إنًّ تأخير تدوين القرآن عن حياة النبى - صلى الله عليه وسلم - وجمعه فى مصحف فى خلافة أبى بكر - رضى الله عنه - ، لامساس له مطلقًا بوحدة القرآن
وصلة كل كلمة بالوحى الإلهى ؛ لأن القرآن - قبل جمعه فى مصاحف - كان محفوظًا كما أنزله الله على خاتم المرسلين .
والعرب قبل الإسلام ، وفى صدر الإسلام المبكر كانوا ذوى ملكات فى الحفظ لم يماثلهم فيها شعب أو أمة ، من قبلهم أو معاصرة لهم ، ومن يعرف الكتابة والقراءة فيهم قليلون فكانوا يحفظون عن ظهر قلب ما يريدون حفظه من منثور الكلام ومنظومه .
وروعة نظم القرآن ، ونقاء ألفاظه ، وحلاوة جرسه ، وشرف معانيه ، هذه الخصائص والسمات فاجأت العرب بما لم يكونوا يعرفون ، فوقع من أنفسهم موقع السحر فى شدة تأثيره على العقول والمشاعر ، فاشتد اهتمامهم به ، وبخاصة الذين كانوا من السابقين إلى الإيمان به ، وكانوا يترقبون كل جديد ينزل به الوحى الأمين ، يجمعون بين حفظه والعمل به .
وكان النبى - صلى الله عليه وسلم - كلما نزل عليه شىء من الوحى يأمر كُتًّاب الوحى بكتابته فورًا ، سماعًا من فمه الطاهر ثم ينشر ما نزل من الوحى بين الناس .
وقد ساعد على سهولة حفظه أمران :
الأول : نزوله ( مُنَجَّمًا ) أى مفرقًا على مدى ثلاث وعشرين سنة ؛ لأنه لم ينزل دفعة واحدة كما كان الشأن فى الوحى إلى الرسل السابقين .
والسبب فى نزول القرآن مُفَرَّقًا هو ارتباطه بتربية الأمة ، والترقى بها فى مجال التربية طورًا بعد طور ومعالجة ما كان يجدّ من مشكلات الحياة ، ومواكبة حركة بناء الدعوة من أول شعاع فيها إلى نهاية المطاف .
الثانى : خصائص النظم القرآنى فى صفاء مفرداته ، وإحكام تراكيبه ، والإيقاع الصوتى لأدائه متلوًّا باللسان ، مسموعًا بالآذان ، وما يصاحب ذلك من إمتاع وإقناع ، كل ذلك أضفى على آيات القرآن خاصية الجذب إليه ، والميل الشديد إلى الإقبال عليه ، بحيث يجذب قارئه وسامعه واقعًا فى أسره غير ملولٍ من طول الصحبة معه .
وتؤدى فواصل الآيات فى القرآن دورًا مُهِمًّا فى الإحساس بهذه الخصائص . ولنذكر لهذا " مثلاً " من سور القرآن الكريم :
بسم الله الرحمن الرحيم ( والعاديات ضبحا * فالموريات قدحا * فالمغيرات صبحًا * فأثرن به نقعًا * فوسطن به جمعًا * إن الإنسان لربه لكنود * وإنه على ذلك لشهيد * وإنه لحب الخير لشديد * أفلا يعلم إذا بُعثر ما فى القبور * وحُصل ما فى الصدور * إن ربهم بهم يومئذ لخبير ) (1) .
عدد آيات هذه السورة [ العاديات ] إحدى عشرة آية ، وقد وزعت من حيث الفواصل ، وهى الكلمات الواقعة فى نهايات الآيات ، على أربعة محاور ، هى : الثلاث الآيات الأولى ، وكل فاصلة فيها تنتهى بحرف الحاء : ضبحا - قدحا - صبحا .
والآيتان الرابعة والخامسة ، كل فاصلة فيهما انتهت بحرف العين : نقعا - جَمْعا .
والآيات السادسة والسابعة والثامنة ، انتهت فواصلها بحرف الدال : لكنود - لشهيد - لشديد .
أما الآيات التاسعة ، والعاشرة ، والحادية عشرة ، فقد انتهت فواصلها بحرف الراء : القبور- الصدور - لخبير .
مع ملاحظة أن حروف الفواصل فى هذه السورة - ماعدا الآيات الثلاث الأولى - مسبوقة بحرف " مد " هو " الواو " فى : " لكنود " - و " الياء " فى : " لشهيد لشديد " .
ثم " الواو " فى : " القبور - الصدور - ثم " الياء " فى : " لخبير " وحروف المد تساعد على " تطرية " الصوت وحلاوته فى السمع .
لذلك صاحبت حروف المد كلمات " الفواصل " فى القرآن كله تقريبًا ، وأضفت عليها طابعًا غنائيّا من طراز فريد (2) جذب الإسماع ، وحرك المشاعر للإقبال على القرآن بشدة أسره إياهم عن طريق السماع ، ليكون ذلك وسيلة للإقبال على فقه معانيه ، ثم الإيمان به .
ومن سمات سهولة الحفظ فى هذه السورة أمران :
أنها سورة قصيرة ، حيث لم تتجاوز آياتها إحدى عشرة آية .
قصر آياتها ، فمنها ما تألف من كلمتين ، وهى الآيات الثلاث الأولى . ومنها ما تألف من ثلاث كلمات ، وهى الآيتان الرابعة والخامسة . ومنها ما تألف من أربع كلمات ، وهى الآيات : السادسة والسابعة والثامنة . وآيتان فحسب كلماتها خمس ، وهما العاشرة والحادية عشرة . وآية واحدة كلماتها سبع ، هى الآية التاسعة .
ونظام " عقد المعانى " فى السورة رائع كروعة نظمها . فالآيات الثلاث الأُوَل قَسَمٌ جليل بِخَيْلِ المجاهدين فى سبيل الله .
والآيتان الرابعة والخامسة استطراد مكمل لمعانى المقسم به ، شدة إغارتها التى تثير غبار الأرض ، وسرعة عَدْوِِهَا ومفاجأتها العدوّ فى الإغارة عليه .
ثم يأتى المقسم عليه فى الآية السادسة : " إن الإنسان لربه لكنود " : عاص لله ، كفور بإنعامه عليه .
وفى الآية السابعة إلماح إلى علم الإنسان بأنه عاق لربه ، شهيد على كفرانه نعمته .
وفى الآية الثامنة تقبيح لمعصية الإنسان لربه ، وإيثار حطام الدنيا على شكر المنعم .
أما الآيات الثلاث الأخيرة من (9) إلى (11) فهى إنذار للإنسان الكفور بنعم ربه إليه .
وهذه السمات ، ليست وقفًا كلها على سورة " والعاديات " بل هى مع غيرها ، سمات عامة للقرآن كله ، وبهذا صار القرآن سهل الحفظ لمن حاوله وصدق فى طلبه وسلك الطريق الحق الموصل إليه (3) .
إن الحفظ كان العلاقة الأولى بين المسلمين وبين كتاب ربهم وكان الحفظ له وسيلة واحدة ضرورية يعتمد عليها ، هى السماع . وهكذا وصل إلينا القرآن ، من بداية نزوله إلى نهايته .
وأول سماع فى حفظ القرآن كان من جبريل عليه السلام الذى وصفه الله بالأمين .
وأول سامع كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، سمع القرآن كله مرات من جبريل .
وثانى مُسَمِّع كان هو عليه الصلاة والسلام بعد سماعه القرآن من جبريل .
أما ثانى سامع للقرآن فهم كُتَّابُ الوحى ، سمعوه من النبى عليه الصلاة والسلام فور سماعه القرآن من جبريل ؛ لأنه كان إذا نزل الوحى ، وفرغ من تلقى ما أنزله الله إليه دعا كُتَّابَ الوحى فأملى على مسامعهم ما نزل فيقومون بكتابته على الفور .
ثم يشيع عن طريق السماع لا الكتابة ما نزل من القرآن بين المؤمنين ، إما من فم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، أو من أفواه كتاب الوحى .
وقد يسَّر الله تعالى لحفظ القرآن واستمرار حفظه كما أنزله لله ، أوثق الطرق وأعلاها قدرًا فكان - صلى الله عليه وسلم - يقرؤه على جبريل فى كل عام مرة فى شهر رمضان المعظم . ثم فى العام الذى لقى فيه ربه تَمَّ عرض القرآن تلاوة على جبريل مرتين . زيادة فى التثبت والتوثيق .
وفى هذه الفترة ( فترة حياة النبى ) لم يكن للقراء مرجع سوى المحفوظ فى صدر النبى عليه الصلاة والسلام ، وهو الأصل الذى يُرجع إليه عند التنازع ، أما ما كان مكتوبًا فى الرقاع والورق فلم يكن مما يرجع إليه الناس ، مع صحته وصوابه .
وكذلك فى عهدى الشيخين أبى بكر وعمر رضى الله عنهما كان الاعتماد على الحفظ فى الصدور هو المعول عليه دون الكتابة ؛ لأنها كانت مفرقة ، ولم تكن مجموعة .
وكانت حظوظ الصحابة ، من حفظ القرآن متفاوتة ، فكان منهم من يحفظ القدر اليسير ، ومنهم من يحفظ القدر الكثير ، ومنهم من يحفظ القرآن كله . وهم جمع كثيرون مات منهم فى موقعة اليمامة فى خلافة أبى بكر سبعون حافظًا للقرآن ، وكانوا يسمون حفظة القرآن بــ " القُرَّاء " .
ولا يقدح فى ذلك أن بعض الروايات تذهب إلى أن الذين حفظوا القرآن كله من الصحابة كانوا أربعة أو سبعة ، وقد وردت بعض هذه الروايات فى صحيحى البخارى ومسلم لأن ما ورد فيهما له توجيه خاص ، هو أنهم حفظوا القرآن كله وعرضوا حفظهم على رسول الله تلاوة عليه فأقرهم على حفظهم ، وليس معناه أنهم هم الوحيدون الذين حفظوا القرآن من الصحابة (4) .
أول جمع للقرآن الكريم
لم يجمع القرآن فى مصحف فى حياة النبى - صلى الله عليه وسلم - ، ولا فى صدر خلافة أبى بكر - رضى الله عنه - ، وكان حفظه كما أنزل الله فى الصدور هو المتبع .
وفى هذه الأثناء كان القرآن مكتوبًا فى رقاع متفرقًا . هذه الرقاع وغيرها التى كتب فيها القرآن إملاء من فم النبى - صلى الله عليه وسلم - ، ظلت كما هى لم يطرأ عليها أى تغيير من أى نوع .
ولما قتل سبعون رجلاً من حُفَّاظِه دعت الحاجة إلى جمع ما كتب مفرقًا فى مصحف واحد فى منتصف خلافة أبى بكر باقتراح من عمر - رضى الله عنهما - .
وبعد وفاة أبى بكر تسلم المصحف عمر بن الخطاب ، وبعد وفاته ظل المصحف فى حوزة ابنته أم المؤمنين حفصة - رضى الله عنها - (5) .
وفى هذه الفترة كان حفظ القرآن فى الصدور هو المتبع كذلك .
وانضم إلى حُفَّاظه من الصحابة بعد انتقال النبى عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى ، التابعون من الطبقة الأولى ، وكانت علاقتهم بكتاب الله هى الحفظ بتفاوت حظوظهم فيه قلة وكثرة ، وحفظًا للقرآن كله ، وممن اشتهر منهم بحفظ القرآن كله التابعى الكبير الحسن البصرى - رضى الله عنه - وآخرون .
كان هذا أول جمع للقرآن ، والذى تم فيه هو جمع الوثائق التى كتبها كتبة الوحى فى حضرة رسول الله - صلي الله عليه وسلم - ، بمعنى تنسيق وثائق كل سورة مرتبة آياتها على نسق نزولها ، ولا معنى لهذا الجمع إلا ما ذكرناه ، وإطلاق وصف المصحف عليه إطلاق مجازى صرف . والقصد منه أن يكون مرجعًا موثوقًا به عند اختلاف الحفاظ .
ومما يجب التنبيه إليه مرات أن الجمع فى هذه المرحلة لم يضف شيئًا أو يحذفه من تلك الوثائق الخطية ، التى تم تدوينها فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام إملاءً منه على كتبة وحيه الأمناء الصادقين .
مرحلة الجمع الثانية (6)
كانت هذه المرحلة فى خلافة عثمان بن عفان - رضى الله عنه - وكان حافظًا للقرآن كله كما ورد فى الروايات الصحيحة . والسبب الرئيسى فى اللجوء إلى هذا الجمع فى هذه المرحلة هو اختلاف الناس وتعصبهم لبعض القراءات ، إلى حد الافتخار بقراءة على قراءة أخرى ، وشيوع بعض القراءات غير الصحيحة .
وهذا ما حمل حذيفة بن اليمان على أن يفزع إلى أمير المؤمنين عثمان ابن عفان ، ويهيب به أن يدرك الأمة قبل أن تتفرق حول القرآن كما تفرق اليهود والنصارى حول أسفارهم المقدسة . فنهض - رضى الله عنه - للقيام بجمع القرآن فى " مصحف " يجمع الناس حول أداء واحد متضمنًا الصلاحية للقراءات الأخرى الصحيحة ، وندب لهذه المهمة الجليلة رجلاً من الأنصار ( زيد بن ثابت ) وثلاثة من قريش : عبد الله بن الزبير ، سعد بن أبى وقاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام . وزيد بن ثابت هذا كان هو رئيس الفريق الذى ندبه عثمان - رضى الله عنه - لهذه المهمة الجليلة ؛ لأنه - أى زيد بن ثابت - قد تحققت فيه مؤهلات أربعة للقيام بهذه المسئولية وهى :
- كان من كتبة الوحى فى الفترة المدنية .
- كان حافظًا متقنًا للقرآن سماعًا مباشرًا من فم رسول الله .
- كان هو الوحيد الذى حضر العرضة الأخيرة للقرآن من النبى عليه الصلاة والسلام على جبريل عليه السلام .
- كان هو الذى جمع القرآن فى خلافة أبى بكر - رضى الله عنه - .
منهج الجمع فى هذه المرحلة
وقد تم الجمع فى هذه المرحلة على منهج دقيق وحكيم للغاية قوامه أمران :
الأول : المصحف الذى تم تنسيقه فى خلافة أبى بكر - رضى الله عنه - ، وقد تقدم أن مكوّنات هذا المصحف هى الوثائق الخطية التى سجلها كتبة الوحى فى حضرة النبى عليه - صلى الله عليه وسلم - سماعًا مباشرًا منه .
فكان لا يُقبل شىء فى مرحلة الجمع الثانى ليس له وجود فى تلك الوثائق التى أقرها النبى عليه الصلاة والسلام .
الثانى : أن تكون الآية أو الآيات محفوظة حفظًا مطابقًا لما فى مصحف أبى بكر عند رجلين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأقل . فلا يكفى حفظ الرجل الواحد ، ولا يكفى وجودها فى مصحف أبى بكر ، بل لابد من الأمرين معًا :
- وجودها فى مصحف أبى بكر .
- ثم سماعها من حافظين ، أى شاهدين ، وقد استثنى من هذا الشرط أبو خزيمة الأنصارى ، حيث قام حفظه مقام حفظ رجلين فى آية واحدة لم توجد محفوظة إلا عند أبى خزيمة ، وذلك لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل شهادته بشهادة رجلين عدلين .
قام هذا الفريق ، وفق هذا المنهج المحكم ، بنسخ القرآن ، لأول مرة ، فى مصحف واحد ، وقد أجمع عليه جميع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يعارض عثمان منهم أحدُ ، حتى عبد الله بن مسعود ، وكان له مصحف خاص كتبه لنفسه ، لم يعترض على المصحف "الجماعى" الذى دعا إلى كتابته عثمان - رضى الله عنه - ، ثم تلقت الأمة هذا العمل الجليل بالرضا والقبول ، فى جميع الأقطار والعصور . ونسخ من مصحف عثمان ، الذى سمى " المصحف الإمام " بضعة مصاحف ، أرسل كل مصحف منها إلى قطر من أقطار الإسلام ، مثل الكوفة والحجاز ، وبقى المصحف الأم فى حوزة عثمان - رضى الله عنه - ، ثم عمد عثمان إلى كل ماعدا " المصحف الإمام " من مصاحف الأفراد - المخالفة أدنى مخالفة للمصحف الإمام ، ومنها مصحف الصحابى الجليل ابن مسعود - وأمر بحرقها أو استبعادها ؛ لأنها كانت تحتوى على قراءات غير صحيحة ، وبعضها كان يُدخل بعض عبارات تفسيرية فى صلب الآيات أو فى أواخرها .
الفرق بين الجمعين
من نافلة القول ، أن نعيد ما سبق ذكره ، من أن أصل الجمعين اللذين حدثا فى خلافتى أبى بكر وعثمان - رضى الله عنهما - كان واحدًا ، هو الوثائق الخطية التى حررت فى حضرة النبى - صلى الله عليه وسلم - إملاءً من فمه الطاهر على كتبة الوحى ، ثم تلاوتهاعليه وإقرارها كما تليت عليه هذه الوثائق لم تدخل عليها أية تعديلات ، وهى التى نراها الآن فى المصحف الشريف المتداول بين المسلمين .
وكان الهدف من الجمع الأول فى خلافة أبى بكر - رضى الله عنه - هو جمع تلك الوثائق المتفرقة فى مكان واحد منسقة السور والآيات ، دون نقلها فى مصحف حقيقى جامع لها . فهذا الجمع بلغة العصر مشروع جمع لا جمع حقيقى فى الواقع .
ولهذا عبَّر عنه أحد العلماء بأنه أشبه ما يكون بأوراق وجدت متفرقة فى بيت النبى فربطت بخيط واحد ، مانع لها من التفرق مرة أخرى .
أما الجمع فى خلافة عثمان - رضى الله عنه - فكان نسخًا ونقلاً لما فى الوثائق الخطية ، التى حررت فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام وأقرها بعد تلاوتها عليه ، وجمعها فى مصحف واحد فى مكان واحد . وإذا شبهنا الوثائق الأولى بقصاصات ورقية مسطر عليها كلام ، كان الجمع فى خلافة عثمان هو نسخ ذلك الكلام المفرق فى القصاصات فى دفتر واحد .
أما الهدف من الجمع فى خلافة عثمان فكان من أجل الأمور الآتية :
- توحيد المصحف الجماعى واستبعاد مصاحف الأفراد لأنها لم تسلم من الخلل . وقد تم ذلك على خير وجه .
- القضاء على القراءات غير الصحيحة ، وجمع الناس على القراءات الصحيحة ، التى قرأ بها النبى عليه الصلاة والسلام فى العرضة الأخيرة على جبريل فى العام الذى توفى فيه .
- حماية الأمة من التفرق حول كتاب ربها . والقضاء على التعصب لقراءة بعض القراء على قراءة قراء آخرين .
وفى جميع الأزمنة فإن القرآن يؤخذ سماعًا من حُفَّاظ مجودين متقنين ، ولا يؤخذ عن طريق القراءة من المصحف ؛ لإن الحفظ من المصحف عرضة لكثير من الأخطاء ، فالسماع هو الأصل فى تلقى القرآن وحفظه . لأن اللسان يحكى ما تسمعه الأذن ، لذلك نزل القرآن ملفوظًا ليسمع ولم ينزل مطبوعًا ليُقرأ .
فالفرق بين الجمعين حاصل من وجهين :
الوجه الأول : جمع أبى بكر - رضى الله عنه - كان تنسيقًا للوثائق الخطية التى حررت فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام على صورتها الأولى حسب ترتيب النزول سورًا وآيات .
وجمع عثمان - رضى الله عنه - كان نقلاً جديدًا لما هو مسطور فى الوثائق الخطية فى كتاب جديد ، أطلق عليه " المصحف الإمام " .
أما الوجه الثانى : فهو من حيث الهدف من الجمع وهو فى جمع أبى بكر كان حفظ الوثائق النبوية المفرقة فى نسق واحد مضمومًا بعضها إلى بعض ، منسقة فيه السور والآيات كما هى فى الوثائق ، لتكون مرجعًا حافظًا لآيات الذكر الحكيم .
وهو فى جمع عثمان ، جمع الأمة على القراءات الصحيحة التى قرأها النبى - صلى الله عليه وسلم - فى العرضة الأخيرة على جبريل عليه السلام .
أما المتون ( النصوص ) التى نزل بها الوحى الأمين فظلت على صورتها الأولى ، التى حررت بها فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام .
فالجمعان البكرى والعثمانى لم يُدْخِِِِِلا على رسم الآيات ولا نطقها أى تعديل أو تغيير أو تبديل ، وفى كل الأماكن والعصور واكب حفظ القرآن تدوينه فى المصاحف ، وبقى السماع هو الوسيلة الوحيدة لحفظ القرآن على مدى العصور حتى الآن وإلى يوم الدين .
فذلكة سريعة :
العرض الذى قدمناه لتدوين القرآن يظهر من خلاله الحقائق الآتية :
- إن تدوين متون القرآن ( نصوصه ) تم منذ فجر أول سورة نزلت بل أول آية من القرآن ، وكان كلما نزل نجم من القرآن أملاه عليه الصلاة والسلام على كاتب الوحى فدونه سماعًا منه لتوه ، ولم يلق عليه الصلاة والسلام ربه إلا والقرآن كله مدون فى الرقاع وما أشبهها من وسائل التسجيل . وهذا هو الجمع الأول للقرآن وإن لم يذكر فى كتب المصنفين إلا نادرًا .
- إن هذا التدوين أو الجمع المبكر للقرآن كان وما يزال هو الأصل الثابت الذى قامت على أساسه كل المصاحف فيما بعد ، حتى عصرنا الحالى .
- إن الفترة النبوية التى سبقت جمع القرآن فى خلافة أبى بكر- رضى الله عنه - ، لم تكن فترة إهمال للقرآن ، كما يزعم بعض خصوم القرآن من المبشرين والمستشرقين والملحدين بل العكس هو الصحيح ، كانت فترة عناية شديدة بالقرآن (7) . اعتمدوا فيها على ركيزتين بالغتى الأهمية :
الأولي : السماع من الحفظة المتقنين لحفظ القرآن وتلاوته .
الثانية : الحفظ المتقن فى الصدور .
والسماع والحفظ هما أقدم الوسائل لحفظ وتلاوة كتاب الله العزيز .
وسيظلان هكذا إلى يوم الدين .
- إن القرآن منذ أول آية نزلت منه ، حتى اكتمل وحيه لم تمر عليه لحظة وهو غائب عن المسلمين ، أو المسلمون غائبون عنه ، بل كان ملازمًا لهم ملازمة الروح للجسد .
إن تاريخ القرآن واضح كل الوضوح ، ومعروف كل المعرفة ، لم تمر عليه فترات غموض ، أو فترات اضطراب ، كما هو الشأن فى عهدى الكتاب المقدس (8) التوراة والإنجيل . وما خضعا له من أوضاع لا يمكن قياسها على تاريخ القرآن ، فليس لخصوم القرآن أى سبب معقول أو مقبول فى اتخاذهم مراحل جمع القرآن منافذ للطعن فيه ، أو مبررًا يبررون به ما اعترى كتابهم المقدس من آفات تاريخية ، وغموض شديد الإعتام صاحب وما يزال يصاحب ، واقعيات التوراة والأناجيل نشأة ، وتدوينًا ، واختلافًا واسع المدى ، فى الجوهر والأعراض التى قامت به .
وقد بقى علينا من عناصر شبهاتهم حول جمع القرآن ومراحله ما سبقت الإشارة إليه من قبل ، وهى : النقط والضبط وعلامات الوقف .
المراد بالنَّقْط هو وضع النُّقط فوق الحروف أو تحتها مثل نقطة النون ونقطة الباء .
أما الضبط فهو وضع الحركات الأربع : الضمة والفتحة والكسرة والسكون فوق الحروف أو تحتها حسب النطق الصوتى للكلمة . حسبما تقتضيه قواعد النحو والصرف .
أما علامات الوقف فهى كالنقط والضبط توضع فوق نهاية الكلمة التى يجوز الوقف عليها أو وصلها بما بعدها . وهذه الأنواع الثلاثة يُلحظ فيها ملحظان عامَّان :
الأول : أنها لا تمس جسم الكلمة من قريب أو من بعيد ولا تغير من هيكل الرسم العثمانى للكلمات ، بل هى زيادة إضافية خارجة عن " متون " ( أصول ) الكلمات .
الثانى : أنها - كلها - أدوات أو علامات اجتلبت لخدمة النص القرآنى ، ولتلاوته صوتيّا تلاوة متقنة أو بعبارة أخرى :
هى وسائل إيضاح اصطلاحية متفق عليها تعين قارئ القرآن على أدائه أداء صوتيّا محكمًا ، وليست هى من عناصر التنزيل ، ولو جرد المصحف منها ما نقص كلام الله شيئًا . وقد كان كتاب الله قبل إدخال هذه العلامات هو هو كتاب الله ، إذن فليست هى تغييرًا أو تبديلاً أو تحريفًا أدخل على كتاب الله فأضاع معالمه ، كما يزعم خصوم القرآن الموتورون .
فالنقط أضيفت إلى رسم المصحف للتمييز بين الحروف المتماثلة كالجيم والحاء والخاء ، والباء والتاء والثاء والنون ، والسين والشين ، والطاء والظاء ، والفاء والقاف ، والعين والغين ، والصاد والضاد .
وقبل إضافة النقط إلى الحروف كان السماع قائماً مقامها ، لأن حفاظ القرآن المتقنين المجوِّدين ليسوا فى حاجة إلى هذه العلامات ، لأنهم يحفظون كتاب ربهم غضّا طريّا كما أنزله الله على خاتم رسله ، أمَّا غير الحفاظ ممن لا يستغنون عن النظر فى المصحف فهذه العلامات النقطية والضبطية والوقفية ترشدهم إلى التلاوة المثلى ، وتقدم لهم خدمات جليلة فى النظر فى المصحف ؛ لأنها - كما قلنا من قبل - وسائل إيضاح لقراء المصحف الشريف .
فمثلاً نقط الحروف وقاية من الوقوع فى أخطاء لا حصر لها ، ولنأخذ لذلك مثالاً واحدًا هو قوله تعالى : ( كمثل جنة بربوة ) (9) .
لو تركت " جنة " بغير نقط ولا ضبط لوقع القارئ غير الحافظ فى أخطاء كثيرة ؛ لأنها تصلح أن تنطق على عدة احتمالات ، مثل : حَبَّة -حية - حِنَّة - خبَّة - جُنة - حِتة - خيَّة - جيَّة - حبه - جبَّة .
ولكن لما نقطت حروفها ، وضُبطت كلماتها اتضح المراد منها وتحدد تحديدًا دقيقًا ، طاردًا كل الاحتمالات غير المرادة .
وأول من نقط حروف المصحف جماعة من التابعين كان أشهرهم أبوالأسود الدؤلى ، ونصر بن عاصم الليثى ، ويحيى بن يَعْمُر ، والخليل ابن أحمد ، وكلهم من كبار التابعين (10) .
والخلاصة : أن نقط حروف الكلمات القرآنية ، وضبط كلمات آياته ليس من التنزيل ، وأنه حدث فى عصر كبار التابعين ، وإلحاق ذلك بالمصحف ليس تحريفًا ولا تعديلاً لكلام القرآن .
وهو من البدع الحسنة وقد أجازه العلماء لأن فيه تيسيرًا على قُرَّاء كتاب الله العزيز ، وإعانة لهم على تلاوته تلاوة متقنة محكمة ، وهو من المصالح المرسلة ، التى سكت الشرع عنها فلم يأمر بها ولم ينه عنها .
وتحقيق المصلحة يقوم مقام الأمر بها ، ووقوع المضرة يقوم مقام النهى عنها .
وهذه سمة من سمات مرونة الشريعة الإسلامية العادلة الرحيمة . أما علامات الوقف فلها أدوار إيجابية فى إرشاد قراء القرآن وتوجيههم إلى كيفية التعامل مع الجمل والتراكيب القرآنية حين تُتلى فى صلاة أو فى غير صلاة .
والواقع أن كل هذه المضافات إلى رسم كلمات المصحف فوق أنها - والله سبحانه وتعالى أعلم - وسائل إيضاح كما تقدم ، اجتلبت من أجل خدمة النص القرآنى ، تؤدى فى الوقت نفسه خدمة جليلة لمعانى المفردات والتراكيب القرآنية . وقد أشرنا من قبل إلى مهمات النقط فوق أو تحت الحروف ، وعلامات الضبط الأربع : الفتحة والضمة والكسرة والسكون ، فوق أو تحت رسم الكلمات .
ونسوق - الآن - تمثيلاً سريعًا للمهام الجليلة التى تؤديها علامات الوقف ، التى توضع فوق نهايات الكلمات التى يُوْقَفُ عليها أو لا يُوقف : قوله تعالى : ( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ، وإن يمسسك بخير فهو على كل شىء قدير ) (11) .
نرى العلامة ( صلى ) فوق حرف الواو فى كلمة " هو " وهى ترمز إلى أن الوقف على هذه الكلمة " هو " جائز ووصلها بما بعدها وهو " وإن يمسسك " جائز كذلك إلا أن الوصل ، وهو هنا تلاوة الآية كلها دفعة واحدة بلا توقف ، أولى من الوقف .
والسبب فى جواز الوقف والوصل هنا أن كلاً من الكلامين معناه تام يحسن السكوت عليه ، وكذلك يحسن وصله بما بعده لأنهما كلامان بينهما تناسب وثيق ، ومن حيث البناء التركيبى ، هما شرط " إنْ " ، وفِعْلا الشرط فيهما فعل مضارع ، وهما فعل واحد تكرر فى شرطى الكلامين " يمسسك " والفاعل هو " الله " فيهما . الأول اسم ظاهر ، والثانى ضمير عائد عليه ، أما كون الوصل أولى من الوقف ، فلأن التناسب بين الكلامين أقوى من التباين لفظًا ومعنى ، مع ملاحظة أن جواز الوقف يتيح لقارئ القرآن نفحة من راحة الصمت ، ثم يبدأ رحلة التلاوة بعدها وقوله تعالى : ( قل ربى أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراءً ظاهرًا )(12) .
علامة الوقف ( قلى ) موضوعة فوق اللام الثانية من كلمة "قليل" وترمز إلى جواز الوصل والوقف على كلمة " قليل " وأن الوقف عليها أولى من وصلها بما بعدها ، وفى الوقف راحة لنفس القارئ كما تقدم .
وجواز الوقف لتمام المعنى فى الجزء الأول من الآية .
وجواز الوصل ، فلأن الجزء الثانى من الكلام مفرع ومرتب على الجزء الأول (13) .
أما كون الوقف على كلمة " قليل " أولى فى هذه الآية فلأن ما قبلها جملتان خبريتان ، وهما واقعتان مقول القول لقوله تعالى : ( قل ربى . . ) .
أما جملة " فلا تمار فيهم " فهى جملة إنشائية (14) فيها نهى عن الجدال فى شأن أهل الكهف كم كان عددهم والكلام الإنشائى مباين للكلام الخبرى .
إذن فالكلامان غير متجانسين . هذه واحدة .
أما الثانية فإن " فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرًا ولا تستفت فيهم منهم أحدًا " ، غير داخل فى مقول القول الذى أشرنا إليه قبلاً .
وهذان الملحظان أحدثا تباعدًا ما بين الكلامين لذلك كان الوقف أولى ، إلماحًا إلى ذلك التباين بين الكلامين . والوقف هو القطع بين كلامين بالسكوت لحظة بين نهاية الكلام الأول ، وبداية الكلام الثانى ، وله شأن عظيم فى تلاوة القرآن الكريم ، من حيث الألفاظ ( الأداء الصوتى ) ومن حيث تذوق المعانى وخدمتها ، وقوله تعالى : ( وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم فى فجوة منه ذلك من آيات الله ) (15) .
علامة الوقف (ج) موضوعة فوق " الهاء " نهاية كلمة " منه " وترمز إلى جواز الوقف على " منه " وعلى جواز وصله بما بعده " ذلك من آيات الله " وهذا الجواز مستوى الطرفين ، لا يترجح فيه الوقف على الوصل، ولا الوصل على الوقف . وهذا راجع إلى المعنى المدلول عليه بجزئى الكلام ، جزء ما بعد " منه " وجزء ما قبله .
وذلك لأن ما قبل " منه " كلام خبرى لا إنشائى وكذلك ما بعدها " ذلك من آيات الله . . " فهما إذن متجانسان .
والوقف مناسب جدّا لطول الكلام قبل كلمة " منه " وفى الوقف راحة للنفس ، والراحة تساعد على إتقان التلاوة .
والوصل مناسب جدّا من حيث المعنى ؛ لأن قوله تعالى : " ذلك من آيات الله " تركيب واقع موقع " الخبر " عما ذكره الله عز وجل من أوضاع أهل الكهف فى طلوع الشمس وغروبها عنهم .
وقوله تعالى : ( الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة . . ) (16) .
علامة الوقف (لا) موضوعة على " النون " نهاية كلمة "طيبين" ترمز إلى أن الوقف على " طيبين " ممنوع .
والسبب فى هذا المنع أن جملة " يقولون " وهى التالية لكلمة "طيبين" حال من " الملائكة " وهم فاعل " تتوفاهم " .
أما " طيبين " فهى حال من الضمير المنصوب على المفعولية للفعل " تتوفاهم " وهو ضمير الجماعة الغائبين " هم " ولو جاز الوقف على " طيبين " لحدث فاصل زمنى بين جملة الحال " يقولون " وبين صاحب الحال " الملائكة " ولم تدع إلى هذا الفعل ضرورة بيانية .
لذلك كان الوقف على " طيبين " ممنوعًا لئلا يؤدى إلى قطع "الحال" وهو وصف ، عن صاحبه " الملائكة " وهو الموصوف . وهذا لا يجوز بلاغة ؛ فمنع الوقف - هنا - كان سببه الوفاء بحق المعنى ، ومجىء الحال - هنا - جملة فعلية فعلها مضارع يفيد وقوع الحدث بالحال والاستقبال مراعاة لمقتضى الحال ؛ لأن الملائكة تقول هذا الكلام لمن تتوفاهم من الصالحين فى كل وقت لأن الموت لم ولن يتوقف .
وقوله تعالى : ( إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما فى السماوات وما فى الأرض وكفى بالله وكيلا ) (17) .
علامة الوقف (م) موضوعة على حرف الدال من كلمة " ولد " للدلالة على لزوم الوقف على هذه الكلمة " ولد " وامتناع وصلها بما بعدها وهو : " له ما فى السماوات وما فى الأرض " .
وإنما كان الوقف ، هنا - لازمًا لأن هذا الوقف سيترتب عليه صحة المعنى وليمتنع إيهام غير صحته أما وصله بما بعده فيترتب عليه إيهام فساد المعنى .
بيان ذلك أن الوصل لو حدث لأوهم أن قوله تعالى : " له ما فى السماوات وما فى الأرض " وصف لــ " الولد " المنفى ، أى ليس لله ولد ، له ما فى السماوات والأرض ، وهذا لا يمنع أن يكون لله - سبحانه - ولد ولكن ليس له ما فى السماوات والأرض ؟ ! وهذا باطل قطعًا .
أما عندما يقف القارئ على كلمة " ولد " ثم يستأنف التلاوة من " له ما فى السماوات وما فى الأرض " فيمتنع أن يكون هذا الوصف للولد المنفى ، ويتعين أن يكون لله عز وجل ، وهذا ناتج عن قطع التلاوة عند " ولد " أى بالفاصل الزمنى بين تلاوة ما قبل علامة الوقف " لا " وما بعدها حتى آخر الآية .
فأنت ترى أن الوقف - هنا - يؤدى خدمة جليلة للمعنى المراد من الآية الكريمة . ومثله قوله تعالى : ( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ) (18) .
علامة الوقف (م) موضوعة فوق الميم من كلمة " هم " للدلالة على لزوم الوقف عليها ، وامتناع وصلها بما بعدها ، وهو " الذين خسروا أنفسهم " .
وسر ذلك اللزوم ؛ أن الوصل يوهم معنى فاسدًا غير مراد ، لأنه سيترتب عليه أن يكون قوله تعالى : " الذين خسروا أنفسهم " وصفًا لــ " أبناءهم " وهذا غير مراد ، بل المراد ما هو أعم من " أبناءهم " وهم الذين خسروا أنفسهم فى كل زمان ومكان . فهو حكم عام فى الذين خسروا أنفسهم ، وليس خاصّا بأبناء الذين آتاهم الله الكتاب .
هذه هى علامات الوقف ، وتلك هى نماذج من المعانى الحكيمة التى تؤديها ، أو جاءت رامزة إليها ، وبقيت حقيقة مهمة ، لابد من الإشارة إليها .
إن خصوم القرآن يعتبرون علامات الوقف تعديلاً أُدْخِل على القرآن ، بعد عصر النزول وعصر الخلفاء الراشدين .
وهذا وهم كبير وقعوا فيه ، لأن هذه العلامات وغيرها ليست هى التى أوجدت المعانى التى أشرنا إلى نماذج منها ، فهذه المعانى التى يدل عليها الوقف سواء كان جائز الطرفين ، أو الوقف أولى من الوصل أو الوصل أولى من الوقف ، أو الوقف اللازم أو الوقف الممنوع . هذه المعانى من حقائق التنزيل وكانت ملحوظة منذ كان القرآن ينزل ، وكان حفاظ القرآن وتالوه من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطبقونها فى تلاوتهم للقرآن ، قبل أن يُدوَّن القرآن فى " المصحف " هذا هو الحق الذى ينبغى أن يكون معروفًا للجميع ، أما وضع هذه العلامات فى عصر التابعين فجاءت عونًا لغير العارفين بآداب تلاوة القرآن ، دون أن تكون - بشكلها - جزءا من التنزيل (19) .
تنسيق المصحف :
نعنى بـ : تنسيق المصحف " الفواصل بين سوره بـ : " بسم الله الرحمن الرحيم " وترقيم آيات كل سورة داخل دوائر فاصلة بين الآيات ، ووضع خطوط رأسية تحت مواضع السجود فى آيات القرآن ، ثم الألقاب التى أطلقت على مقادير محددة من الآيات مثل :
الربع - الحزب - الجزء . لأن هذه الأعمال إجراءات بشرية خالصة أُلْحِق بعضها بسطور المصحف ، وهو ترقيم الآيات وَوُضِع بعضها تحتها ، كعلامات السجود فى أثناء التلاوة .
أما ماعدا هذين فهى إجراءات اعتبارية عقلية ، تدل عليها عبارات موضوعة خارج إطار أو سُور الآيات .
وليس فى هذا مطعن لطاعن ؛ لأنَّا نقول - كما قلنا فى نظائره من قبل - إنها وسائل إيضاح وتوجيه لقرَّاء القرآن الكريم توضع خارج كلمات الوحى لا فى متونها ، وتؤدى خدمة جليلة للنص المقدس مقروءاً أو متْلُوًّا .
ولا يدعى مسلم أنها لها قداسة النص الإلهى ، أو أنها نازلة من السماء بطريق الوحى الأمين .
والمستشرقون الذين يشاركون المبشرين (20) فى تَصيُّد التهم للقرآن ، ينهجون هذا النهج " التنسيقى " فى أعمالهم العلمية والفكرية، وبخاصة فى تحقيق النصوص فيضعون الهوامش والملاحق والفهارس الفنية لكل ما يقومون بتحقيقه من نصوص التراث . ولهم مهارة فائقة فى هذا المجال ، ولم نر واحدًا منهم ينسب هذه الأعمال الإضافية إلى مؤلف النص نفسه ، كما لم نر أحدًا منهم عدَّ هذه الإضافات تعديلاً أو تحريفًا أو تغييرًا للنص الذى قام هو بتحقيقه وخدمته .
بل إنه يعد هذه الأعمال الإضافية وسائل إيضاح للنص المحقق . وتيسيرات مهمة للقراء .
وهذا هو الشأن فى عمل السلف - رضى الله عنهم - فى تنسيق المصحف الشريف ، وهو تنسيق لا مساس له بــ " قدسية الآيات " لأنها وضعت فى المصحف على الصورة التى رُسِمَتْ بها بين يدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
تاريخ القرآن (21)
هذا هو تاريخ القرآن ، منذ نزلت أول سورة منه ، إلى آخر آية نزلت منه ، كان كتابًا محفوظا فى الصدور ، متلوًّا بالألسنة ، مسطورًا على الرقاع ، ثم مجموعًا فى مصاحف ، لم يخضع لعوامل محو وقرض ، ولا آفات ضياع ، وضعته الأمة فى " أعينها " منذ نَزَلَ فلم يضل عنها أو يغب ، ولم تضل هى عنه أو تغب ، تعرف مصادره وموارده ، على مدى عمره الطويل ، تعرفه كما تعرف أبناءها ، بلا زيغ ولا اشتباه .
هذا هو تاريخ القرآن ، وضعناه وضعًا موجزًا ، لكنه مُلِمٌّ بمعالم الرحلة ، كاشفًا عن أسرارها . وضعناه لنقول لخصوم القرآن والإسلام :
هل فى تاريخ القرآن ما يدعو إلى الارتياب فيه ، أو نزع الثقة عنه ؟
وهل أصاب آياته المحكمة خلل أو اضطراب ؟
وهل رأيتموه غاب لحظة عن الأمة ، أو الأمة غابت عنه لحظة ؟
وهل رأيتم فيه جهلاً بمصدره ونشأته وتطور مراحل جمعه وتدوينه ؟
أو رأيتم فى آياته تغييرًا أو تبديلاً ؟
تلك هى بضاعتنا عرضناها فى سوق العرض والطلب غير خائفين أن يظهر فيها غش أو رداءة ، أو تصاب ببوار أو كساد من منافس يناصبها العداء .
هذا هو ما عندنا . فما هو الذى عندكم من تاريخ الكتاب المقدس بعهديه (22) .
الهوامش:
------------------------
(1) العاديات : 1-11 .
(2) سورة " والعاديات " من قصار السور التى قد بدأ بها الوحى فى مكة ، قبل الهجرة ، ويرى بعض الباحثين أن القرآن بدأ بهذه السور ذات الطبيعة الغنائية فى مكة ، لجذب أهل مكة إليه عن طريق السمع أولاً ، ثم لتدبر معانيه ثانيًا.
(3) انظر تفسير سورة " والعاديات " فى أى تفسير شئت من التفاسير المتداولة : الكشاف - روح المعانى - التفسير الواضح للدكتور حجازى ، أو فى غيرها .
(4) ينظر : البرهان فى علوم القرآن للإمام الزركشى (1 / 241 ) وما بعدها .
(5) هو مصحف فرد لا متعدد ، فلم يكن متداولاً بين أيدى المسلمين ، لأن حفظ القرآن في الصدور كان هو المرجع .
(6) انظر : جمع القرآن فى خلافة عثمان فى " البرهان فى علوم القرآن " و " الاتقان فى علوم القرآن والأول للإمام الزركشى ، والثانى للإمام جلال الدين السيوطى .
(7) لأن القرآن لو كان جمع فى مصحف من أول الأمر ، لاتكل الناس على المصحف المكتوب ، وقل اهتمامهم بحفظه .
(8) سيأتى حديث مفصل عما تعرض له الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد من أوضاع وآفات شديدة الخطورة .
(9) البقرة : 265 .
(10) المقنع لأبى عمرو الدانى 129 - تحقيق محمد الصادق قمحاوى .
(11) الأنعام : 17 .
(12) الكهف : 22 .
(13) التفريع هو تولد كلام من كلام آخر ، وتأتى الفاء دليلاً على هذا التفريع كما فى الآية الكريمة .
(14) الكلام كله قسمان : خبر ، وإنشاء ، فكل كلام أخبرت فيه غيرك بأمر قد حدث قل زمن التكلم أو بعده مثل : حضر فلان أمس ، أو سيحضر غداً هو كلام خبرى ، أما إذا طلبت شيئاً لم يكن حاصلاً فى زمن التكلم مثل : أطلع والديك فهو كلام إنشائى .
(15) الكهف : 17 .
(16) النحل :32 .
(17) النساء : 171 .
(18) الأنعام : 20 .
(19) هى مثل علامات الإعراب كالفتحة والضمة والكسرة والسكون . لم تُوجد هى أحكام الإعراب ، وإنما هى مجرد رموز دالة عليها .
(20) المبشرون هم الذين يريدون فتنة عامة الناس بما يكتبونه عن الإسلام ، وهم أساتذة المستشرقين . أما المستشرقون فيقصدون فتنة المثقفين والطبقات العليا ، ويصورون الإسلام فى غير صورته إلا قليلاً منهم تجدهم منصفين للإسلام .
(21) نقصد بتاريخ القرآن رحلته عبر تاريخه المبكر ، إلى أن تم جمعه فى المصاحف ، وما لحق بهذا الجمع من رموز واصطلاحات لتيسير تلاوته مجوداً ، ولسهولة الإحاطة بما فيه من الألفاظ والمعانى .
(22) اليهود يؤمنون بالعهد القديم وحده ، ويكفرون بالعهد الجديد ( الأناجيل ) أما النصارى فيعتبرون العهد القديم شطراً من الكتاب المقدس ، ويؤمنون بالعهدين معاً .
|