ولما استلم عبد الله دفة الحديث زاد على ما ذكره عبد الإله أنه أنفق راتبه واستدان أكثر منه؛ ولم يسد ثغرة الشتاء.
همهم عبد الإله، كأنه يمسح ماء وجهه الذي سفحه مجاناً وقال: كلنا في الهواء سواء.
واستدرك بسؤالٍ: أسمعت ما سمعت؟.
-: ما قصدك؟
-: يا أخي عن تخفيض قيمة مائة سلعة.
-: أتمزح!
-: ألم تسمع بذلك؟
-: الذي سمعته ستون سلعة.
تمتم عبد الإله قائلاً: نرضى حتى لو كانت عشرين.
رد عبد الله: قولك.. بشرى لو صدقت الأقاويل، ولكن.
فقاطعه عبد الإله: لا "تلكنها" يا رجل.
ثم روى عبد الإله، أن صديقه عبد الله وُجد مشنوقاً -بعد أيام- في ساحة السوق التجارية، فاستدعيت إلى المكان مفارز حفظ النظام والطوارئ والانضباط والقضاء والإطفاء والنجدة والإسعاف ورجالات الأحياء والمخاتير ومندوب جمعية الاستشعار عن بعدٍ والأمن والشؤون الاجتماعية وعناصر أقرب مخفر. فأبدى الجميع اهتماماً فائقاً بالمواطن عبد الله، كما بدا من تحركاتهم ونظراتهم وهمساتهم، وصمتهم الطويل، الذي تقطعه أسئلة المحقق واستفساراته عن اسم المشنوق، ومن يكون؟ فيشتعل السؤال على ألسنة المسؤولين اشتعال النار في الهشيم. الكل يسأل ولا مجيب!!.
إلى أن قال أحد الموجودين في الصفوف التي تبعدها الشرطة إلى الخلف.
-: إنه معروف، نراه يومياً.
-: أين؟
سأل المحقق بحدةٍ، فقفز حول الرجل عدد من العناصر، وأحاطوا به وعزلوه عن الجمع إلى أن قال: في الشارع.
فانفضوا من حوله وتركوه نقطة تتلاشى في الموج، وعاد السؤال يقفز على الشفاه:
-: ما اسمه؟ ألا يعرف أحدكم اسمه!؟!.
وتُسمع كلمات مبعثرة من أشداق الجموع: معروف -شكله مألوف- ليس غريباً تماماً- نلمحه أحياناً يمر بشارعنا- بالأمس كان يبحث عن... -قبل أيام سأل عن -قبل يومين باعني فراشاً- منذ مدة اشتريت منه مذياعاً -أول الشهر دفع- بعد يومين استدان-
-: ما اسمه.. اسمه؟.
طال الصمت ولم يجب أحد، وتلاقت عيون المسؤولين، ومسح بعضهم عرقاً تصبب على جباههم.
قال المحقق: قبل تشريح الجثة، لابد من معرفة شخصه، لذا لابد من البحث مرة أخرى في جيوبه.
بحثوا عن بطاقةٍ، أو إثبات شخصيته، فَعُثِرَ في شقٍ من جيب سترته على ورقةٍ مطوية، تناولتها الأيدي حتى وصلت إلى المحقق، نظر فيها ثم فضها، وبدأ يقرأها في صمتٍ ورأسه تنخفض مع سطورها، وتلوح من اليمين إلى الشمال بتؤدة، ثم تعاود القفز وتلوح من اليمين وتنسحب شمالاً وتستمر؛ وأحياناً تتسمر، حتى أتى عليها فطواها، ودفع بها إلى أول مسؤول وصلت إليه يده مشرئبة كالعنق، فقرأها وطواها ودفع بها إلى آخر، وظلت الورقة تنتقل من يدٍ إلى أخرى، ومَنْ يقرأها يغادر المكان، حتى انفض رهطهم، ولما قرأها آخرهم طواها وألقاها على مقربة من المواطن عبد الله.
ساد الصمت برهة، فتجرأ أحد الناس فاقترب واقترب باقي الناس، وهَمَّ أحدهم فالتقط الورقة وفضها، وارتفعت أصوات من حوله، أن اقرأها وأسمعنا.
فقرأ: يخفض ثمن الزنجبيل والعطوس والكافور والبخور والزعرور والقلفونة والصرمصرة وأجور الختان والطهور.
وعندما أتم قراءتها لم يجد أحداً غير الجثة شاخصة كأنها تقول: تصور!.
فخاف وأسقط الورقة من يده وأسرع مولياً.
قال عبد الإله: عندها كنت قد وصلت المكان، فهالني المنظر، وأخذتني المفاجأة، وسحقني الغم والحزن.
تطلعت حولي ولم أدرِ ما أفعله أمام جثة في فراغ. جثة من؟ جثة صديقي عبد الله!.
حاولت الاستنجاد، ركضت ذات اليمين وذات الشمال. لاحظت قدوم امرأة، عرفتها فهي زوجة المرحوم إذ سألته: أين "البونات" يا عبد الله؟.
أردت الركض إليها، لكن ورقة ملقاة عند قدميه جعلتني أتريث، أخذت الورقة فقرأتها وتابعت: يُخفض ثمن الدم... يُخفض ثمن السم.. إلخ..