كان القرع على الباب يزداد شدة، تابع الطرق الذي كان برؤوس الأصابع ثم ما عتم أن أصبح بكامل راحة اليد، كان الجرس الكهربائي معطوباً.
لم يود أن يقطع حلاقة ذقنه، بل رأس الفرشاة بالماء وعاد إلى فرك وجنتيه وذقنه، غير أن القرع على الباب ازداد حدة. تأفف وترك الفرشاة في طاسة الماء، ثم توجه نحو الباب، وفيروز تغني:
"عشرين مرة إجا الثلج وراح".
عندما فتح الباب طالعه وجهها المضيء، وجه له تقاطيع دقيقة وجميلة، وعينان تحملان خضرة كل الحقول والسهوب.
استقبل وجهها بابتسامة مندهش. وكأنها أدركت تأثيرها عليه، فتدللت متسائلة:
- "ولو! ليش ما تفتح الباب؟ هون سميرة؟"
ارتبك، ولكنه تمالك نفسه وهو يقول مرحّباً:
- "عفواً! كنت أحلق ذقني، تفضلي! سميرة موجودةً.
ظلت تحدق إلى وجهه، ثم انفجرت في الضحك، كان قد حلق نصف ذقنه، وترك الباقي تعلوه رغوة المعجون البيضاء.
أحس بارتباك لا يدري مبعثه، حاول أن يداري ارتباكه بمداراة وجهه وإزالة الصابون عن وجهه.
وهي تمر من جانبه، شم رائحتها، كانت ترتدي فستاناً زهري اللون، بأكمام منحسرة حتى الكتفين. أحس بجسدها وهي تنطلق من جانبه كغزال نافر، وخيل إليه أن جسدها يود أن يتحرر من الفستان.
وهو ينهي حلاقة ذقنه، كان صوتها الضاحك يصله من داخل البيت فيحس ارتعاشة سنونو فاجأه المطر، سقطت على وجهه زخة من الكولونيا المعطرة، ثم فرك يديه جيداً، مسد بيده اليمنى عنقه، ثم رش رشة من العطر، ودلّك أسفل إبطيه بيده المعطرة، ثم انشغل بمسح وجهه ببطن يده، وصدى ضحكاتها يرن في أذنيه.
أزاح عدة الحلاقة، وضعها بترتيب في العلبة الأنيقة، ثم مد يده إلى الطاولة وتناول علبة الدخان والقداحة. وأشعل لنفسه سيجارة، جذب نفساً عميقاً من التبغ، ملأ الدخان صدره ورأسه بانتشاء، ثم قام ومشى خطوتين داخل الصالون، وسمع صوت خطوات سريعة، وكانت أخته ترافقها عبر الصالون.
استدارت نحوه بينما وضعت يمناها على حافة الخزانة التي امتلأت بالأواني والتحف الزجاجية، سألته فجأة:
- "كيف أحوالك؟".
ابتسم نصف ابتسامة وأجاب:
- "بخير".
ولكنه همس لنفسه أي خير هذا الذي تحكي عنه!
قالت:
- "ألم يقل لك درويش أننا زعلنا من بعضنا؟ لقد طلبت منه الطلاق".
للحظة حدّقت إلى عينيه ثم أشاحت بوجهها بعيداً وكأنها تداري الخجل، وعندما توغل بصره في معالم وجهها مستفهماً استنجدت ببعض بسمة.
كان قد مل الكلام المكرر في مثل هذه الحالة، ود أن يقول لها: "اصبري فدرويش إنسان مسكين" غير أنه تراجع عن هذا الخاطر.
مل من الكلام المكرر. كان يعي أن ما تصرّم من أيامه كان خطأ، أراد الكذب على نفسه بأن يقول: لو... كان شيء ينغل في الكبد، ويهمس بفحيح شامت، إنك الآن قد تركت كل شيء وراءك، وإن مأساتك هي أنك قد صنعت نفسك. حددت كل الخيوط، ولم يكن عليك بعد سوى أن تحني الرأس وتسير، وتقول ما تقوله عن البرد والوحدة والخوف، عن نساء المدينة الكبيرة اللائي تظل أجسادهن لينة ورخوة أمامك ولا تفطن إلى فعل الزمان الطويل، والاستكانة المديدة إلى الراحة في البيوت بعيداً عن جلب الماء بكوراً وتعب الخبز والطبيخ. وعلى أعتاب اليقظة وجد نفسه، وكأنه يستيفظ من حلم، لم يقل شيئاً، ثم استجمع قواه وسألها:
- "أليس هناك مجال للتفاهم؟".
اعتدلت في وقفتها، ثم بحركة لا شعورية لملمت أطراف فستانها الزهري وقالت:
- "لا مجال للتفاهم معه! لا أستطيع أن أبقى معه!"
كانت نبرات صوتها تشي بموقفها الحازم، كان واضحاً أنها قررت الابتعاد عن درويش وبعد تفكير عميق.
"أبداً؟" سألها مستفهماً.
- "مستحيل!
ردت بتصميم وهي تحدّق هذه المرة إلى عينيه.
ربما أطال النظر إلى عينيها هو الآخر مدفوعاً بقوة غريبة، ولكن دون معنى، مما دفعها للسؤال:
- "مالك؟ ها؟ مالك؟"
- "لا شيء.
أجاب دون وعي.
واستدارت، ثم عبرت باب الخروج كغزال نافر..
والتقت عيناه بعيني أخته التي قالت بلطف:
- "هل تحس بوجع؟".
لم يجب وتوجه نحو الباب، ثم توقف برهة ليعاين حزمة من شمس الصباح كانت تسقط على أرض الصالون.
وعندما وضع قدمه على الدرجة الأولى سمع الباب يغلق وراءه