|
ما تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من إيذاء لجهرهم بدعوتهم
|
ما تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من إيذاء لجهرهم بدعوتهم |
لما استمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في إعلان الدعوة إلى الله وتوحيده كان قومه ينكرون عليه فيما بينهم فيقولون إذا مر عليهم: "هذا ابن أبي كبشة يكلم من السماء، هذا غلام عبد المطلب يكلم من السماء"، وأبو كبشة كنية لزوج حليمة السعدية مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم، وكما أن المرضعة بمنزلة الأم كذلك صاحب اللبن بمنزلة الأب. وكانوا يريدون بذلك تنقيص النبي صلى الله عليه وسلم عنادا واستكبارًا. ولما استتبع إعلان الدعوة عيب معبودات المشركين الباطلة، وتسفيه عقول من يعبدونها، نفروا منه وأظهروا له العداوة غيرة على تلك الآلهة التي يعبدونها كما كان يعبدها آباؤهم، وقرروا ألا يدخروا جهدًا في محاربة الإسلام وإيذاء الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وإيذاء أتباعه فيه والسخرية منهم وتحقيرهم. وقد روي أن أبا لهب كان يجول خلف النبي صلى الله عليه وسلم في موسم الحج والأسواق لتكذيبه، وكان يضربه بالحجر حتى يدمي عقبيه. وكانت امرأة أبي لهب تحمل الشوك وتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم وعلى بابه ليلًا، وكانت امرأة سليطة تبسط فيه لسانها وتكثر من الافتراء عليه. وكان جيرانه صلى الله عليه وسلم يؤذونه في بيته منهم عقبة بن أبي معيط والحكم بن أبي العاص، وكان أحدهم يطرح عليه الأقذار وهو يصلي . وقد صح أن أبا جهل أراد أن يطأ على رقبة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ويعفر وجهه الشريف، فلما همّ بذلك أخذ يجري، فلما سئل قال: إن بيني وبينه خندقًا من نار وهؤلاء أجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا. وانقلبت هذه الحرب إلى تنكيل وسفك دم بالنسبة إلى المستضعفين من المؤمنين، فمن ليست له عصبية تدفع عنه لا يعصمه من الهوان والقتل شيء، بل يحبس على الآلام حتى يكفر أو يموت أو يسقط إعياء. من هؤلاء عمار بن ياسر، وهو من السابقين الأولين في الإسلام، وكان مولى لبني مخزوم، أسلم أبوه وأمه، فكان المشركون يعذبونهم ، ومر بهم النبي عليه الصلاة والسلام وهم يعذبون فقال: "صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة" فمات "ياسر" في العذاب، وامرأته "سُميَّة" وهي أول شهيدة في الإسلام، وشدّدوا العذاب على عمار بالحرِّ تارة، وبوضع الصخر على صدره أخرى، وبالتغريق أخرى، وقالوا: لا نتركك حتى تسب محمدًا أو تقول في اللات والعزّى خيرًا ففعل، فتركوه فأتى النبي صلَّى الله عليه وسلم يبكي فقال: ما وراءك؟ قال شرٌّ يا رسول الله، كان الأمر كذا وكذا!!! قال: فكيف تجد قلبك؟ قال: أجده مطمئنًا بالإيمان. فقال: يا عمار إن عادوا فعد. ومن هؤلاء "بلال بن رباح" كان سيده أمية بن خلف -إذا حميت الشمس وقت الظهيرة- يقلِّبه على الرمال الملتهبة ظهرًا لبَطن، ويأمر بالصخرة الجسيمة فتلقى على صدره ثم يقول له. لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فما يزيد بلال عن ترديد: أحد، أحد ... ولما اشتدت ضراوة قريش بالمستضعفين ذهب أحدهم وهو خباب بن الأرت إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يستنجد به،و قال له: ألا تستنصر لنا. ألا تدعو لنا؟؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: "قد كانَ مَنْ قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعله نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصدُّه ذلك عن دينه، والله ليُتمَّنَّ الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون". وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يبث عناصر الثقة في قلوب رجاله، ويفيض عليهم ما أفاضه الله على فؤاده من أمل رحيب في انتصار الإسلام، وانتشار مبادئه، وزوال سلطان الطغاة. وظن المشركون أن بطشهم بالمستضعفين ونيلهم من غيرهم سوف يصرف الناس عن الاستجابة لداعي الله، وظنوا أن وسائل السخرية والتهكم التي جنحوا إليها ستهدّ قوى المسلمين المعنوية فيتوارون خجلًا من دينهم ويعودون كما كانوا إلى دين آبائهم، غير أن ظنونهم سقطت جميعًا، فإن أحدًا من المسلمين لم يرتد عن الحق الذي شرفه الله به بل كان المسلمون يتزايدون! فرأت قريش أن تجرِّب أسلوبًا آخر تجمع فيه بين الترغيب والترهيب، فلترسل إلى محمد صلَّى الله عليه وسلم تعرض عليه من الدنيا ما يشاء، ولترسل إلى عمه الذي يحميه تحذره عاقبة هذا التأييد، حتى يكلم هو الآخر محمدًا أن يسكت. فأرسلت قريش "عتبة بن ربيعة" -وهو رجل رزين هادىء- يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت إنما تريد بهذا الأمر مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا. وإن كنت تريد شرفًا سوّدناك علينا فلا نقطع أمرًا دونك. وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا. وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه لا تستطيع ردَّه عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ. فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بآيات من الوحي المبارك يعرفه فيها بحقيقة الرسالة والرسول وعاقبة الإعراض عن اتباع وحي الله. وذهب وفد من قريش إلى أبي طالب يطلب منه أن يكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يفعل أو يخلي بينهم وبينه، فقال لهم أبو طالب قولًا جميلًا، وردَّهم ردًّا رفيقًا فانصرفوا عنه. ومضى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم بما هو عليه، ثم استشرى الأمر بينه وبينهم فمشَوا إلى أبي طالب مرة أخرى وهددوه إن لم يكف ابن أخيه صلى الله عليه وسلم فسيعاديانهما معًا فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم له، فقال له رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: "يا عماه، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته"، ثم بكى رسول الله وقام، فلما ولَّى ناداه عمه أبو طالب فأقبل عليه وقال: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا. |
|