|
الرسالة النسيانية
الناقل :
mahmoud
| العمر :35
| الكاتب الأصلى :
محمد بلقاسم خمار
| المصدر :
www.awu-dam.org
رن جرس الهاتف بعنف، فاستيقظت مذعوراً ولم أدر أين أنا.. رميت يدي لأحمل السماعة، فاصطدمت بنظارتي السميكة، الموضوعة فوق الطاولة المجاورة، فتطايرت بعيداً.. بحثت مرتعشا عن مكان الهاتف،.. حملت السماعة بالمقلوب، صرخت: الو..الو..!- لم اسمع سوى وشوشة مبهمة،لم افهم منها شيئا ، اعدت الصراخ: الو ..من أنت ..ارفع صوتك، لم اسمعك ..! انتبهت إلى وضع السماعة فعدلته..الو..! وجاء الصوت واضحا.:
-صباح الخير..هل مازلت نائما..؟ إنها العاشرة صباحاً،
-الو.. عفواً ..من أنت من فضلك..؟
-الم تعرفني،. هل نسيتني، انا صديقك محمود..قم وارتد ثيابك، سأصعد اليك بعد عشر دقائق..
أمضيت خمس دقائق في البحث عن نظارتي، وقد وجدتها بعد أن مسحت أرضية الغرفة كلها بكفي .. وجدتها مختبئة داخل فردة حذائي..! فلعنتها..
وعندما طرق الباب، كنت داخل الحمام. فرفعت صوتي عاليا: دقيقة من فضلك.. وجففت وجهي بسرعة وفتحت الباب، ناسيا حذري واحتياطي..ومن حسن الحظ كان الطارق هو صديقي محمود..إلا أنني سرعان ما انتبهت إلى خطئي الجسيم في فتح الباب ، دون التأكد من هوية الزائر، وأحسست بموجة كدبيب النمل تكتسح جسدي، وبجفاف مرّ في حلقي ..ماذا لو كان الطارق شخصاً مجهولاً..!؟
رفع محمود سماعة الهاتف، وقال لي: سأطلب لك الفطور هنا في الغرفة، وسألني ماذا تريد ان تأكل..؟
-أجبته- بدون شهية للأكل - أي شىء خفيف..فنحن كما تعلم. لا نأكل صباحاً.. وتكلم قليلاً بالهاتف,, وسألني وهو يضع السماعة: والآن.. قل لي..هل تذكرت سبب مجيئك إلى دمشق..؟
-أطرقت..وضعت جبهتي بين اناملي، وضغطت عصرت فكري..ولكن دون نتيجة..كانت كل الاحتمالات تبدو لي ممكنة، وفي الوقت نفسه غامضة، وغير مقنعة..
-قلت له: الحقيقة أنني نسيت التفكير في هذا الموضوع ، ويبدو لي ، أنني لن استطيع الآن تذكر أي شىء..!
أخرج محمود من محفظته مجموعة من الاوراق، مرتّبة على شكل كراسة مدرسية ، وقال:
-استمع إذن..سأقرأ عليك، ما كتبه لي ولدك. عن أسباب مغادرتك بلدك، ومجيئك إلى سورية..
يقول ولدك الاكبر: " لقد كنا جميعاً نعلم بأن والدنا مريض بداء النسيان، وذلك منذ سنين طويلة.. وكنا نخشى أن يحدث له مكروه بسبب نسيانه، لذلك كنت وإخوتي وأحياناً الاقارب والاصدقاء، نقوم بمراقبته من بعيد ، ونتناوب على حراسته كلما خرج من المنزل.. وقد تدخلنا في الوقت المناسب ، وانقذناه من ورطات كثيرة.لا تعدّ، ولا تحصى.. ! إلا أنه منذ ثلاث سنوات تقريباً، اشتدّ عليه داء النسيان، وأصبحت ذاكرته شبه غائبة، لا تسعفه إلاّ لماماً...! ومما ازعجنا أكثر، وبعث في نفوسنا الرعب..أنه اصبح يقوم بأعمال خطيرة ويتصرف مع نفسه، ومع الناس، تصرفات غريبة، ومحيرة، الأمر الذي ضاعف من خوفنا عليه ، وجعلنا نتوقع أنه سيتعرض في يوم ما إلى أبشع العواقب..
لم نستطع حبسه في الدار ، لأنه يتمتع بكامل قواه العقلية، كما أكد كل الأطباء الذين فحصوه..ومع ذلك نراه من حين لآخر ، ينسى موقع نفسه من وضعية الظروف الاجتماعية المحيطة به، ويقوم بارتكاب أخطاء عجيبة تتنافى مع الجو العام" واليك ياعم محمود صوراً عن بعض تصرفات والدي..!
-قطعت قراءة محمود، اثر سهوة اختطفتني كالاغفاءة وسألته: ماذا تقرأ ..؟ وعمن تتحدث..؟
-أجابني بتذمر..انصت يأخي، إنني اقرأ لك ، ما كتبه ولدك عنك، وعن افعالك العجيبة .. استمع لي جيداً من فضلك، وركّز معي. وتابع تلاوة الاوراق...
" تسللت يوماً وراء أبي، فرأيته يدخل المسجد، فتبعته.. توضأ، ودخل قاعة الصلاة، وكانت ممتلئة بالمصلين، فتخطى رقابهم وجلس إلى جانب الإمام؛ الذي كان يقدم حديثا في الوعظ حول عذاب القبر، وذلك قبل صلاة العصر...رأيت أبي يرمق الإمام بنظرة مؤذية.
فتوجست خيفة من ان يقدم على فعل شائن...ثم تنفست الصعداء، عندما أبصرته يقوم. ويباشر في أداء ركعتين لله..! وبعد أن انهى صلاته..أخذ يتململ يمنة ويسرة..ويبحث داخل جيوبه..ثم تفاجأنا جميعا عندما رأيناه يخرج علبة التبغ والقداحة، ويسحب سيجارة فيشعلها، ويأخذ في مصّها بلهفة، وسحائب دخانها تملأ المحراب...!
وقف الامام غاضبا ، وهو يلعن ويحوقل، وشدّ أبي من خناقه.. بينما هرول المصلون نحوه وهم يزمجرون! اطردوا الكافر..اقتلوه..ولا ادري كيف وجدت نفسي مرتمياً فوقه .احميه بجسدي. واتلقى عنه بعض اللكمات والرفسات..
وأنا اصيح..إنه مريض ياناس..إنه غير طبيعي..وكنت اجرّه بصعوبة إلى أن أخرجته من الجامع تحت وابل من التهديدات واللعنات والشتم المقذع..!
عندما عدت به إلى المنزل" سألته: لماذا ياأبي اقدمت على تلك الفعلة الشنعاء، داخل بيت الله ؟
-أجابني وهو يتألم ويتأوه: لقد نسيت ياولدي أنني كنت في حرم المسجد.. ويشهد الله أنني لم اقم بذلك عن قصد لقد تخيلت أنني داخل مقهى. وتصورتُ الإمام الذي كان بجانبي أنه فنان ، او شيء من هذا القبيل.. استغفر الله..استغفر الله...وأخذ يبكي بتشنج..!
-مرة..كنا نتمشى فوق أحد الارصفة بشارع مزدحم من شوارع العاصمة..ولم انتبه كيف فلت مني إذ لمحته يقف وسط الطريق، إلى جانب سيارة مسؤول مهم ، متوقفة أمام الإشارة الحمراء..وسمعته يقهقه بطريقة استفزازية، وهو يشير بذراعه إلى ذلك المسؤول ويقول له: إنني معجب بادوارك المضحكة..إنك ممثل بارع..وركضت نحوه_ وكان حارس المسؤول قد سبقني إليه، فدفعه بقوة شديدة حتى وقع على الارض. فانتشلته وكان مايزال يضحك مع الدهشة. وأنا اجره نحو الرصيف..!؟ قلت له: إنه بالفعل يشبه ذلك الممثل الفكاهي ( فلان) الذي نشاهده في التلفزة، ولكنه ليس هو..الم تنتبه إلى لون سيارته الأسود، ويافطتها الحمراء_ ومظهرها الرسمي الواضح..الم تر السلاح الذي كان يحمله الحارس الجالس إلى جانب السائق..إن الفنان الذي تتحدث عنه أنت لا يملك حتى دراجة..!؟
واكتفى والدي بقوله..إنني آسف..لقد نسيت..!
-ماذا احكي لك ياعم محمود عن قصص أبي المفزعة..؟
إنه اصبح يختطف ما يجمعه المتسولون العميان ، في صحونهم من دراهم، ويقول: إنهم لايستحقون الصدقة..إنهم موظفون لصوص، يرتدون نظارات سوداء للتمويه..!
ويقتحم مكاتب بعض المؤسسات. ويوزع مالديه من اوراق نقدية على المستخدمين، وهو يقول لهم: انكم مساكين..طيبون، تستحقون الحسنة..! وطبعا يتخاطفون نقوده بشراهة- وهم يتغامزون..
اخيراً.. صار عندما يزوره أصدقاؤه، في المنزل للإطمئنان عنه، يعاملهم بخشونة وجفاء.. ويوجه اليهم بعض الشتائم، مثل: جبناء..منافقون..متقلبون.. انتهازيون، مما يجعلنا نكاد نذوب خجلاً، وقد اصبح الآن لايزوره أحد..ومن رآه من أصدقائه القدامى من بعيد ، يبتعد عن طريقه..!
لقد لمناه كثيراً على معاملته السيئة لرفاق عمره.. وكان يبرر تصرفاته تلك بأنه نسي معرفته لهم، وعلاقاته الماضية بهم، ولم يعد يذكر منها أي شىء، لذلك عندما يراهم يعتقد أنه امام غرباء.. ويظن انهم مجرد متطفلين جاء وا للتشفي منه.. او للتجسس عليه .!؟
منذ مدة قريبة، أخذ يزاول عادة جديدة، وهي أنه كل صباح، يرسل اخي الصغير ، فيشتري له مجموعة كبيرة من الصحف اليومية، فيقرأ جريدة او اثنتين منها، ثم يكومها على شكل هرم، ويشعل النار فيها.. وعندما عبرّنا له عن استنكارنا لتلك الحرائق اليومية ، علل ذلك بقوله : يطلع على الاخبار الساخنة، يشعر بالبرودة تسري في اوصاله... وينسى قراءة الجرائد كلها، فيحرقها ليتدفأ بلهيبها المتصاعد..!
وباختصار..لقد اضحى والدنا ، منبوذاً من معارفه. مهدداً ممن مسهم بمشاكل نسيانه ، مغضوبا عليه من طرف جيرانه، لذلك أجبرناه على مغادرة البلاد والسفر إلى أي مكان.. وهو الذي فضل الذهاب إلى دمشق ولم يذكر لنا السبب الذي دفعه إلى ذلك الاختيار..؟
طرق باب الغرفة ، ودخل عامل الفندق يحمل طبق الفطور..فوضعه فوق الطاولة وانصرف..
وسألني محمود..: لاريب أنك تذكر الآن الاسباب التي جعلتك تغادر بلدك وتأتي إلى سورية . لقد أصبح كل شىء معروفا بعد قراءة رسالة ولدك..ولكن هل تتفضل، وتقول لي: لماذا اخترت دمشق بالذات..؟
|