بتـــــاريخ : 6/6/2008 3:05:06 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1564 0


    وفي مسعاهم عبرة

    الناقل : العلا | العمر :36 | الكاتب الأصلى : د. سعد الدريهم | المصدر : islamtoday.net

    كلمات مفتاحية  :
    مقالات سياسة مجتمع حضارة


    عندما يستمع العاقل شيئاً جديدًا لم يعهده من قبل؛ فلا ريب أنه خطا خُطوة نحو بلوغ العقل منتهاه، وربما قاده ذلك لتجنُّب أخطاء الماضي، أو قناعاته التي ربما كانت مسلمة من مسلّماته التي لا تقبل الذكر فضلاً عن النقاش؛ لأنها قد اكتملت نضجاً في فكره، وزادتها السنوات رسوخاً في أعماقه، حتى صارت مرجعية لا يشوبها شك. وهكذا حال كل واحد منا مع ما يختزنه من أفكار ورؤى؛ فهو وإن رغب في النظر فيها تقويمًا وتهذيبًا، أتته تلك النزعة الذاتية فأبعدته عن هذا المسار العقلي؛ لتقول له: إن الخير كل الخير في نتاجك الفكري والعقلي؛ فلا تلتفت عنه إلى غيره، ولو كان فاسد التصور والتفكير؛ ولهذا لا ترى منه تقدّمًا، ولا تلحظ إلاّ شططًا، حتى غدت ثقافة الأمة ركامًا مما خلّفه السابقون، والسبب في ذلك الاحتكامُ إلى تلك التصورات البالية، التي لا رصيد لها من التوفيق، إلاّ أنها مما ورثه المرء من دفاتر القدماء الذين يحظون من أتباعهم بتقدير يصل إلى حد العصمة والحصانة من النقد، فهلك التابع والمتبوع بسبب تلك الأوهام والظنون التي تفشت في سياقات التفكير العربي، وإن الظن –وربي!- لا يغني من الحق شيئًا. وفي خضم تلك المأساة ضاعت الحقائق وعُطّلت العقول، واجترت الأمة المآسي والشرور قرونًا متعاقبة، وانحدرت إلى التخلّف، وتأخّرت عن ركب التطور والحضارة الإنسانية القائمة على قانون الفكر المنضبط، القائم على الحجة والبرهان والدليل. وليس من المنتظر في بداهة العقل أن تكون أمة قد تلبّست بالطاعة والتسليم لكل ما يأتيها دون تمحيص أو نظر أو نقد بنّاء، أن تنضج أو تنهض، والشوك لا يثمر عنباً، ولا ينتج خيراً!
    إن الأمة -أيًّا كانت- لا تتقدم ولا تستشرف المستقبل إن لم تنقد موروثها نقداً صحيحاً، ولا أقصد-بالطبع- الموروث الإلهي أو النبوي؛ لأنه لا يأتيه باطل، ولا يلحقه شك، ولا يحوي خطأ، بل له التقديم والصدارة في كل شأن من شؤون الأمة، ولكني أقصد –آسفًا- الموروث العقلي الذي خرج من جماجم المفكرين والدعاة والساسة، وله سابقة في توجيه الأمة، فقد غدا هذا الموروث عند قطاع ضخم من الأمة مصدر إلهام يتلقاه المتأخر عن المتقدم تلقي التسليم والخضوع، حتى أضحى بتقادم العهود أساسًا من أسس النهضة الحديثة، وسبيلًا للتقدم؛ مما حرم الأمةَ -بسوء التقدير- تقدمًا كان من الممكن أن يغير مسار التاريخ الحضاري لأمتنا العربية الإسلامية.
    إن الحراك الأممي في أي أمة من الأمم، يحتاج إلى عقول مفكرة ومدبرة، يدعمها حراك واعٍ من شباب الأمة ومثقفيها، يخرج هذه الأفكار من ميدان التصور إلى ميدان الواقع، ويطرح بعد ذلك ما خالف هذا التوجه. وهذا الأمر تدل عليه حقائق التاريخ وشواهد الواقع؛ فقد قامت أمم الأرض بهذا من حولنا، مما هيأ لها مكانًا مرموقًا في ركب الحضارة الإنساني، وخالفناه نحن فصرنا إلى ذلك التعثر المنهجي في زوايا حياتنا كلها، من انعزالية الطرح، ووحدة التوجّه، وأحادية الفكرة التي لا تقبل تغيراً ولا تعديلاً ولا تعددية، وقد قيل من قديم: رأيان خير من رأي.
    والنظر في سيرة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يرى قبوله لتعدد الآراء والأطروحات ما لم تكن إثماً، وكثيراً ما يرى صلى الله عليه وآله وسلم في مواطن الحسم في تاريخ الأمة أشياء؛ فيأتيه من يأتيه من آحاد المسلمين ويقول له: أمنزل أنزلكه الله فلا نتقدم عنه ولا نتأخر؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فيقول له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة"؛ فيشرع الرجل في طرح فكرته، وبيان رأيه فيما يحسبه الأنسب في مثل هذا الموطن، فينزل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عن رأيه، ويأخذ بالطرح الآخر لأنه الأنسب والأكثر فائدة، فكان التقدم سمت هذه الأمة وعلامة عليها.
    وقد ورث منه أصحابه رضوان الله عليهم هذا النهج الأمثل في النظر إلى الأشياء وتقويم الأمور، ففي سيرة عمر -رضي الله عنه- أنه أراد تخفيف المهور ليرفع المشقة عن المتزوجين؛ فتقول له امرأة من عُرض الناس: ليس ذلك لك يا عمر، والله تعالى يقول: (وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً).[النساء:20]؛ فكان الإذعان من عمر دليلًا على تكامل نظرة العقل المسلم، وعدم انغلاقه على أطروحات ذاتية ربما لم تقم على دليل صحيح.
    الأمة تحتاج أشد الحاجة في هذه الأزمان إلى عقول مفكرة تنهض بالحجة في مواجهة الحجة، وتحتاج أكثر إلى من يأخذ بنتاج تلك العقول، ويبلورها حتى تصير منهجاً تتواءم عليه النفوس وتنهض به الحياة من جديد.
    ولكن الأمة تفتقد في الوقت الراهن هذين المقومين؛ لذا فهي تتخبط في سيرها، ولو تتبعنا ثمرة المسلكين واقعاً فلن نعدم المَثل.

    إن العمل الحركي الإسلامي يتقاسمه نهجان:
    - نهج أخذ بزمام المبادرة العسكرية، فهو يرى أن تغيير الأوضاع يكون بالقتل والقتال، وتجييش الأمة في هذا السبيل.
    - والنهج الآخر رأى المسالمة وتحكيم لغة العقل هو السبيلَ الأمثل للأخذ بالأمة إلى الدين والإيمان، وهذا هو الهدف الأسمى لكل عمل حركي فردي أو جماعي.
    ولا بد من قراءة متأنية للوقوف على النظرة الصائبة في زخم هذه التصورات.
    فإذا ما نظرنا إلى من اتخذ من لغة العقل والتفاهم مسلكًا، نجد أنهم هم الذين اعتلوا هرم القيادة في الأمة فترة طويلة؛ أعني الأتراك، فقد سقطت الخلافة في تركيا على يد من أخذوا بالمعالم العلمانية وحكموها في شؤون الحياة سبعة عقود، وكانت حملة شرسة غير مسبوقة- إلاّ بما كان في الأندلس قديماً- تضادّ المنهج الإسلامي تصوراً وسلوكاً وطريقة، فغرقت تركيا في ليل طويل من التهميش، إلاّ بقية ممن أراد الله بهم الخير، وهم قليل، وكانت تلك القلة على خطر عظيم يتهددهم؛ بالقتل تارة وبالتشريد أخرى، ولكن هناك فئة بالصبر، والرفق، والهدوء، واللِّين، وحسن التأتي، وسلامة التصور، احتكموا إلى العقول، وحفزوا النفوس على المراجعة؛ وبعد طول جهاد في الدعوة والسياسة عادت العقول إلى مبدئها الأول، وإلى طريقها الصحيح، وآبت العقول الناضجة من الشباب إلى الله تبارك وتعالى بعد أن كان الحضور قاصراً على الضعفاء والشيوخ، وشيئاً فشيئاً ازداد العدد، وكثر الجمع، ووجدت الفكرة لها حملةً يصبرون على حملها؛ فالتفتوا يمنة ويسرة؛ ووجدوا العوالم حولهم تُقاد بلغة الحوار والكلمة؛ فسايروا تلك العوالم لغتهم؛ فناقشوا وطرحوا فكرتهم، وقرّبوا المفاهيم إلى الناس، وأصلحوا، وأعلوا من رابطتهم الوطنية غيرة على أمتهم، حتى صاروا حديث الناس في منتدياتهم واجتماعاتهم، وراقت الفكرة للكثيرين، ونُودي بتعميمها في تلك الديار، وبعد أن رأى المصلحون إقبال النفوس عليهم، نهضوا إلى تحقيق الغاية في نشر الإسلام بين الناس، وتطبيق منهجه، ولم يكن ذلك منهم إلاّ بالعقل؛ فانبروا للعمل البلدي، واكتسحوا المجامع البلدية في المدن التركية؛ فكانوا على قرب من مشكلات الناس التي عملوا على علاجها، ولم يكن ذلك أمراً يسيراً سهل المنال، بل كان عملاً دائباً بالليل والنهار، ذا نتائج مؤثرة في الناس. وبعد ذلك النجاح والتأكد من متانة القاعدة الشعبية في نفوس الجماهير؛ انبروا للانتخابات النيابية؛ فاكتسحوا أغلب المقاعد النيابية؛ وانعكس تأثيرهم على سياسة البلد وتوجهاته. وارتقى بهم الحال حتى كان منهم رئيس الوزراء، وتعرضوا لهجمة عنيفة من المكر العلماني الذي يهدف إلى إزاحتهم، وتحطيم مكاسبهم، وواجهوا ذلك كله بالعقل لا بغيره؛ فخرجوا من مضايق السياسة ومن فخاخ المكر بالصبر العاقل والفكر الرشيد، وها هي ذا المرحلية والصبر تقودهم إلى قصور الرئاسة بالعقل والحكمة.
    والمتتبع لما يحدث في تركيا يلحظ أنهم يراعون دائماً المصلحة العامة، فلما أحسّوا بصدام وشيك مع قيادة الجيش العلماني، قاموا بسحب ترشيحاتهم لذلك المنصب بداية، على أساس أنهم خسروا جولة ولم يخسروا المعركة.
    وهذا شاهد على الأثر الكبير للعقول في صناعة الحياة، واجتناب الفساد، والبعد عن الشر وعواقبه المنفلتة.
    والجانب الآخر من زاوية النظر يطلّ بنا على رافعي الحراب في وجوه أقوامهم بالإفساد والتهديد والقتل، كما هو حال التنظيمات الجهادية في بلادنا العربية؛ فلا تزال العقول لديهم في عطلة وقد تراكم عليها الصدأ؛ إذ يديرون حراكهم الذي يطمح للتغيير بأفكار بائدة تسيطر عليها طموحات القوة والهيمنة؛ فأفسدوا من حيث أرادوا الإصلاح، ولم ينتفعوا بشواهد الأحداث ووقائع التاريخ، مما حال بينهم وبين التمكين؛ الذي لا يكون بالعواطف ولا بالحماسيات؛ فمنذ أن عرف السلاح طريقه الخاطئ إلى أدمغة الناس والأمة تعاني ما تعاني من أولئك الذين نصبوه حاكماً في الرقاب والعقول. و لو استمر ذلك السنين الطوال ما حقق شيئاً ذا بال؛ لأن القلوب بدأت تمقتهم؛ لتشويههم صورة الإسلام، ورسمها بالدماء والأشلاء، حتى انطبعت في النفوس التي لا تعرف الإسلام دامية مخيفة.
    وهذا مشاهد ملموس في جميع قطاعات المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية منها، حتى أرهقوا الأمة، وبدّدوا قواها.
    وهذا كله لأنهم لا يسيرون إلى غايتهم بالعقل الوضاء، و الفكر المبني على المرحلية والأناة، بل يريدون التغيير الآني الفوري، ولا سبيل عندهم في ذلك إلاّ سبيل القوة وحده!
    وهذا مفارق لسنن الله في كونه، ولكنهم مصروفون عن تدبر هذا وتفهمه. وليس بخافٍ على أحد ما يحدث في فلسطين والصومال وأفغانستان نتيجة هذا الفكر المبتور، الذي يناقض الهدي النبوي وما كان عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فقد جمعوا تغييب العقل وضلال الاتباع، فاستنفدت الأموال وهلكت النفوس، ولم نجنِ من هذا كله إلاّ زراية الأمم.
    إن العجب يمتد من تأمل أفعال أولئك الذين لم يدركوا من الإسلام إلاّ ذلك الجانب، ولم يعلموا أن الإسلام هو الدين الذي يتلاءم والنفوسَ على اختلاف تقلّبها وتوجّهها، ولكن يحتاج لمن يحسن فهمه والإحاطةَ بجوانبه، والغوص إلى درره. ولا يملك المرء إلاّ النصيحة لكل من أبصر وأراد النهوض بهذه الأمة، أن يتقي الله، وأن يلزم النهج السوي في التعامل مع الأحداث أخذًا وردًّا بالنظر الهادئ، والطرح المتزن، والرؤية السديد
    ة.

    كلمات مفتاحية  :
    مقالات سياسة مجتمع حضارة

    تعليقات الزوار ()