بتـــــاريخ : 11/8/2008 2:09:30 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1051 0


    الكلام المكرر - 1

    الناقل : heba | العمر :43 | الكاتب الأصلى : . د / عبد العظيم المطعني | المصدر : www.dar-alifta.org

    كلمات مفتاحية  :
    الدفاع الاسلام شبهات حول القرآن

    الشبهة
    هذه الشبهة من الشبهات التى أكثروا اللغو حولها .  واتخذوها - كذلك -  منفذاً للطعن فى القرآن الكريم بأنه ليس وحياً من عند الله .
    وركزوا كل التركيز على تكرار القصص فى القرآن وذكروا بعض القصص الذى تكرر ، مع الإشارة إلى مواضعه فى سور القرآن ، كما ذكروا تكرار بعض العبارات والجمل .
    ولغوا لغواً كثيراً ، حول تكرار قصة آدم فى القرآن ، وقالوا إنها تكررت خمس مرات .  ونحن نقول بل تكررت سبع مرات.
    كما فعلوا الشىء نفسه مع التكرار الوارد فى سورة " الرحمن " وادعوا أن القرآن إذا حُذف منه المكرر لم يبق منه إلا ما يملأ كراسة واحدة .
    لذلك فإننا فى الرد عليهم سنقف وقفة متأنية ، نلقنهم فيها درساً بليغاً حول التكرار الوارد فى القرآن المحفوظ وبخاصة فى سورة الرحمن ، وتكرار قصة آدم - عليه السلام - فى مواضع سبعة، لنقيم الحجة لله .
     
    الرد عليها
    أ. د / عبد العظيم المطعني

    يقع التكرار فى القرآن الكريم على وجوه :
    1-  مرة يكون المكرر أداة تؤدى وظيفة فى الجملة بعد أن تستوفى ركنيها الأساسيين .
    2- وأخرى تتكرر كلمة مع أختها لداع ، بحيث تفيد معنى لا يمكن الحصول عليه بدونها .
    3- فاصلة تكرر فى سورة واحدة على نمط واحد .
    4- قصة تتكرر فى مواضع متعددة مع اختلاف فى طرق الصياغة وعرض الفكرة .
    5- بعض الأوامر والنواهى والإرشادات والنصح مما يقرر حكماً شرعيًّا أو يحث على فضيلة أو ينهى عن رذيلة أو يرغب فى خير أو ينفر من شر .
    وتكرار القرآن فى جميع المواضع التى ذكرناها ، والتى لم نذكرها مما يلحظ عليها سمة التكرار .  فى هذا كله يباين التكرار القرآنى ما يقع فى غيره من الأساليب لأن التكرار وهو فن قولى معروف .  قد لا يسلم الأسلوب معه من القلق والاضطراب فيكون هدفاً للنقد والطعن .  لأن التكرار رخصة فى الأسلوب - إذا صح هذا التعبير - والرخص يجب أن تؤتى فى حذر ويقظة .

    * * *
    وظيفة التكرار فى القرآن :
    مع هذه المزالق كلها جاء التكرار فى القرآن الكريم محكماً .  وقد ورد فيه كثيراً - فليس فيه موضع قد أخذ عليه - دَعْ دعاوى المغالين فإن بينهم وبين القرآن تارات ؛ فهم له أعداء - وإذا أحسنا الفهم لكتاب الله فإن التكرار فيه - مع سلامته من المآخذ والعيوب - يؤدى وظيفتين :
    أولاهما : من الناحية الدينية.
    ثانيهما : من الناحية الأدبية .
    فالناحية الدينية - باعتبار أن القرآن كتاب هداية وإرشاد وتشريع - لا يخلو منها فن من فنونه ، وأهم ما يؤديه التكرار من الناحية الدينية هو تقرير المكرر وتوكيده وإظهار العناية به ليكون فى السلوك أمثل وللاعتقاد أبين .
    أما الناحية الأدبية فإن دور التكرار فيها متعدد وإن كان الهدف منه فى جميع مواضعه يؤدى إلى تأكيد المعانى وإبرازها فى معرض الوضوح والبيان .  وليكن حديثنا عنه على حسب المنهج الذى أثبتناه فى صدر هذا البحث .
     
    * * *
    تكرار الأداة :
    ومن أمثلتها قوله تعالى : ( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعدما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحِيِم )(1).
    ( ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) (2) .
    والظاهر من النظر فى الآيتين تكرار " إنَّ " فيهما .  وهذا الظاهر يقتضى الاكتفاء بـ " إنَّ " الأولى .  ولم يطلب إلا خبرها . وهو فى الموضعين - أعنى الخبر - " لغفور رحيم " لكن هذا الظاهر خولف وأعيدت " إنَّ " مرة أخرى . ولهذه المخالفة سبب .
    وهذا السبب هو طول الفصل بين " إنَّ " الأولى وخبرها . وهذا أمر يُشعِر بتنافيه مع الغرض المسوقة من أجله " إنَّ " وهو التوكيد .  لهذا اقتضت البلاغة إعادتها لتلحظ النسبة بين الركنين على ما حقها أن تكون عليه من التوكيد .
    على أن هناك وظيفة أخرى هى :  لو أن قارئاً تلا هاتين الآيتين دون أن يكرر فيهما " إنَّ " ثم تلاهما بتكرارها مرة أخرى لظهر له الفرق بين الحالتين :  قلق وضعف فى الأولى ، وتناسق وقوة فى الثانية .
    ومن أجل هذا الطول كررت فى قول الشاعر(3) :
    وإن امرأً طَالَتْ مَوَاثِيقُ عَهْدِهِ       * * *       عَلَى مِثْلِ هَذاَ إنَّهُ لَكَرِيمُ
    يقول ابن الأثير رائياً هذا الرأى :  " . .  فإذا وردت " إنَّ " وكان بين اسمها وخبرها فسحة طويلة من الكلام .  فإعادة " إنَّ " أحسن فى حكم البلاغة والفصاحة كالذى تقدّم من الآيات " (4) .
     
    * * *

    *  تكرار الكلمة مع أختها :
    ومن أمثلتها قوله تعالى : ( أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم فى الآخرة هم الأخسرون ) (5).
    فقد تكررت " هم " مرتين ، الأولى مبتدأ خبرها : " الأخسرون " .  والثانية ضمير فصل جىء به لتأكيد النسبة بين الطرفين وهى : هُمْ الأولى بالأخسرية .
    وكذلك قوله تعالى : ( أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال فِى أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) (6) .
    تكررت - هنا - " أولئك " ثلاث مرات .
    ولم تجد لهذه الكلمة المكررة مع ما جاورها إلا حسناً وروعة .  فالأولى والثانية : تسجلان حكماً عامًّا على منكرى البعث : كفرهم بربهم وكون الأغلال فى أعناقهم .
    والثالثة : بيان لمصيرهم المهين . ودخولهم النار . ومصاحبتهم لها على وجه الخلود الذى لا يعقبه خروج منها .
    ولو أسقطت (أ َولئك ) من الموضعين الثانى والثالث لرك المعنى واضطرب .  فتصبح الواو الداخلة على : ( الأغلال فى أعناقهم ) واو حال . وتصبح الواو الداخلة على : ( أَصحاب النار هم فيها خالدون ) عاطفة عطفاً يرك معه المعنى .
    لذلك حسن موضع التكرار فى الآية لما فيه من صحة المعنى وتقويته .  وتأكيد النسبة فى المواضع الثلاثة للتسجيل عليهم بسوء المصير .
    * * *

    * تكرار الفاصلة :
    سبق أن ذكرنا فى مبحث الفواصل بسوء المصير من تكرار الفاصلة مرتين بدءاً وثلاث مرات نهاية .  وقد وجهنا أسلوب التكرار فى تلك الصور .  ولكنَّا - هنا - أمام فاصلة لم تقف فى تكرارها عند حد المرات الثلاث .  بل تعدت ذلك بكثير .  لذلك آثرنا أن نبحثها هنا إذ هى بهذا الموضع أنسب (7).
    ونعتمد فى دراستنا لتكرار الفاصلة على ثلاث سور هى :  "  الرحمن - القمر - المرسلات  " .  وهى السور التى برزت فيها هذه الظاهرة الأسلوبية .  بشكل لم يرد فى غيرها ، كما ورد فيها .
    فقد تكررت : ( فبِأى آلاء ربكما تكذبان ) (8) فى " الرحمن " .  وتكررت ( فكيف كان عذابى ونذر ) (9) فى " القمر " .  وتكررت : ( ويل يومئذ للمكذبين ) (10)فى " المرسلات " .

    *  تكرار الفاصلة فى " القمر " :
    ولهذا التكرار فى المواضع الثلاثة أسباب ومقتضيات .  ففى سورة القمر " نجد العبارة المكررة وهى : ( فكيف كان عذابى ونذر ) قد صاحبت فى كل موضع من مواضع تكرارها قصة عجيبة الشأن ، وكان أول موضع ذُكِرت فيه عقب قصة قوم نوح .  وبعد أن صوَّر القرآن مظاهر الصراع بينهم وبين نوح  - عليه السلام - ثم انتصار الله لنوح عليهم .  حيث سلَّط عليهم الطوفان . فأغرقهم إلا مَن آمن وعصمه الله .
    ونجد أن الله نجَّى نوحاً وتابعيه .  ولكن تبقى هذه القصة موضع عظة وادكار ، ولتلفت إليها الأنظار وللتهويل من شأنها جاء قوله تعالى عقبها : ( فكيف كان عذابى ونذر ) مُصدَّراً باسم الاستفهام " كيف " للتعجيب مما كان ، ولقد مهَّد لهذا التعجيب بالآية السابقة عليه .  وهى قوله تعالى : ( ولقد تركناها آية فهل من مدكِر ) (11) .
    والموضع الثانى لذكرها حين قص علينا القرآن قصة عاد وعتوها عن أمر الله وفى " عاد " هذه نجد العبارة اكتنفت القصة بدءاً ونهاية .  قال تعالى : ( كذبت عادٌ فكيف كان عذابى ونذر  *ِ إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً فى يومِ نحْسٍ مستمر  *  تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر  *  فكيف كان عذابى ونذر  ) (12).
    وتكرار العبارة - هكذا - فى البداية والنهاية إخراج لها مخرج الاهتمام .  مع ملاحظة أن أحداث القصة - هنا - صُورت فى عبارات قصيرة ولكنها محكمة وافية . .  ولم يسلك هذا المسلك فى قصة نوح - أعنى قصر العبارات - والسبب - فيما يبدو لى - أن إهلاك قوم نوح كان بالإغراق فى الماء .  وهى وسيلة كثيراً ما تكون سبب هلاك .  فقد كانت سبب هلاك فرعون وملئه . .  أما أن يكون الإهلاك بالريح فذلك أمر يدعو إلى التأمل والتفكر .
    ولعل مما يقوى رأينا هذا .  أن هذه القصة - قصة عاد - وردت فى موضع آخر من القرآن يتفق مع هذا الموضوع من حيث الفكرة ، ويختلف معه - قليلاً - من حيث طريقة العرض وزيادة التفصيل .
    جاء فى سورة الحاقة : ( وأما عاد فأهلكوا بريح صرصرٍ عاتية * سخرها عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيام حُسوماً فترى القوم فيها صرعَى كأنهم أعجاز نخل خاوية  *  فهل ترى لهم من باقية ) (13).
    فإرسال الريح - هكذا - سبع ليال وثمانية أيام حسوماً مدعاة للعظة والاعتبار .
    ومثله :  ( وفى عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم * ما تذر من شىء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ) (14) . (فأما عاد فاستكبروا فى الأرض بغير الحق وقالوا مَن أشد منا قوة أو لم يروا أن الله الذى خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون  *  فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً فى أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزى فى الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون ) (15) .
    فقد بطرت " عاد " نعم ربها عليها .  وغرها ما فيه من أسباب التمكين فى الأرض وقوة البطش أن تبارز ربها ومولى نعمها بالمعاصى ، فأهلكها الله بما لا قبل لها به .  وفى كل موضع يذكر القرآن فيه قصة هؤلاء ، تأتى عباراته قوية هادرة واعظة زاجرة . .
    جاء فى موضع آخر : ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد  * إرم ذات العماد  *  التى لم يُخلق مثلها فى البلاد ) (16)
    وكانت عاقبتها خسراً وهلاكاً مع من طغى فى الأرض بغير الحق : ( فصب عليهم ربك سوط عذاب  *  إن ربك لبالمرصاد ) (17) .
    أما الموضع الأخير الذى ذكرت فيه هذه العبارة : ( فكيف كان عذابى ونذر ) فحين قص الله علينا قصة " ثمود " ، وقد جاءت فيها كذلك مهيئة لتلقى صورة العقاب بعد التشويق إليها عند السامع .  ولفت نظره إليها : ( فكيف كان عذابى ونذر* إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر ) (18).
    ومن هنا ندرك شدة اقتضاء المقام لهذا التكرار .  فليست إحدى العبارات فى موضع بمغنية عن أختها فى الموضع الآخر .  إنما هو اتساق عجيب تطلبه المقام من الناحيتين :  الدينية والأدبية .
    من الناحية الدينية حيث تحمل المؤمنين على التذكر والاعتبار عقب كل قصة من هذه القصص ، ومن الناحية الأدبية لأن العبارة :  ( فكيف كان عذابى ونذر ) تأتى عقب كل قصة - أيضاً - لافتة أنظار المشاهدين إلى " كنه " النهاية وختام أحداث القصة .
    وقد مهد القرآن لهذا التكرار حيث لم يأت إلا بعد خمس عشرة آية تنتهى كلها بفاصلة واحدة تتحد نهاياتها بحرف " الراء " مع التزام تحريك ما قبلها .  وذلك هو نهج فواصل السورة كلها .  وقد أشاع هذا النسق الشاجى نوعاً من الإحساس القوى بجو الإنذار .  والسورة فوق كل هذا مكية النزول والموضوع .
    كما أن الطابع القصصى هو السائد فى هذه السورة .  فبعد أن صور القرآن الكريم موقف أهل مكة من الدعوة الجديدة .  وبَيَّن ضلال مسلكهم .  وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على هدايتهم فى وقت هم فيه أشد ما يكونون إعراضاً عنه .  لهذا اقتضى الموقف العام سوق عِبَر الماضين ليكون فى ذلك تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن اتبعه وزجر لمن عارضه وصد عنه .
    وما دام هذا هو طابع السورة فإن أسس التربية - خاصة تربية الأمم - تستدعى تأكيد الحقائق بكل وسيلة ومنها التكرار الذى لمسناه فى سورتنا هذه ؛ حتى لكأنه أصيل فيها وليس بمكرر .
     
    * * *

    *  تكرار آخر فى سورة " القمر " :
     وفى هذه السورة " القمر " مظهر آخر من مظاهر التكرار ، هو قوله تعالى : ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) (19) .  حيث ورد فى السورة أربع مرات ، وهذه دعوة صالحة للتأمل فيما يسوقه الله من قصص .
    وقد اشتملت هذه الآية : ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) على خبر واستفهام ، والخبر تمهيد للاستفهام الذى فيها ولفت النظر إليه .
    * * *

    * التكرار فى سورة " الرحمن " :
    أما التكرار الوارد فى " الرحمن " فى قوله تعالى : ( فبأى آلاء ربكما تكذبان ) حيث تكررت الآية فيها إحدى وثلاثين مرة فله أسبابه كذلك .  ويمكن أن نسجل هذه الملاحظات :
     أولاً : إن هذا التكرار الوارد فى سورة " الرحمن " هو أكثر صور التكرار الوارد فى القرآن على الإطلاق .
    ثانياً : إنه - أى التكرار فى هذا الموضع - قد مُهِّدَ له تمهيداً رائعاً . حيث جاء بعد اثنتى عشرة آية متحدة الفواصل .  وقد تكررت فى هذا التمهيد كلمة " الميزان " ثلاث مرات متتابعة دونما نبو أو ملل : ( والسماء رفعها ووضع الميزان * ألا تطغوا فى الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان ) (20).
    وهذا التمهيد قد أشاع - كذلك - لحناً صوتيًّا عذباً كان بمثابة مقدمة طبيعية لتلائم صور التكرار ولتألفها النفس وتأنس بها فلا تهجم عليها هجوماً ؛ لأن القرآن قد راعى فى فواصل المقدمة التمهيدية ما انبنت عليه فواصل الآية المكررة .
    ثالثاً : إن الطابع الغالب على هذه السورة هو طابع تعداد النعم على الثَّقَلين : الإنس والجن ، وبعد كل نعمة أو نِعَم يعددها الله تأتى هذه العبارة : ( فبأى آلاء ربكما تكذبان ) .
    وعلى هذا الأساس يمكن بيسر فهم عِلّة التكرار الذى حفلت به سورة الرحمن أنه تذكير وتقرير لنعمه .  وأنها من الظهور بمكان فلا يمكن إنكارها أو التكذيب بها .
    " فتكرار الفاصلة فى الرحمن . .  يفيد تعداد النِّعَم والفصل بين كل نعمة وأخرى لأن الله سبحانه عدَّد فى السورة نعماءه وذكَّرعباده بآلائه .  ونبههم على قدرها وقدرته عليها ولطفه فيها .  وجعلها فاصلة بين كل نعمة لتعرف موضع ما أسداه إليهم منها .  ثم فيها إلى ذلك معنى التبكيت والتقريع والتوبيخ ؛ لأن تعداد النِّعم والآلاء من الرحمن تبكيت لمن أنكرها كما يبكت منكر أيادى المنعَم عليه من الناس بتعديدها " (21) .  ولقائل أن يسأل : إن هذه الفاصلة قد تكررت بعدما هو ليس بنعمة من وعيد وتهديد .  فكيف يستقيم التوجيه إذن بعد هذه الآيات ؟
    ( يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران  *  فبأى آلاء ربكما تكذبان ) (22) .
    ( يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصى والأقدام  *  فبأى آلاء ربكما تكذبان ) (23).
    ( هذه جهنم التى يكذب بها المجرمون * يطوفون بينها وبين حميم آن *  فبأى آلاء ربكما تكذبان ) (24).
    وظاهر هذه الآيات بلاء وانتقام وليس بنعم .
    والجواب : ولكن المتأمل يدرك أن فى الإنذار والوعيد وبيان مآل الضالين عصمة للإنسان من الوقوع فيما وقعوا فيه فيكون مصيره مصيرهم .
    ومن هذا الاعتبار يتبين أن هذه المواضع مندرجة تحت النعم ، لأن النعمة نوعان : إيصال الخير .  ودفع الشر.  والسورة اشتملت على كلا النوعين فلذلك كررت الفاصلة .
     
    * * *

    *  التكرار فى سورة " المرسلات " :
    بقى التكرار الوارد فى سورة " المرسلات" .  وقد صنع ما صنع فى نظيريه فى " القمر " و " الرحمن " من التقديم له بتمهيد . .  وله - مثلهما - هدف عام اقتضاه .
    بيد أن التمهيد يختلف عما سبق فى " القمر و " الرحمن " .  فقد رأينا فيهما اتحاد الفاصلة فى الحروف الأخيرة مع التزام نهج معين فيما قبله .  أما هنا فإن الأمر يختلف .
    فقد اشتمل التمهيد على مجموعتين من الآيات : أولاهما : لها فاصلة تختلف عن ثانيتهما وهى : [ والمرسلات عرفا  *  فالعاصفات عصفاً  *  والناشرات نشراً  * فالفارقات فرقا  *  فالملقيات ذكراً  *  عذراً أو نذراً  ] (25)  .
    وختمت هذه المجموعة بقفلة هى سر الجمال كله : [ إنما توعدون لواقع ](26) .
    ما قبلها مقسم به .  وهى جواب القسم .  والمقسم به متعدد كأجزاء الشرط إذا بدئت بها السور .  وهى ـ كما تقدم ـ خصائص تعبيرية آسرة .
    وبجواب القسم تنتهى هذه المجموعة ـ ثم تبدأ المجموعة الثانية وهى : [ فإذا النجوم طمست * وإذا السماء فرجت * وإذا الجبال نسفت * وإذا الرسل أقتت * لأى يوم أجلت * ليوم الفصل * وما أدراك ما يوم الفصل * ويل يومئذ للمكذبين ] (27) .
    وهذه المجموعة تتكون من :
    أولاً : شرط يتكرر أربع مرات محذوف الجواب .  وكله حديث عن أهوال القيامة ومقدمات البعث .
    ثانياً : استفهام يعتبر مدخلاً لحقيقة هامة تقودنا إلى الهدف المنشود .  وهو التوصل إلى مصير المكذبين يوم الدين .
    ثالثاً : جواب هذا الاستفهام الذى اشتمل على كلمة : " يوم الفصل " وكانت هذه الكلمة الشعاع الذى قادنا إلى الساحة الكبرى : ساحة القضاء العادل والقصاص الحكيم : [ لأى يوم أجلت * ليوم الفصل * وما أدراك ما يوم الفصل * ويل يومئذ للمكذبين ]  .
    فانظر إلى هذا التمهيد الحكيم الذى مهد القرآن به لهذه العبارة .  حتى لكأنها هى المقصودة .
    ثم تكررت هذه الآية : ( ويل يومئذ للمكذبين ) عشر مرات بعد هذه المرة وهى فى كل مواضعها تتلو مشهداً من مشاهد القيامة .  وصورة من صور الحشر .  أو مشاهد القدرة الإلهية .
     
    * * *

    سبب عام :
     أما السبب العام الذى اقتضى هذا التكرار فإن الآية أعقبت ما من شأنه أن يكون أكبر داع من دواعى الإيمان والتصديق .  بحيث يكون الخارج عن هذا السلوك والمكذب به صائراً ـ لا محالة ـ إلى الويل ، والعذاب الأليم .
    فويل للمكذبين بيوم الفصل .  وويل للمكذبين بهلاك المجرمين  . .  وويل للمكذبين بقدرة الله وتقديره أرزاق الخلق .  وعلى هذا المنهج يمضى التكرار فى السورة كلها .

     

     

    الهوامش:
    --------------------
    (1) النحل: 110.
    (2) النحل: 119.
    (3) ديوان الحماسة: 2/105 ولم ينسب لقائل معين . 
    (4) المثل السائر (ج3 ص7) تحقيق د/ بدوى طبانة ود/ الحوفى .
    (5) النمل: 5.
    (6) الرعد: 5.
    (7) انظر كتابنا : خصائص التعبير فى القرآن الكريم وسماته البلاغية ( مبحث الفواصل ) - مكتبة وهبة بالقاهرة .
    (8) وردت 31 مرة .
    (9) وردت 4 مرات .
    (10) وردت 10 مرات .
    (11) القمر : 15 .
    (12) القمر : 18 - 21 .
    (13) الحاقة : 6 - 8 .
    (14) الذاريات : 41 - 42 .
    (15) فصلت : 15 - 16 .
    (16) الفجر : 6 - 8 .
    (17) الفجر : 13 - 14 .
    (18) القمر : 30 - 31 .
    (19) القمر : 17 ، 22 ، 32 ، 40 .
    (20) الرحمن : 7 - 9 .
    (21) خزانة الأدب للحموى : ص 144 - 145 .
    (22) الرحمن : 35 - 36 .
    (23) الرحمن : 41 - 42 .
    (24) الرحمن : 43 - 45 .
    (25) المرسلات : 1 - 6 .
    (26) المرسلات : 7 .
    (27) المرسلات : 8 - 15 .

    كلمات مفتاحية  :
    الدفاع الاسلام شبهات حول القرآن

    تعليقات الزوار ()