|
المقبرة
الناقل :
mahmoud
| العمر :35
| الكاتب الأصلى :
ابراهيم خرّيط
| المصدر :
www.awu-dam.org
في اليوم الثالث ظهرا انفض مجلس العزاء..
قوضت الخيمة الكبيرة التي كانت تحتل مساحة واسعة من الشارع..تفرق المعزون والمقرئون والمرتزقون ، بعد أن شربوا آخرفنجان قهوة مرّة،ودخنوا آخر لفافة تبغ.ولما لم يبق إلا نفر قليل من الأقارب والأصدقاء حملتنا بضع سيارات صغيرة وانطلقت بنا نحو المقبرة.
كان الطريق يتلوى صعودا نحو الجبل..هكذا كنا نسمي ذلك المرتفع الذى يحاصر المدينة من جهة الجنوب.وعلى جانبيه تلال من الركام والبقايا والأقذار،تمتد وتتطاول وتتناثر فتصادر مساحات منه حتى يكاد أن ينغلق. شعرت بالضيق والغيظ..استعرت نار في صدري وقلت في نفسي مستنكرا:كيف يجعلون من الطريق مزبلة . هذا الدرب الذي سوف نمشيه يوماً مرة أخيرة لا رجعة بعدها.أليس للمقبرة حرمه؟!أليس للموتى كرامة؟!استدركت بشيء من السخرية المرة:ماذا أقول أنا!وهل للأحياء حرمة أو كرامة!.توقفت السيارات في المقبرة ،وقفنا بخشوع،لم ينبس أحدنا بكلمة،كان الصمت سيد الموقف.أكاليل الورد بدأت بالزبول الا أن أحداً لم يعبث بها.قلت في سري:مازال للموت رهبته وللقبور قداستها،أو لعل الخوف من هذا المصير الذى لامفر منه هو الذي قيد أيدي العابثين والمتطفلين،اذ أن المرء عندما يقف هنا ويرى شواهد جديدة تغرس كل يوم ، في هذا الامتداد اللامتناهي يصبح شخصا آخر..يتبدل كليا..يشعر بالرهبة والخشوع،يترفع عن الدنايا ويسمو الى عالم تتجلى فيه الانسانية في أنقى صورها.
هممنا بالعودة بعد أن قرأنا الفاتحة..هدرت محركات السيارات وتحرك بعضها على عجل.
فاجأني صوت ضعيف خافت:
-هيه..أنت،انتظر..
شدني الصوت،تلفت يمينا ويسارا،نظرت ورائي،سمعت دقات قلبي،سرت رعشة في بدني..تساءلت:ماذا أصابني هل أنا أتوهم ؟!
كرر مرة أخرى:أنت ابق قليلا..أريدك.
تلكأت في المسير،تعثرت خطواتي..
نادى على صاحب السيارة التي أقلتني:ما بك؟ماذا تنتظر؟
قلت وأنا أحاول أن أخفي دهشتي واضطرابي:لاشيء،أنا آت.
جاءني الصوت مرة أخرى:هيه..أنت أيها الرجل،نعم أنت ..ألا تسمعني؟!قلت لك انتظر.
كان الصوت ينسرب من أسفل القبر الذى وقفنا عنده قبل قليل.
وهنت قواي،تسمرت قدماي في الأرض.التفت الى الوراء،رماني رفيقي صاحب السيارة بنظرة دهشة واستنكار وقال لائما معاتبا عندما وصلت اليه:
-لم نبق إلا نحن ،أنا وأنت ،ما بك.
تهاويت بجانبه فكرر سؤاله:مابك؟وجهك شاحب،وأطرافك ترتجف.؟لم هذا كله؟الموت علينا حق ،والميت كما اعلم ليس من ذويك ولا هو من أصدقائك المقربين.
ما كان عليك أن تنهار هكذا.
صمت لحظة ثم أضاف مستغربا:
-عيناك ذاهلتان دامعتان..هل بكيت؟
قلت وأنا أحاول أن أبرر موقفي:كلٌ يبكي على موتاه.
رد قائلا:هذا صحيح،ولكني ما عهدتك هكذا.
ظل الصوت يلاحقني.صداه يتردد في أذني، راجياً، معاتباً راجياً : لماذا انصرفت تنتظر وتسمعني.لماذا...لماذا..؟
انتبهت الى نفسي وأنا أقول بلهجة من يريد الاعتذار: سأعود، سأعود.
ظن صاحبي اني أتحدث اليه فالتفت الي وقال مستفسرا:الى أين..الى المكتب أم الى البيت؟ أيقظني سؤاله من ذهولي فقلت دونما تفكير:لاأدري.ثم أضفت:خذني الى البيت.
ساعات بعد الظهيرة كانت ثقيلة مرهقة.أحاول أن أبعد عن خيالي ما حسبته وهما فلا أفلح.الصوت يتردد في مسامعي وصداه يثير الرعشة في بدني وأنا بين واثق وحالم.قلت
محاولا أن أبدد سحابة سوداء في خيالي : هذا وهم أنا أتوهم . لقد هزني الموقف الى درجة كبيرة سدت علي مسالك التفكير فخلطت بين الوهم والحقيقة.
ضحكت ضحكة ساخرة..لم أقتنع بما قلت فأضفت:ما الفرق بين الوهم والحقيقة..ما الفاصل بينهما؟خيط رفيع،رفيع جدا.لقد التبست علينا الأمور وتداخلت المعايير،فلماذا لايكون ما سمعته حقيقة؟!لماذا يكون وهما وفي كل يوم،بل في كل ساعة يطلعون علينا بحقائق جديدة وأوهام جديدة حتى تهنا وتاهت بصائرنا..
قبل الغروب عقدت العزم واتجهت صوب المقبرة..ابتعدت عن البيوت وسلكت الطريق نحو الجبل.شعرت برعدة في أوصالي..ترددت الاانني لم أتراجع.وصلت القبر الذي وقفت عنده منذ ساعات..درت حوله..تأملته،حجارة جف طينها تكللها باقات ورد ذابل،وعلى مد البصر تناثرت آلاف القبور الكبيرة والصغيرة بغير انتظام..
ثمة بقاع أخرى خالية تنتظر أصحابها من بين الأحياء.
ساورني شك بما سمعته هنا،قبيل الظهيرة، فهدأت نفسي وشعرت بشيء من الارتياح.
نظرت حولي..
كانت الشمس قد بدأت تتكئ على الطرف الغربي للمقبرة ، حمراء كبيرة، والظلال الرمادية تمتد شرقا، تتطاول، تحاصر مساحات الضؤ الصغيرة المتبقية ثم تغطيها تماما.
ساد المكان سكون موحش تخللته أصوات طيور مهاجرة، وقبل أن أسلك طريق العودة فاجأني الصوت:
- ها..لقد جئت.كنت أعرف أنك ستأتي.
سرت قشعريرة في بدني.. انتفض قلبي بقوة .. ارتعبت .. التفت .. لم أر أحدا.
جاءني الصوت من القبر ذاته..رزينا هادئا وقد غلبت عليه رنة حب وحزن:لاتخف..أريد أن أسألك.. قاطعته متظاهراً بالجرأة والشجاعة : أنا لست خائفا ولكنني مندهش .. أنا لا أصدق . رد قائلاً : لاتصدق أنا لا ألومك .
قلت:ماذا تريد أن تسأل؟
سكت لحظة ثم قال بصوت خفيض متهدج:رأيت في عينيك دموعا حقيقية، نعم حقيقية،كنت تبكي بحرقة ، كنت حزيناً جداً .لاتقل انك بكيت علي. معرفتنا قصيرة ومحدودة،لاتدعو إلى هذا القدر من التأثر والانفعال على من كنت تبكي؟
قلت:عليك وعلى غيرك ممن غيبهم الموت وصاروا تحت التراب .. على الاخوة..على الأصدقاء الذين فارقونا ..علىالأبناء الذين اختطفهم الردى وهم في زهو الشباب..
ضحك ضحكة ساخرة حزينة ثم قال:
- أنت لاتبكي عليهم..أنت تبكي على الأحياء، نعم أنت تبكي على الأحياء. نحن هنا في مأمن، لاخوف علينا، الخوف والبكاء عليكم أنتم،يامن تدعون أنكم أحياء.بالله عليك قل لي:هل أنتم أحياء حقا؟! انظر اليكم ،أتأمل مساحات الحزن واليأس والخوف على وجوهكم.أنتم تموتون كل يوم،كل ساعة،منذ الصباح حتى الصباح،لاتقل لسنا جميعا كذلك،أنا أعرف هذا فلكل قاعدة استثناء،ومن تعنيهم ليسوا منكم..انهم بشر من نوع آخر..انهم غرباء عنكم ،لا أنتم منهم ولا هم منكم.أنا أعنيكم أنتم..يامن مازالت عيونكم تذرف دموعا ساخنة صادقة على كل ما ضاع وسيضيع..أنتم تستحقون البكاء ،نحن هنا نستطيع أن نجتمع ونلوم ونعتب،نقول ما نريد،لانخشى شيئا ولا نخاف أحدا..لابغضاء ولا كراهية ولادسائس ولا مؤمرات..كلنا متساوون،ليس بيننا حاكم أو محكوم ولا ظالم أو مظلوم،فلا تحزن علينا بل احزن عليكم.
تهدج الصوت ثم خفت، كأنه آت من بئر عميقة..
كأنه الصدى يتردد في فضاء المقبرة هادئا رتيبا متقطعا:احزن عليكم أنتم..احزن عليكم..ثم سكت تماما.اختلجت جوارحي..عصفت بي مشاعر عنيفة..
تلفت حولي..بعد قليل يهبط الظلام ويعم الكون سكون موحش.
أسرعت بالعودة،وعندما انحدرت من المرتفع الجنوبي الذي كنا نسميه جبلا،ظهرت معالم المدينة التي ترقد عند السفح بصمت وهدوء.مسحت بناظري تلك الكتل من الحجارة الرمادية والنوافذ الصغيرة والأبواب الموصدة..خلف هذه الأبواب والنوافذ ترقد كتل بشرية،هياكل عظمية يكسوها جلد متغضن..أفواه فاغرة لم تعرف الشبع يوما..عيون غائرة،ألسنة خرساء،أحلام مصادرة،رغبات مكبوتة،كلمات لاتقال الا همسا..عبارات نتبادلها بالاشارة.
وعندما تغلغلت في الشوارع والأزقة المعتمة،وهبطت درجات القبو الرطب الذي يأويني خيل الي أن مقبرة أخرى قد بدأت تبتلعني
|