هل هناك لغة مقدسة؟ وما معنى قداستها؟ وإلى أي مدى نتمسك بتلك القداسة؟
1- اللغة المقدسة عند علماء اللغويات توصف بها اللغات التي بها نصٌّ مقدس له أتباع يأخذونه مصدرًا لمعرفتهم وأحكام حياتهم، أو إطارًا لسلوكهم، وبهذا التعريف فإن اللغة العبرية التي كُتبت بها «التوراة»، واللغة السنسكريتية التي بها كُتب «الفيدا»، واللغة العربية التي بها نزل وكتب «القرآن الكريم» هي لغات مقدسة، قال تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(1)، وقال تعالى: { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ }(2)، وقال سبحانه: { قُرْآناً عَرَبِياًّ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }(3)، فلا يقبل الناطقون بهذه اللغات والذين آمنوا بمرجعية هذه النصوص أن يتركوها لا للتطور ولا للتدهور، ولا يغيرون فيها دلالات الألفاظ، ولا وسائل الفهم من نحو وصرف؛ حيث إن استنباط الأحكام من النص يقتضي ذلك، وهذا مبنيٌّ على أن اللغة لها وظيفتان: الوظيفة الأولى هي الأداء، وبها يعبر المتكلم عما في ذهنه من معان بألفاظ لها دلالة متفق عليها بين أهل اللغة الواحدة؛ حيث وضعت هذه الألفاظ مقابل هذه المعاني، وواضع ذلك عند بعضهم هو الله؛ قال سبحانه: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا }(4)، وعند آخرين هم البشر، وفريق ثالث يرى أن أصول اللغات وقوانينها من عند الله، وأن الألفاظ المولدة من وضع البشر، وليس هذا مهمًّا الآن، ولكن المهم أن الوضع - بمعنى جعْل الألفاظ بإزاء المعاني - أمر لابد منه حتى يتم التفاهم بين البشر؛ وذلك أن المتكلم يقوم بنقل المعاني التي قامت في ذهنه إلى السامع الذي يحمل هذه الألفاظ على مقابلها من المعاني التي سبق للواضع أن تواضَعَ عليها، وبذلك الحمل من السامع تتم الوظيفة الثانية للغة، وهي وظيفة التلقي.
فتحصل عندنا ثلاث عمليات: الأولى الوضع، والثانية الاستعمال، والثالثة الحمل؛ حتى قال علماء أصول الفقه: إن الاستعمال من صفات المتكلم، والحمل من صفات السامع، والوضع قبلهما.
ويرى بعض الناس من مدارس ما بعد الحداثة أن عملية الوضع ينبغي أن تكون مرنة لا تتقيد بالموروث، ولا يقتصر هذا المفهوم على اتساع اللغة طبقًا لزيادة مساحة عالم الأشياء، والأشخاص، والأحداث، والأفكار، والنظم؛ وهو الاتساع المتفق عليه نظرًا وعملا، بل مقصودهم تغيير دلالات الألفاظ بحيث تزداد مساحة الحرية الفكرية، وترى بعض المدارس المتطرفة من مدارس ما بعد الحداثة أن هناك خمسة أشياء يجب أن تزول حتى يستطيع الفكر البشري أن يبدع، وأن ينطلق بدون أي عائق وهذه الخمسة هي: الثقافة، والدين، والأسرة، والدولة، واللغة.
فرفع سلطان الثقافة السائدة أمر سيؤدي إلى الاتجاه نحو «النسبية المطلقة» التي تدعو هذه المدارس الفكرية لتبنيها، والتحرر من سلطان الدين قد تم من قبل في الحضارة الغربية، والأسرة أصبحت تطلق عندهم على أي اثنين، فلم يعد المعنى: زوج وزوجة وابن وابنة وأب أم... عائلة، نفس المعاني التي ورثناها عمن قبلنا، ويعدون هذا من المعاني المعجمية، أي التي وجدناها في المعجم اللغوي، ومن هذا المدخل أصبح الشذوذ الجنسي - الذي لُعن عند عقلاء البشر دع عنك الأديان كلها - من حقوق الإنسان.
ورفع سلطان الدولة وأن يستبدل بها الجمعيات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني - يحتاج إلى تغيير النظام القانوني والاجتماعي، بل قوانين الفكر والنموذج المعرفي والإطار المرجعي.
أما إنهاء سلطان اللغة فهو أمر مفزع حقًّا، ويحضرنا نقل من كتاب الأستاذ شريف الشوباشي «لتحيا اللغة العربية» حيث يقول في ص24 ما نصه: "وبالإضافة إلى دورها الأساسي كوسيلة وحيدة لحفظ التراث وانتقاله عبر الأجيال، فإن اللغة هي أحد أهم العناصر المكونة للحضارة وللهوية الإنسانية في كل مكان. وأول اتصال بين الإنسان وآخر يتم عن طريق اللغة؛ ويحتاج الزعماء ورجال السياسة والاقتصاد إلى مترجمين للتفاهم، ولولا هؤلاء المترجمون الذين يجيدون أكثر من لغة لكان التفاهم صعبًا للغاية إن لم يكن مستحيلاً؛ فاللغة هي الأداة الأساسية للتفاهم، لكنها أيضًا الوعاء الذي يتبلور فيه فكر الإنسان ورؤيته للحياة؛ وبالتالي فإن اللغة هي العنصر المُشكِّل للثقافة وللفكر والفلسفة والآداب" وهو يؤكد ما نعتقده في شأن اللغة.
2- وعند هؤلاء الحداثيين وظيفة اللغة هي التلقي فقط، ومعنى هذا أن السامع يحمل الكلام على ما يشاء من معنى، بغضِّ النظر عن مراد المتكلم من كلامه، وبذلك يُفتح باب التأويل من غير ضابط ولا رابط، ونصل إلى النسبية المطلقة؛ حيث يفهم كل سامع ما يشاء أن يفهم ولا ينظر إلى حمل الكلام على ما وضع له، ولا إلى حمله على مراد المتكلم، وكأنه يتمثل بقول المتنبي في قصيدته «الخيل والليل»:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جرَّاها ويختصم
3- واللغة المقدسة في العربية تحتاج منا إلى إدراك إحصاءات تبين حقائق قد لا يلتفت إليها كثير من الناس، فيكثر اللغط والجدال على أمور قد نكون متفقين عليها، أو يجعلنا ننزّل القطعي منزلة الظني، والظني منزلة القطعي؛ فيختل ميزان العدل الذي أُمرنا به في كل جزئيات حياتنا وقضايانا.
4- جاء القرآن ليهذب لغة العرب التي كانت مليئة بالغرائب ووحشي الكلام، وأذكر شعر ابن المطهر الحلي حيث يقارن بين القديم والجديد في لغة العرب، ويظهر من ذلك مدى تهذيب القرآن للغة العرب:
إنما الحيزبون والدردبيس والطخا والنخا والعلطبيس
لغة تنفر المسامع منها حيث تتلى وتشمئز النفوس
أين قولي هذا كثيبٌ قديم ومقالي عقنقل قدموس
5- وألفاظ القرآن نحو 1810 لفظة تمثل جذور الكلمات القرآنية، في حين أن معجم «لسان العرب» لابن منظور نحو ثمانين ألف مادة - أعني جذرًا -، أي أن جذور القرآن تمثل نحو اثنين في المائة (تمامًا 2.25%) من جذور لسان العرب، والجذور الواردة في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم هي 3600 جذرًا، أي ما يمثل (4.5%) من لسان العرب، والقرآن أصغر نص مقدس، وعدد كلماته نحو 66 ألف كلمة، منها 1620 كلمة لم ترد في القرآن إلا مرة واحدة، ويقول بعضهم: إن الأديب الروسي "تولستوي" لم يكرر 4 كلمات في كتابه "الحرب والسلام"، فعُدّ ذلك من بلاغته وتمكنه اللغوي، فإذا صح ذلك، فإن هذا التفرد في القرآن الكريم بهذا العدد الضخم من الألفاظ غير المكررة يكون معجزة بمعنى الكلمة تضاف إلى وجوه إعجازه التي تخرجه عن نظام كلام البشر.
6- إن هذه الحقائق تجعلنا نذهب إلى أن هناك لغة مقدسة، ولكن هذه اللغة المقدسة يجب الحفاظ عليها في حدود النص المقدس حيث نحتاج إليه، وفي حدود أدوات فهمه على مستوى ألفاظه ومعانيه، وعلى مستوى تركيباته ودلالاتها المختلفة، وعلى مستوى سياقه أيضًا، وأن تطوير اللغة وارد، ولكن بصورة لا تفقدنا الاتصال بالتراكم المعرفي التراثي من ناحية، وأن تكون وعاءً قادرًا على انطلاق الفكر بكل جوانبه؛ العلمي والحسي والتجريبي وحتى الفكر الفلسفي، وإعمال العقل؛ ليبقى الإنسان إنسانًا يقوم بواجبه من عبادة الله، وعمارة الأرض، وتزكية النفس، وأن هذا التغير يجب ألا يمس أيضًا ثوابت البشر، وأن يكون في سعته متسقًا مع الاتساع الطبعي الذي هو من سنن الله في كونه: { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ }(5)، ولابد أن نعي أيضًا في أثناء عملية الاتساع مآلات المدارس المتطرفة لما بعد الحداثة، التي انتشرت في عصرنا، وغايتها لا تتفق مع رؤيتنا للعالم، ولا مع مقررات ديننا وأسس حضارتنا وتاريخنا، وأن يكون تعاملنا مع اللغة بناء لا هدم فيه.
7- وهذه الحقائق أيضًا تجعلنا نذهب إلى عدم قدسية اللغة، وأن هناك فارقًا كبيرًا بين اللغة المقدسة التي يجب الحفاظ عليها من أجل فهم النص، وبين قدسية اللغة التي تمنع من اتساعها وقيامها بواجب عصرها وزمانها، ويذكِّرنا هذا الفرق بقصيدة حافظ إبراهيم في شأن اللغة؛ حيث يقول وهو يعرِّف قدرتها على البقاء ومسايرة التطور:
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي وناديت قومي فاحتسبت حياتي
رموني بعقم في الشباب وليتني عقمت فلم أجزع لقول عداتي
ولدت ولما لم أجد لعرائسي رجالا وأَكْفَاء وأدت بناتي
وسعت كتاب الله لفظًا وغاية وما ضقت عن آي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلةٍ وتنسيق أسماء لمخترعات
الهوامش:
-----------
(1) الآية 2 من سورة يوسف.
(2) الآية 195 من سورة الشعراء.
(3) الآية 28 من سورة الزمر.
(4) من الآية 31 من سورة البقرة.
(5) من الآية 53 من سورة فصلت.
المصدر : كتاب سمات العصر ، لفضيلة مفتى الديار المصرية الدكتور على جمعة .