، والحرمة ، والندب ، والكراهة ، والإباحة ، وهي أوصاف للفعل البشرى ، الذي يكون مبتدأ في جملة مفيدة ، والحكم خبر له ؛ فتتكون بذلك مسائل الفقه .
فموضوع علم الفقه : فعل الإنسان ، وموضوع علم أصول الفقه هو: الأدلة الإجمالية من حيث استنباط الأحكام منها .
وبدون شك فإن هذه الإجراءات التي يشتمل عليها أصول الفقه تخرج وتنبثق من رؤية كلية تمثل مباحث الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام .
يقول الإمام الزركشي في كتابه الجامع البحر المحيط مؤكداً عنصر الإجرائية في أصول الفقه ، والذي دعى بعضهم إلى ادعاء أن ذلك العلم من العلوم البينية ، التي لا تستقل بنفسها ، ويرد عليهم :
(( فإن قيل : هل أصول الفقه إلا نبذ جمعت من علوم متفرقة ؟ نبذة من النحو كالكلام على معاني الحروف التي يحتاج الفقيه إليها ، والكلام في الاستثناء ، وعود الضمير للبعض ، وعطف الخاص على العام ونحوه ، ونبذة من علم الكلام ، كالكلام في الحسن والقبح ، وكون الحكم قديماً، والكلام على إثبات النسخ ، وعلى الأفعال ونحوه، ونبذة من اللغة كالكلام في موضوع الأمر والنهي ، وصيغ العموم ، والمجمل والمبين ، والمطلق والمقيد ، ونبذة من علم الحديث كالكلام في الأخبار ، فالعارف بهذه العلوم لا يحتاج إلى أصول الفقه في شيء من ذلك ، وغير العارف بها لا يغنيه أصول الفقه في الإحاطة بها ، فلم يبق من أصول الفقه إلا الكلام في الإجماع والقياس والتعارض والاجتهاد، وبعض الكلام في الإجماع من أصول الدين أيضاً ، وبعض الكلام في القياس والتعارض مما يستقل به الفقيه ، ففائدة أصول الفقه بالذات حينئذ قليلة .
فالجواب : منع ذلك ، فإن الأصوليين دققوا النظر في أشياء من كلام العرب لم يصل إليها النحاة ، ولا اللغويون ، فإن كلام العرب يتسع والنظر فيه يتشعب ، فكتب اللغة تضبط الألفاظ ومعانيها الظاهرة ، دون المعاني الدقيقة التي تحتاج إلى نظر الأصولي باستقراء زائد على استقراء اللغوي .
مثاله : دلالة صيغة (( افعل )) على الوجوب ، و(( لا تفعل )) على التحريـــم ، وكون كل وأخواتها للعموم ، ونحوه مما نص هذا السؤال على كونه من اللغة لو فتشت لم تجد فيها شيئاً من ذلك غالباً ، وكذلك في كتب النحاة في الاستثناء من أن الإخراج قبل الحكم أو بعده ، وغير ذلك من الدقائق التي تعرض لها الأصوليون وأخذوها من كلام العرب باستقرار خاص ، وأدلة خاصة لا تقتضيها صناعة النحو وسيمر بك منه في هذا الكتاب العجب العجاب )) ا هـ (6) .
ويؤكد ذلك المعنى قبله السبكي في كتابه الإبهاج شرح المنهاج حيث يقول :
(( ... هذه التعريفات للأصل بحسب اللغة ، وإن كان أهل اللغة لم يذكروها في كتبهم ، وهو مما ينبهنا على أن الأصوليين يتعرضون لأشياء لم تتعرض لها أهل اللغة )) ا هـ (7) .
فمن هذه النصوص نتبين وجود الأدوات والإجراءات واتصالها وامتزاجها بالرؤية الكلية عند العقل المسلم وما قدمه من جهود علمية عظيمة تمثل بعضها فيما قدمه الأصوليون فى علم أصول الفقه .
3- أثر أصول الفقه على الفكر الإسلامى المعاصر :
كما سبق أن أشرنا، فإن علم "أصول الفقه" يمكن أن يُنظر إليه باعتبارات مختلفة: فهو علم، وهو عملية فكرية منهجية، وهو أداة في علوم أخرى، كما يمكن الاستفادة منه بالتأمل في مكوناته نفسها؛ من تعريفه، ومن نظرياته، ومن آليات التفكير في تكوينه عبر تاريخ ظهوره واستوائه، على النحو الذي تقدم.
إن علم "أصول الفقه" يقدم للباحث الاجتماعي مثلا طريقة لمنهجية التفكير العلمي. فأيّ باحث لابد عليه –إبّان بـحـثه- أن يقوم بعدة عمليات أو خطوات: أن يحدد مصادر البحث (الدلائل)، وأن يحدد مقترب البحث (الكيفية) أو النظرية التي يتبناها، وأن يحدد أدوات البحث، أدوات لكل العمليات البحثية: يحلل، يستنبط، يستدل، يستقرى ...إلخ، وأن يحدد الشروط اللازمة لإجراء البحث وكل هذه تختلف من علم لآخر في جزئياتها وإن اتفقت في كلياتها.
ومصادر البحث متعدد المستويات والأشكال؛ منها العلوم السابقة أو العلوم الخادمة التي تساعد في بناء قضية العلم الذي يدرسه، فالعلوم الاجتماعية والإنسانية متداخلة متساندة، ولا غناء لبعضها عن البعض الآخر. ومنها الجماعة البحثية أو العلمية، وهي التي يتحدد فيها ما يستمده الباحث من معلومات وروافد هذا العلم، ونظرياته ومقترباته التي يتم تطويرها.
ويمكن الـنّظر إلى تطور تكوين علم "أصول الفقه" على أنه عملية بحثية طرحت فيها إشكالية أولية (تساؤل رئيس) طرحت بدورها إشكاليات فرعية، كوَّنت دراسة علمية استقرائية واستنباطية شديدة العمق. بدأت بتساؤل حول قضية "الحلال والحرام" وتكليفات الشرع: كيف نصل إلى "الحكم الشرعي" في مسألة ما أو في المسائل عامَّة؟ كيف نحسم الخلاف بين أهل الفقه في "الأحكام الشرعية"؟ قالوا بالدليل والبرهان والحُجة ]قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ[- الآية64, سورة النمل، وهذا هو أصل العلم: الدليل.
فظهر عندهم مفهوم أو متغير مستقل اسمه (الدليل) يؤثر في متغير تابع اسمه (الحكم الشرعي). وهنا جاءت خطوة تعريف المتغير المستقل (الدليل) فعرّفوه بطريقة المؤشرات، ووجدوا أنه تجمعه مؤشرات أهمها: أن يكون حُجَّة، وأن يكون ثابتًا موثوقًا منه، أن يكون غير معاَرض بدليل آخر أو غير مرجوح، فإذا تحققت هذه الشروط أو المؤشرات فهو الدليل الذي يصدر عنه الحكم الشرعي.
لكن عملية إصدار الحكم الشرعي تقف على شروط (محددات تحليلية كما نراها في البحوث الاجتماعية، في تحليل السياسات والبرامج والأحداث وتحليل العمليات المختلفة، وهي تمثل الظروف التي تكون مواتية أو غير مواتية لإحداث المتغير المستقل أثره في المتغير التابع)، هذه الشروط منها:
- صحة فهم دلالة الدليل، فالدليل -عند الأصولي والفقيه- نص، والنص يتطلب أدوات خاصة في معالجته، أدوات اللغة وعلومها من النحو والصرف والبلاغة وفلسفة اللغة، وأدوات أخرى تتعلق بالعملية الاستدلالية أضافها الأصولي، كالتفرقة بين أحوال اللفظ والجملة، بين العام والخاص، والمطلق والمقيّد، والكلي والجزئي، والصريح والضمني، وأحوال الدلالات كالعبارة والإشارة، والإيماء والاقتضاء، وغير ذلك، واستفاد في ذلك من علوم أخرى كالمنطق العربي المكنون في اللغة، على ما أشير إليه قبل.
- التمييز بين حالة الظن (وتحكمه نظرية الاحتمالات والممكنات) وحالة القطع وأثرهما على العملية الاستدلالية، سواء كانتا في إثبات الدليل (أي توثيقه) أو في فهم دلالته. والباحث الاجتماعي الذي يريد أن يفسر واقعة ما أو واقعًا ما، لابد أن يميز بين المكونات المؤكدة للواقعة والمكونات محل الشك، ومن ثم يبني تفسيره الأساس على المؤكد دون الظنيّ، ويبني استشرافه لمستقبل الواقعة ومآلاتها على نفس الأساس، وإلا صارت مجرد تكهنات وميول نفس.
- وفي هذا يمكن أن نستفيد من آلية "الإجماع" التي أرساها علم أصول الفقه، وهي مطلوبة في كل العلوم. فبدون الإجماع تكون كل الأمور ظنية أو حمّالة أوجه، كما يقولون. فالإجماع فكرة قد تكون مهمة جدًا خاصة في "أخلاقيات العلوم الحديثة"، فمع تفشي السوفسطائية والغنوصية التي هي من أركان ما يسمى بـ"ما بعد الحداثة"، والنسبية المطلقة التي تدعو للخروج على الأخلاق العلمية، وإعطاء تقريرات في العلم تكون عكس ما هو ماثل بشكل ديماجوجي، في هذه الأحوال لابد من ضابط.
هذا الضابط سماه الأصوليون "الإجماع"، ويمكن أن يُسمىَّ في كل علم باسم مختلف: "الأخلاق العلمية"، "ما استقرت عليه الجماعة البحثية"، "الشائع في الجماعة العلمية"... وهذا يمثل المطلق و"الثابت" في كل علم، ويعد أرضية أساسية ومظلة مشتركة لأهل العلم: علمائه وطلابه.
- التميز بين أنواع الأدلة ومستوياتها ودرجاتها، وعدم الاحتجاج بدليل على دليل أقوى ثبوتًا ودلالة. وذات الأمر في البحث الاجتماعي النظري، فلا يحتج على مسألة نظرية بآراء غير ثابتة أو بنصوص مشوشة الدلالة أو متعددة التأويلات. وكذلك في المسائل العملية (الإمبريقية) تُقدم الدلائل الأثبت في تكوين الظاهرة وتفسيرها، ويتحرك في المستوعب منها، ويكبح جماح البتّ في مسائل متوهمة أو هناك ما يعارضها واقعيًا معارضة حقيقية.
- وهنا يقدم علم أصول الفقه للباحث آلية مهمة تسمى "فك التعارض" و"الترجيح" بين المتعارضات تعارضًا ظاهريًا، وهي في حالة الباحث الاجتماعي توجّهه لإعادة قراءة النصوص المتعارضة، أو إعادة رصد الظاهرة المستجدة، أو إعادة النظر في القاعدة السابقة والفرضية المطروحة. فإما أن يرجح القاعدة (الفرضية)، وإما أن يرجح ما كشفت عنه الظاهرة المستجدة بما يشكك في مصداقية الفرضية… وإما أن يمكنه الجمع بين الأمرين حين يكون التعارض لعلة غير أصيلة (عارضة) وهكذا ….
- ومن منهجيات أصول الفقه التي يمكن أن يستفيد منها البحث العلمي مسألة "الإلحاق"، والتي يسميها البعض "القياس"، والأولى أشمل، كما سبق بيانه. والإلحاق يحتاج إلى دراسة معمّقة لتفعيله في العلوم الاجتماعية، حيث يمكن أن يحقق التراكم العلمي، ويسهم في توليد المسائل الفرعية على الأصول والإثراء العلمي والتواصل.
والإلحاق يقتضي اعتراف الجماعة العلمية بأصول ثبتت، وقضايا تراست وقع "الإجماع عليها"، ويقتضي الاعتراف بقضايا أخرى (متغيرات) تستجد، ويتم قياس المستجد على القديم وإلحاق الفرع بالأصل. وهذا يتطلب أيضًا دراسة "عملية" الإلحاق وخطواتها في الكشف عن العلة وتحقيقها وتنقيحها، وإدراك المناط بعمليات السبر والتقسيم، والتي يمكن تطبيقها على الظواهر الواقعية (الإمبريقية) عند استخراج المؤشرات والتحقق منها، وتنقيح هذه المؤشرات حتى تكون فعلاً دالَّة على المتغير (الظاهرة) في الحالات المختلفة.
إن هذه الطريقة أولى بالرعاية؛ حتى تمكن للعلوم الاجتماعية من أن تكون لها أصول وفروع، وعمليات بناء وتشييد، كما جرى على الفقه الإسلامي حتى صار كيانًا مشيدًا وبنيانًا متينًا.
فمثلاً "النظام الديمقراطي" له مؤشرات ثابتة تمثل "أصوله"، فإذا كان ثم قاعدة في العلوم السياسية أجمعت عليها الدراسات (أن النظام الديمقراطي أميل إلى الاستقرار الداخلي والمسالمة في الخارج) مثلاً، فإنه في حالة ظهور نظام ديمقراطي في دولة ما، سيُحكم أو يُقرر أنه سيكون أميل للاستقرار والمسالمة، لكن لابد من التحقق من "ديمقراطية" هذا النظام، وهذا ما تقدمه أدوات تحقيق وتنقيح المناط في نظرية الإلحاق.
وكل ذلك يسمى -في نظرة الأصوليين- عمليات اجتهادية، قابلة للإصابة وقابلة للخطأ، وتنتهي بالخلاصة أو النتائج (نتائج البحث Conclusions)، والتي تسمى عند الأصولي "الحكم" (وهو جملة عامة غير نازلة على واقع) أو "الفتوى" (حين تتعلق بواقعة محددة).
وهذا العرض لأصول الفقه وإمكانياتها في إفادة العلوم الاجتماعية لا يقدم قالبًا جامدًا، بل هو معينِ يمكن أن يستفاد منه مع إمكان الزيادة والإنقاص والتغيير، بطرائق منهجية مختلفة. هذه إطلالة أو نظرة عامة، لعلنا نستفيد منها، وهي لا تمنع من أن تكون هناك الاستفادة العكسية؛ أي من العلوم الاجتماعية لأصول الفقه، سيما في مسألة إدراك الواقع كجزء من نظرية الإفتاء.
المصادر والمراجع :
------------------------------
1) المحصول للرازى (فخر الدين محمد بن عمر ، ت606هـ) ، تحقيق د. طه جابر العلوانى ط جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، ط1 ، 1399هـ /1979م .
2) منهاج الوصول إلى علم الأصول - القاضي البيضاوي ، مصر ، المكتبة التجارية .
3) فتح المغيث ، للسخاوى (شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن محمد الشافعى المصرى ، ت 902هـ) ، تحقيق علي حسين علي ، ط1 ، مكتبة السنة 1415هـ/1995م .
4) الفِصَل فى الملل والنحل لابن حزم (على بن بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهرى الأندلسى ، ت456هـ) ، وبهامشه الملل والنحل للشهرستانى ، مصورة مكتبة السلام على ط محمد على صبيح ، 1348هـ .
5) الإبهاج لآل السبكى (تقى الدين على بن عبد الكافى السبكى الشافعى ، ت 756هـ ، وابنه تاج الدين عبد الوهاب بن على الشافعى ، ت 771هـ) ، مطبعة التوفيق الأدبية .
6) الحكم عند الأصوليين ، للدكتور على جمعة ، دار الهداية ، 1414هـ/ 1993م .
7) البحر المحيط ، للزركشى (بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الشافعى ، ت794هـ) ، دار الكتبى ، ط1 ، 1414هـ /1994م . وط وزارة الأوقاف بالكويت ، ط1 ، 1419هـ/ 1988م .
الهوامش:
--------------------
(1) المحصول فخر الدين الرازي جـ 1 ق1 ص 94 جامعة ابن سعود .
(2) منهاج الوصول إلى علم الأصول - القاضي البيضاوي ص1 المكتبة التجارية .
(3) فتح المغيث للسخاوي جـ1 ص 36 ،37 مكتبة السنة .
(4) الفصل ابن حزم جـ 2/83 التجارية .
(5) الحكم عند الأصوليين ، على جمعة ، ص 39 ، دار الهداية .
(6) البحر المحيط للزركشي جـ1 ص 13/14 وزارة الأوقاف الكويت .
(7) الابهاج لابن السبكي جـ1 ص11 مطبعة التوفيق الأدبية .
المصدر : أصول الفقه وعلاقته بالفلسفة الإسلامية ، لفضيلة مفتى الديار المصرية ، أ . د على جمعة .