يذكر التاريخ الموثق - والذي يشهد عليه عشرات الآلاف من المستثمرين والذين لا يزالون يذكرونه ويعاصرونه- أنه كان في أواخر القرن الماضي(1995-2000) فترة نمو وازدهار اقتصادي ومالي غير متوقع، ولم يسبق أن مر على الأسواق المالية طفرة مثل طفرة الاتصالات والإنترنت، فقد ظهرت شركات كبيرة وعديدة، وتكاثرت بسرعة كبيرة واشتهرت ونالت إقبالا منقطع النظير، وكانت أسهمها تباع بأغلى الأسعار، وكان الطلب لا يتوقف عند حد، بل إن بعض الشركات الجديدة فاقت قيمتها الكثير من شركات التصنيع القديمة والتي لها أصول ملموسة ولها بضائع معروفة، ومع ذلك فإن هذه الشركات الجديدة غير منظورة السلعة كانت الأكثر استجلابا للمستثمرين. وخلال هذه الفترة كانت النصيحة التي يرددها جميع الخبراء الاقتصاديين للمستثمرين وخاصة الحديثي عهد بالاستثمار بأن عليهم التنويع، وأن لا ينصرف اهتمامهم واستثماراتهم في مكان واحد من قطاع الخدمات الجديدة.
شراهة المستثمر
إن المشكلة التي واجهت خبراء الاقتصاد هي عدم قناعة المستثمر المبتدئ بنصائحهم، لأن إقدامهم على الاستثمار كان نتيجة رغبتهم في تحقيق أرباح وثروة من هذا التيار الذي يرمي بالملايين لكل مشارك فيه.
وإن أي إنسان تخيره بين أسهم ترتفع أسعارها يوميا وبين أسهم شركات قد لا يزيد الارتفاع فيها والعائد منها سوى 5% مما تقدمه الشركات الجديدة، سيختار وبدون تردد شراء أسهم الشركات النامية، على الرغم من المحاولات لتوضيح الأخطار المترتبة على الاندماج والانغماس في الكسب من هذا النمو غير الطبيعي والذي حدث أول مرة في التاريخ المالي للاستثمار، إلا أن الجميع يرغب في الاكتساب من هذه الفرصة النادرة.
ويشبه الخبير المالي (مارك ريب Mark Riepe) في مركز شواب للاستثمار (أحد بيوت المال الشهيرة بأمريكا) عملية الاستثمار المتنوع فيقول: هي كأكل الخضار، قد لا تعجبك ولكنها مفيدة لك، وأما عن الاستثمار في أسهم شركة واحدة أو معينة فأنها مقامرة خطرة أكثر من كونها مغامرة واستثمارا.
ويقول إن من يظن أنه سيكون بل جيتس آخر(صاحب شركة مايكروسوفت العالمية) يكسب البلايين، فيجب عليه أن يعلم أن هذه حالات شاذة في التاريخ، ولا يمكن أن تكون لكل من حاول أو عمل من أجل ذلك.
اتبع النصيحة
يقول مارك ريب: إن المشكلة التي تواجه المستثمرين هو الرغبة في استغلال الفرص النادرة، أو البحث عن ثروة من السماء، ويعتقد الكثيرون بأن حدسهم غالبا ما يكون صائبا. ويؤكد أن هذا الحدس كثيرا ما يخيب، بسبب أن الحدس مبني على الرغبة في تحقيق ثروة كبيرة، فينصرف التفكير إلى تحقيقها، ويرى المستثمر أن طريق الثروة هو ما يفعله وما يدله عليه تفكيره، وأن الثروة تحتاج إلى المغامرة والجرأة وهو هنا يقدمها، وغالبا بل إن نسبة تصل إلى 80% من هذه المغامرات الجامحة تنتهي لغير صالح المستثمر.
يقول الخبير المالي إن النصائح التي يقدمها رجال المال للمستثمرين هي نتيجة دراسة الأحوال الاقتصادية والمالية على مدى زمن طويل، ومع معرفة نتائج تفاعلات الظروف المختلفة مع بعضها، فالاقتصاد والمال والصناعة والسياسة والحياة الاجتماعية تصنع شبكة مترابطة من العلاقات، كل منها له طرف يشد الآخرين إليه، لذا فإن النصيحة التي يقدمها رجال المال وخبراؤه هي نتيجة علم تأثير هذه الأطراف على بعضها، وقوة كل منها في ظروف معينة أو في بيئة أو زمن معين، وليس نتيجة حدس ورؤية.
ويقول إن الخبراء ليسوا جميعهم معصومين من الخطأ، ومثلهم مثل الأطباء الذين قد يخطئون بالتشخيص، ولكن هذا لا يعني عدم الذهاب إلى الطبيب.
لذا فإن النصيحة التي يوجهها الخبراء هو بأن تكون الاستثمارات في أنواع مختلفة من الأسهم والسندات، وينصح الكثير منهم بأن تكون التشكيلة تحتوي على عشرة أنواع مختلفة من الأسهم والسندات في قطاعات منوعة. ومن الخطأ الكبير حصر الاستثمار في شركة واحدة أو قطاع واحد، وإن نظرية التركيز وعدم تشتيت المال لا ينطبق على هذا النوع من الاستثمار للمال، وهو خاص غالبا باستثمار المدخرات الشخصية للفرد العادي. فكلما تنوعت حافظة الاستثمار كلما كان ذلك أكثر أمنا للمستثمر على ماله، بل وإن التحليلات المالية للمحافظ المتنوعة هي الأكثر نموا من غيرها.
البحث عن الثروة في مكان آخر!!
وفي مقالة كتبها فريد بارباش ( Fred Barbash )، الخبير الاقتصادي في جريدة واشنطن بوست، ذكر بأن فكرة الاستثمار في السندات والأسهم هي للمحافظة على المال الذي يوفره الأشخاص لأيام الكبر أو للأيام الصعاب، لذا فإن الفكرة ليست تكوين ثروة وطفرة، بل هي للمحافظة على هذا المال بعيدا عن الصرف، وفي الوقت نفسه العمل على تنميته.
والبحث عن الثروات الكبيرة، يجب أن لا يكون في مدخرات الأفراد، لأنه لا يوجد ولا يتحقق في المضاربات في الأسهم والسندات، لأن العائد قليل، ولأن البحث عن الثروة الكبيرة فيها يدفع الإنسان إلى المقامرة، وهنا تبدأ الخطورة على المال، فقد يفقد كله، لأن المقامرة هي تعريض المال إلى الأخطار الكبيرة مقابل أرباح كبيرة، وقد يحدث أن يعود المال ومعه مكاسبه الكبيرة، ولكن في أكثر الحالات كما يقول التاريخ المالي والتحليلات الاقتصادية على مر أزمان طويلة بأن مال المغامرات قلما يعود سالما