إن القول بالاعتماد على العقل فقط - أى دون النقل ، الذى هو الوحى الإلهى ، فى بلاغه القرآنى وبيانه النبوى - . . واستخدام العقل وحده أداة لإعادة النظر فى كل ما تعتبره الأمة من المسلمات . . هو قول يحتاج إلى ضبط . . وإلى تصويب . . ويمكن أن يتم ذلك من خلال إشارات إلى عدد من الحقائق :
أولاها : أن مقام العقل فى الإسلام هو مكان عال وفريد ، ولا نظير له فى الشرائع السابقة على الشريعة الإسلامية الخاتمة . . فالعقل فى الإسلام هو مناط التكليف بكل فرائض وأحكام الإسلام . . أى شرط التدين بدين الإسلام .
وثانيتها : أن النقل الإسلامى - وخاصة معجزته القرآنية - هو معجزة عقلية ، قد ارتضت العقل حَكَمًا فى فهمها وفى التصديق بها ، وفى التمييز بين المحكم والمتشابه فى آياتها ، وأيضًا فى تفسير هذه الآيات . . فليس للقرآن كهنوت يحتكر تفسيره ، وإنما هو ثمرة لنظر عقول العلماء المفسرين . . وعلى حين كانت معجزات الرسالات السابقة معجزات مادية ، تدهش العقول ، فتشلها عن التفكير والتعقل ، جاءت معجزة الإسلام - القرآن الكريم - معجزة عقلية ، تستنفر العقل كى يتعقل ويتفكر ويتدبر ، وتحتكم إليه باعتباره القاضى فى تفسير آياتها . . فكان النقل الإسلامى سبيلاً لتنمية العقلانية الإسلامية . . وكان هذا التطور فى طبيعة المعجزة متناسبًا ومتسقًا مع مرحلة النضج التى بلغتها الإنسانية ، ومع ختم السماء سلسلة الرسالات والوحى إلى الأنبياء والرسل وأمم الرسالات . .
وثالثتها : أن العقل - فى الإسلام - هو سبيل الإيمان بوجود الله ووحدانيته وصفاته . . لأن الإيمان بالله سابق على التصديق بالرسول وبالكتاب الذى جاء به الرسول ، لأنه شرط لهما ، ومقدم عليهما ، فالتصديق بالكتاب - النقل - متوقف على صدق الرسول الذى أتى به ، والتصديق بالرسول متوقف على وجود الإله الذى أرسل هذا الرسول وأوحى إليه . . والعقل هو سبيل الإيمان بوجود الله - سبحانه وتعالى - وذلك عن طريق تأمل وتدبر بديع نظام وانتظام المصنوعات الشاهدة على وجود الصانع المبدع لنظام وانتظام هذه المصنوعات . . فالعقل - فى الإسلام - هو أداة الإيمان بجوهر الدين - الألوهية - وبعبارة الإمام محمد عبده : " . . فأول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلى ، والنظر عنده هو وسيلة الإيمان الصحيح ، فقد أقامك منه على سبيل الحُجة ، وقاضاك إلى العقل ، ومن قاضاك إلى حاكم فقد أذعن إلى سلطته . . " (1) .
وذلك على حين كان العقل غريبًا ومستبعدًا من سبل الإيمان فى حقب الرسالات السابقة على الإسلام . . حقب المعجزات المدهشة للعقول ، عندما كانت الإنسانية فى مراحل الطفولة " خرافًا ضالة " ، تؤمن بما يُلقى إلى قلبها ، دون إعمال عقل ، لأن الإيمان لا يحتاج إلى إعمال عقل . . وفق عبارة القديس والفيلسوف النصرانى " أنسيلم " [ 1033-1109 م ] .
ورابعتها : أن المقابلة بين " العقل " و " النقل " هى أثر من آثار الثنائيات المتناقضة التى تميزت بها المسيرة الفكرية للحضارة الغربية ، تلك التى عرفت لاهُوتًا كنسيًا - نقلاً - لا عقلانيًا ، فجاءت عقلانيتها ، فى عصر النهضة والتنوير الوضعى العلمانى ، ثورة على النقل اللاعقلانى ونقضًا له . . أما فى الإسلام ، والمسيرة الفكرية لحضارته وأمته - وخاصة فى عصر الازدهار والإبداع - فإن النقل لم يكن أبدًا مقابلاً للعقل ، لأن المقابل للعقل هو الجنون ، وليس النقل . . ولأن النقل الإسلامى - القرآن الكريم - هو مصدر العقلانية المؤمنة ، والباعث عليها ، والداعى لاستخدام العقل والتفكر والتدبر فى آيات الله المنظورة والمسطورة جميعًا . . وآيات القرآن التى تحض على العقل والتعقل تبلغ تسعًا وأربعين آية . . والآيات التى تتحدث عن " اللُّب " - بمعنى عقل وجوهر الإنسان - هى ست عشرة آية . . كما يتحدث القرآن عن " النُّهى " - بمعنى العقل - فى آيتين . . وعن الفكر والتفكر فى ثمانية عشر موضعًا . . وعن الفقه والتفقه - بمعنى العقل والتعقل - فى عشرين موضعًا . . وعن " الاعتبار " فى سبع آيات . . وعن " الحكمة " فى تسع عشرة آية . . وعن " القلب " كأداة للفقه والعقل - فى مائة واثنين وثلاثين موضعًا . . ناهيك عن آيات العلم والتعلم والعلماء التى تبلغ فى القرآن أكثر من ثمانمائة آية . . فالنقل الإسلامى - أى الشرع الإلهى - هو الداعى للتعقل والتدبر والتفقه والتعلّم . . والعقل الإنسانى هو أداة فقه الشرع ، وشرط ومناط التدين بهذا الشرع الإلهى . . ولذلك لا أثر للشرع بدون العقل ، كما أنه لا غنى للعقل عن الشرع ، وخاصة فيما لا يستقل العقل بإدراكه من أمور الغيب وأحكام الدين .
ذلك أن العقل ، مهما بلغ من العظمة والتألق فى الحكمة والإبداع ، هو ملكة من ملكات الإنسان ، وكل ملكات الإنسان - بالخبرة التاريخية والمعاصرة - هى نسبة الإدراك والقدرات ، تجهل اليوم ما تعلمه غدًا ، وما يقصر عنه عقل الواحد يبلغه عقل الآخر . . وإذا كانت ميادين عالم الشهادة - النفس والكون . .
أى الدنيا . . مفتوحة على مصاريعها أمام العقل وأمام التجربة - بالنسبة للإنسان - فإن هناك ميادين - وخاصة فى معارف عالم الغيب - سبيل معرفتها النقل - أى الوحى - والوجدان - القلب والإلهام - فالهدايات التى يهتدى بها الإنسان هى " العقل " و " النقل " و " التجربة " و " الوجدان " . . وليست العقل وحده دون سواه . . وبتنوع الهدايات وسبل المعرفة الإنسانية ، مع تنوع مصادر المعرفة الإنسانية - الوحى وآيات الله المسطورة ، مع الكون وآيات الله المنظورة - تتكامل وتتوازن المعرفة الإنسانية - وهذه هى نظرية المعرفة الإسلامية - بينما يختل توازن هذه المعرفة إذا هى وقفت - فى المصادر - عند الكون وعالم الشهادة وحده - وفى الوسائل وإدراك المعرفة عند العقل وحده ، أو العقل والتجربة وحدهما ، دون النقل والوجدان . . ولقد عبر عن هذا التكامل والتوازن فى - نظرية المعرفة الإسلامية الإمام محمد عبده [ 1265 - 1323 هـ / 1849 - 1905 ] عندما تحدث - فى تفسيره لآية ( اهدنا الصراط المستقيم )- من سورة الفاتحة - عن " الهدايات الأربع " - العقل ، والنقل ، والتجربة ، والوجدان كما عبر عن التلازم الضرورى بين العقل والنقل ، لتكامل المعرفة الإسلامية عندما قال : " . . فالعقل هو ينبوع اليقين فى الإيمان بالله ، وعلمه وقدرته ، والتصديق بالرسالة . . أما النقل ، فهو الينبوع فيما بعد ذلك من علم الغيب ، كأحوال الآخرة والعبادات . . والقرآن - وهو المعجز الخارق - دعا الإسلامُ الناس إلى النظر فيه بعقولهم . . فهو معجزة عُرضت على العقل ، وعرفته القاضى فيها ، وأطلقت له حق النظر فى أنحائها ، ونشر ما انطوى فى أثنائها . . وإذا قدّرنا عقل البشر قدره ، وجدنا غاية ما ينتهى إليه كماله إنما هو الوصول إلى معرفة عوارض بعض الكائنات التى تقع تحت الإدراك الإنسانى . . أما الوصول إلى كنه حقيقته فمما لا تبلغه قوته . . ومن أحوال الحياة الأخرى ما لا يمكن لعقل بشرى أن يصل إليه وحده . . لهذا كان العقل محتاجًا إلى مُعين يستعين به فى وسائل السعادة فى الدنيا والآخرة . . " (2) .
فالإسلام لا يعرف - على الإطلاق - هذه الثنائية المتناقضة بين العقل والنقل . . وصريح المعقول لا يمكن أن يتعارض مع صحيح المنقول . . ولقد عبر الإمام محمد عبده عن ما قد يتوهمه البعض تعارضًا عندما صاغ حقيقة هذه القضية فقال : " لقد تقرر بين المسلمين أن الدين إن جاء بشىء قد يعلو على الفهم ، فلا يمكن أن يأتى بما يستحيل عند العقل . . " (3) . . ففارق بين ما يعلو على إدراك العقل ، من بعض أمور الدين ، وبين ما يستحيل فى العقل الذى برئ ويبرأ منه الدين .
ومن بين علماء الإسلام الذين عبروا - بصدق وعبقرية - عن تكامل العقل والنقل - الحكمة والشريعة - حُجة الإسلام - أبو حامد الغزالى [ 450 - 505 / 1058 - 111 م ] عندما قال : " إن أهل السنة قد تحققوا أن لا معاندة بين الشرع المنقول والحق المعقول ، وعرفوا أن من ظن وجوب الجمود على التقليد واتباع الظواهر ، ما أُتوا به إلا من ضعف العقول وقلة البصائر . وأن من تغلغل فى تصرف العقل حتى صادموا به قواطع الشرع ، ما أُتوا به إلا من خبث الضمائر . فميل أولئك إلى التفريط ، وميل هؤلاء إلى الإفراط ، وكلاهما بعيد عن الحزم والاحتياط . . فمثال العقل : البصر السليم عن الآفات والآذاء ، ومثال القرآن : الشمس المنتشرة الضياء ، فأخْلِق أن يكون طالب الاهتداء المستغنى إذا استغنى بأحدهما عن الآخر فى غمار الأغبياء ، فلا فرق بينه وبين العميان . فالعقل مع الشرع نور على نور . . " (4) .
وهذه العلاقة بين العقل والنقل - علاقة التكامل والتآخى - هى التى أكد عليها أبو الوليد ابن رشد [520- 654هـ /1126-1198م] عندما قال : " . . فإنا - معشر المسلمين - نعلم على القطع ، أنه لا يؤدى النظر البرهانى إلى مخالفة ما ورد به الشرع ، فإن الحق لا يضاد الحق ، بل يوافقه ويشهد له . .
فالحكمة هى صاحبة الشريعة ، والأخت الرضيعة . . وهما المصطحبتان بالطبع ، المتحابتان بالجوهر والغريزة . . " (5) .
فالباب مفتوح على مصراعيه أمام العقل فى سائر ميادين عالم الشهادة . وهو سبيل الفقه والفهم والتكليف فى الشرع والدين . . لكن لابد من مؤازرة الشرع والنقل للعقل فيما لا يستقل العقل بإدراكه من أخبار عالم الغيب والحكم والعلل من وراء بعض أحكام العبادات فى الدين . . وما قد يبدو من تعارض - عند البعض - أحيانًا بين العقل والنقل ، فهو تعارض بين العقل وبين " ظاهر " النقل وليس حقيقة معنى النقل أو مرجعه إلى تخلف " صحة " النقل . . أو تخلف " صراحة " العقل . . أو وجود ما يعلو على الفهم ، لا ما يتعارض مع العقل . . فالعقل مع الشرع - كما قال حُجة الإسلام الغزالى - " نور على نور " . . وما الحديث عن التعارض بينهما إلا أثر من آثار الغلو فى أحدهما ، تفريطًا أو إفراطًا .
وإذا كانت البداهة والخبرة البشرية - وحتى الحكمة الفلسفية - تقول : إن من مبادئ الدين والشرائع ما لا يستقل العقل بإدراك كنهه وحقيقة جوهره ، فكيف يجوز لعاقل أن يدعو إلى تحكيم العقل وحده فى كل أساسيات الدين ؟ ! لقد قال الفيلسوف الفقيه أبو الوليد ابن رشد وهو الذى احترم عقلانيته المتألقة الأوروبيون والمسلمون جميعًا . قال عن رأى الفلاسفة القدماء فى مبادئ الشرائع التى لا يستقل العقل بإدراكها : " إن الحكماء من الفلاسفة ليس يجوز عندهم التكلم ولا الجدل فى مبادئ الشرائع مثل : هل الله تعالى موجود ؟ وهل السعادة موجودة ؟ وهل الفضائل موجودة ؟ . وفاعل ذلك عندهم محتاج إلى الأدب الشديد ، ولذلك وجب قتل الزنادقة . . فيجب على كل إنسان أن يسلم بمبادئ الشرائع ، لأن مبادئها أمور إلهية تفوق العقول الإنسانية ، وكيفية وجودها هو أمر معجز عن إدراك العقول الإنسانية ، فلابد أن يعترف بها مع جهل أسبابها . . " (6) .
فليس هناك عاقل يحكِّم العقل فيما لا يستقل العقل بإدراكه من مبادئ الشرائع والمعجزات ، وكنه وجوهر وحقائق المغيبات .
وليس هناك عاقل يغفل أو يتغافل عن مكانة ودور العقل فى دين الإسلام .
وإدراك وظيفة العقل . . وميدان عمله . . وحدود قدراته ، هو لب الاحترام للعقل ، وليس فيه انتقاص من سلطانه ، الذى تألق فى دين الإسلام وفكر المسلمين .
الهوامش:
---------------------------
(1) [ الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده ] ج3 ص 301 .
(2) المصدر السابق ج3 ص 325 ، 379 ، 397 .
(3) [ الأعمال الكاملة ] ج3 ص 257 .
(4) [ الاقتصاد فى الاعتقاد ] ص 2، 3. طبعة القاهرة. مكتبة صبيح بدون تاريخ .
(5) [ فصل المقال فيما بين الحكمة والشريع من الاتصال ] ص 31 ، 32 ، 67 . دراسة وتحقيق د . محمد عمارة . طبعة دار المعارف . القاهرة سنة 1999 م .
(6) [ تهافت التهافت ] ص 121 ، 122 ، 125 ، طبعة القاهرة سنة 1903 .
|