هارون عليه السلام نبي من الأنبياء:
لقد اختار الله هارون عليه السلام نبيًّا لبني إسرائيل يشد من أزر أخيه موسى ويعينه علي تبليغ دعوة الله، وفي الكتاب المقدس نفسه ما يفيد ذلك، من ذلك قوله: "فَاحْتَدَمَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى مُوسَى، وَقَالَ: أَلَيْسَ هَرُونُ اللاَّوِيُّ أَخَاكَ؟ أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ يُحْسِنُ الْكَلامَ، وَهَا هُوَ أَيْضاً قَادِمٌ لِلِقَائِكَ. وَحَالَمَا يَرَاكَ يَبْتَهِجُ قَلْبُه*فَتُحَدِّثُهُ وَتُلَقِّنُ فَمَهُ الْكَلامَ، فَأُعِينُكُمَا عَلَى الْقَوْلِ، وَأُعَلِّمُكُمَا مَاذَا تَفْعَلانِ" [الخروج 4/14: 16]
وقوله: "وَقَالَ الرَّبُّ لِهَارُونَ: اذْهَبْ إِلَى الصَّحْرَاءِ لاِسْتِقْبَالِ مُوسَى، فَمَضَى وَالْتَقَاهُ عِنْدَ جَبَلِ الرَّبِّ وَقَبَّلَهُ* فَأَطْلَعَ مُوسَى هَارُونَ عَلَى جَمِيعِ كَلامِ الرَّبِّ الَّذِي حَمَّلَهُ إِيَّاهُ، وَمَا كَلَّفَهُ بِهِ مِنْ آيَاتٍ* ثُمَّ انْطَلَقَ مُوسَى وَهَارُونُ وَجَمَعَا كُلَّ شُيُوخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ* فَحَدَّثَهُمْ هَارُونُ بِجَمِيعِ مَا قَالَه ُالرَّبُّ لِمُوسَى* وَأَجْرَى مُوسَى الْمُعْجِزَاتِ أَمَامَهُمْ* فَآمَنَ الشَّعْبُ وَعِنْدَمَا سَمِعُوا أَنَّ اللهَ قَدِ افْتَقَدَهُمْ وَنَظَرَ إِلَى مَذَلَّتِهِمْ انْحَنَوْا سَاجِدِينَ"[الخروج 4/27 :31].
فها قد صرح الكتاب المقدس بحمل هارون عليه السلام لأمانة التبليغ ليساعد أخاه موسى عليه السلام؟ ولا يليق أن يُحَمّل الله أمانة دعوته للداعية للوثنية وعبادة العجل.
كيف يصح أن يكون هارون صانع العجل ولا يعاقب؟
ثم كيف يكون صانع العجل هو هارون ويكتفي موسي باللوم عليه فقط؟ والذي يعاقب هو الشعب، كما جاء في الكتاب المقدس: "وَخَاطَبَ مُوسَى هَارُونَ: مَاذَا فَعَلَ بِكَ هَذَا الشَّعْبُ حَتَّى جَلَبْتَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْخَطِيئَةَ الْعَظِيمَةَ؟" [الخروج 32/21]، "فَهَتَفَ بِهِمْ: هَذَا مَا يُعْلِنُهُ الرَّبُّ إِلَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ: لِيَتَقَلَّدْ كُلُّ وَاحِدٍ سَيْفَهُ، وَجُولُوا فِي الْمُخَيَّمِ ذِهَاباً وَإِيَاباً مِنْ مَدْخَلٍ إِلَى مَدْخَلٍ، وَاقْتُلُوا كُلَّ دَاعِرٍ سَوَاءٌ أَكَانَ أَخاً أَمْ صَاحِباً أَمْ قَرِيباً * فَأَطَاعَ اللاَّوِيُّونَ أَمْرَ مُوسَى. فَقُتِلَ مِنَ الشَّعْبِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ نَحْوَ ثَلاَثَةِ آلافِ رَجُلٍ... [الخروج 32/ 27 : 28]، "وَلَكِنْ لاَبُدَّ مِنْ مُعَاقَبَةِ الشَّعْبِ عَلَى خَطِيئَتِهِمْ فِي يَوْمِ قَضَائِي* وَضَرَبَ الرَّبُّ الشَّعْبَ بالْوَبَأِ عِقَاباً لَهُمْ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ الَّذِي صَنَعَهُ هَارُونُ" [الخروج 32 /34: 35] فهذا دليل علي أن هارون عليه السلام لم يكن صانع العجل وإلا كان قد عاقبه الله على ذلك بالقتل؛ فقد أمر الرب بقتل من عبد العجل.
ذكر تكريم الرب لهارون في الكتاب المقدس:
جاء في الكتاب المقدس ما يفيد تكريم هارون عليه السلام من ذلك قوله: "لقد كرم الرب هارون تكريما عظيمًا فقد مسحه كاهن وصب من دهن المسحة على راس هارون ومسحه لتقديسه" [لاويين 8/12].
ليس هذا فحسب بل جعل الكهنوت لابنه من بعده: "في خيمة الاجتماع خارج الحجاب الذي أمام الشهاد يرتبها هارون و بنوه من المساء إلى الصباح أمام الرب فريضة دهرية في أجيالهم من بني إسرائيل" [خروج 27/ 21]، "ثم يتقدم الكهنة بنو لاوي؛ لأنه إياهم اختار الرب إلهك ليخدموه ويباركوا باسم الرب وحسب قولهم تكون كل خصومة وكل ضربة" [تثنية21/5 ]، "وكلم الرب موسى قائلا* قدم سبط لاوي وأوقفهم قدام هارون الكاهن وليخدموه* فيحفظون شعائره وشعائر كل الجماعة قدام خيمة الاجتماع ويخدمون خدمة المسكن* فيحرسون كل أمتعة خيمة الاجتماع وحراسة بني إسرائيل ويخدمون خدمة المسكن*فتعطي اللاويين لهارون ولبنيه إنهم موهوبون له هبة من عند بني إسرائيل" [عدد 3/ 5 : 9]، فكيف يكون من هذا حاله عابداً للوثن وداعياً إلي عبادة الأصنام بل ويجعل من نسله أنبياء ورسلا: زكريا، ويحيى، وعيسى عليهم جميعًا السلام، فكل هذا يدل دلالة قاطعة على أن هارون عليه السلام كان نبياً تقياً لا داعيًا لعبادة العجل و صانعًا له.
لماذا تم اتهام هارون بأنه هو صانع العجل؟
أما ما تضمنه الكتاب المقدس بشأن هارون عليه السلام فإنما هو من صنع كاتب الكتاب المقدس؛ فقد وصل إلي علم الكاتب أن أحداً من بني إسرائيل قد صنع عجل من حليّ القوم، فعبده بني إسرائيل في عدم وجود موسى عليه السلام، وعندما جاء موسى عليه السلام أمسك بهارون وعاتبه ونحره ولام عليه، فربط الكاتب بين صانع العجل وبين عتاب ولوم موسى عليه السلام لهارون ...فظن أن صانع العجل هو هارون، فدون هذا، وتناقلته الأجيال جيل بعد جيل.
قال الإمام الطاهر بن عاشور: " ووقعت في كتاب الخروج من التوراة في الإصحاح الثاني والثلاثين زلة كبرى؛ إذ زعموا أن هارون صنع العجل لهم لما قالوا له: اصنع لنا آلهة تسير أمامنا؛ لأنا لا نعلم ماذا أصاب موسى في الجبل, فصنع لهم عجلاً من ذهب0 وأحسب أن هذا من أثار تلاشى التوراة الأصلية بعد الأسر البابلي وأن الذي أعاد كتابتها لم يحسن تحرير هذه القصة ومما نقطع به أن هارون معصوم من ذلك؛ لأنه رسول" ([1]).
الهوامش:
---------------------
( [1]) انظر التحرير والتنوير 16/281 وما بعدها .
|