تهب ريحها معولة كالشياطين، فتثير في طريقها الغبار والأوراق اليابسة والحصى، وتسفع الوجوه والجدران الطينية وذوائب الشجر الرعوي، فيتردد صدى عويلها في الوديان والشعاب عميقاً مخلفاً وراءه رهبة وجلالاً وضيقاً بهذا الجبروت، وهذه القسوة غير المبررة أحياناً، وغير المفهومة، لكنها باتت مع ذلك أمراً واقعاً عند الساكنين وكأنه قدر لا مهرب منه.
وكانت أمي تقف بطولها الفارع، وثيابها السود، وهي ترفع بيدها اليمنى قنديل الكاز، فتبدو في ضوئه الشاحب وجوه الحاضرين جامدة، قاسية الملامح كالصوان، وقد ترجرج في العيون خوف قديم وخاشع ولهفة غامضة وترقب لما تـأتي به اللحظات الغامضة.
كان الوقت رملاً ينسرب من بين الأصابع، أجنحة تحلق فوق الرؤوس وتصطفق، كان صوتاً يأتي من كل الجهات يحمل إلى الواقفين نداء غامضاً لأغنية الحياة المهددة، الحياة الخارقة التي تنبت في شقوق الصخور مثل وردة برّية من شوك العاقول.
ومن داخل الحظيرة جاء صوتها، حمحمة عميقة، تتصاعد من صدرها العريض وهي تدق بحوافرها الأرض، وكأنها تترجم ألمها الأعجم، لأنها غير قادرة على الإفصاح عن أوجاعها، أوجاع المخاض الذي دهمها قبل الأوان، فانطرحت على أرض الحظيرة، قبّة حمراء من الدم والألم والعصب والأنفاس اللاهثة والصهيل المحموم، وقد تصاعدت في الموقد ألسنة النار إلى جانبها، تحاول أن تساعدها في مخاضها الدموي العسير بالدفء والقوى الكامنة فيها.
- إنها تتألم.
قال أخي الأكبر بحزن وإشفاق فرد أبي بعصبية:
حتى الحمار يفهم أن الولادة لا تتم بدون ألم، فهل رأيت أنثى تلد وهي تضحك؟ اسكت.
وسكت أخي وهو الذي اعتاد مثله مثل الآخرين أجوبة أبي القاسية في مثل هذه المواقف المصيرية الحاسمة.
ونظرت إليه أمي، وكأنها تريد أن تقول له: انظر، كم تعاني الأنثى لتلد، فهذه الأوجاع لا يحتملها سوى نبي أو امرأة حبلى لحظة الطلق الأخير.
....
- كيف الحال يا شيخ أحمد؟!
سأل والدي الرجل المشرف على ولادتها، وقد بدأت حمحمات الفرس تعلو حيناً ثم تغيب بعدها طويلاً، وكأنها تحتضر لا تلد، فردّ الرجل المجرب:
- الله يأخذ بيدها.
- ونعم بالله.
- صلوا على النبي.
صاح الرجل وهو يدور حول الجسد المسجى، فترددت الأصوات بالصلوات، أصوات خاشعة وعميقة ومرتعشة كشموع في محراب صخري.
- يا ربّ...
وكزّ على الأحرف وهو يرقب حركة الحافر الذي يدق الأرض والحمحمة والعيون الخرساء الضارعة، والشخير، ثم شمّر عن ذراعيه حتى الإبط، ودفع يده المشعرة في الرحم وهو يرفع صوته النائح بأدعية وصلوات، وينادي، أجداداً له مغرقين في القدم، طالباً منهم العون والمساعدة في مثل هذا الموقف الحرج حتى لا يخذل.
- يا باز... كراماتك.
وتتابعت الزمزات والحمحمات قويه هذه المرة، وتعالى صوت الرجل من الداخل، واشتد عويل الرياح، وتراقص ضوء السراج بينما ارتجفت يد أمي، بينما ازداد تصلب وجوه الرجال، كنا نحس الموت قريباً جداً، بل نسمع صوت خطواته على الحصى وهو يتقدم متمهلاً مزهواً نحو الحظيرة.
النار، زيدوا النار حطباً، وهاتوا الماء الحار.
صاح الشيخ بصوت واثق، صوت بشري، فأسرع اخوتي يحملون الحطب، ويلبون طلباته، والفرس تضرب براسها ويتصاعد لأول مرة صوت طوق الفضة والخرز الأزرق في صدرها يطرد كل صوت عداه من المكان.
- الله أكبر.. صلّوا على خير البرية.
وشق الصهيل سكون الليل، فارتعشت الوجوه والحجارة والظلمة والأشجار أمام الميلاد الجديد، وكان الجسد الأملس يندفع من الرحم بيسر وسهولة.
- مهرة
صاح الرجل بعد فترة صمت، فانطلقت الفرحة من الصدور على شكل أصوات ودموع وحشرجات، ولأول مرة أرى أبي يبتسم.
ومن خلف البيوت جاءت جدتي، تتوكأ على عصاها، وحين رأتني صاحت بأبي باستنكار :
- كيف تتركها؟
وأشارت بعصاها إلىَّ ثم تابعت حانقة:
- ملعونة كل امرأة شابة تحضر ولادة مهرة.
فسكت الجميع، فالتفتت إليّ، وصاحت:
- عودي إلى البيت .
فانسللت خفيفة رشيقة، وأنا أحبس الفرحة في صدري، فللمرة الأولى سيكون لي صديقة في هذه البرية القاسية، صديقة أحدثها عن أحلام قلبي الذي بدأ يكبر.
...
- هذه المهرة مشئومة.
قالت جدتي، وجدتي عارفة بالناس، وأحوال الخيل والنساء والفصول، وأنواع الأعشاب النافعة.
- هذه المهرة أصيلة.
قال ابي باحتجاج خفي، ثم تابع وكأنه يقول مُسلَّمة لا تقبل الجدل أو النقاش:
- والأصيلة لا تخون .
- ومن أدراك ؟!
- هكذا سمعت من أبي .
- أبوك؟!
وهزت رأسها ثم قامت إلى المهرة، وأشارت إلى خيط أحمر ورفيع، وصاحت غاضبة وهي الوحيدة القادرة على الصياح في وجه الجميع دون أن تنتظر اعتراضا:
- لا تكن مجنوناً، انظر إلى خيط الدم هذا، إنه ينحدر من أعلى الأذن إلى ما تحت العنق، هل لك أبوك يعني؟!
- وماذا يعني ؟!
- ليكن خط العفاريت، فكل ما أعرفه أن الأصيلة لا تخون.
أمام الخيل يتحول أبي إلى صخر، لذا حدجته جدتي بنظرة قاسية ثم استدارت إلى الخلف وتابعت إلى البرية بحثاً عن بيوض العصافير والنباتات النادرة والفطر.
....
وعاشت المهرة
كانت صغيرة ورشيقة، لها جلد أملس وعينان بلون الكحل الأسود، وعُرف طويل، طالما ضفرته لها، وزينته بالخرز الأزرق وأجراس الفضة، فتبدو مثل أميرة تتمايل في جريها، وتميس، وهي تدرك نبل أصلها وعراقته فلا تأتي بتصرف شائن، تتناول طعامها من يدي فأحس وكأنها تهز رأسها شاكرة لي.
كان لمهرتي أناقتها..
وكان لها وسامتها..
وكان لها سلوكها الراقي.
وكان لها معجبوها .. أنا، والحجارة، والسهول، والأزهار ،وأهل البيت، والطيور.
وحدها جدتي كانت تكرهها، وتشيح بوجهها عنها، وترى في وجودها كارثه وشؤماً، فكانت كلما رأتها، تحوقل، وتبسمل، وتقرأ المعوذات وهي تنظر إلى السماء بقلق، وإذا ما رأتني إلى جانبها صاحت بي :
- أنت هناك. تعالي واتركيها..
فكنت أسرع امتثالاً لأمرها مكرهة، وأنا ألمس في أعماقي خيطاً رفيعاً يربط بيني وبينها، خيطاً من الدم الأحمر.
...
وكب جسدي، تفتحت كل ثماره الوحشية.
ولم يكن يرعى فيه سوى صهيل مهرتي وأنفاسها الحارة، مهرتي التي كبرت فكنت أندفع إلى جانبها صاعدتين التل حيث تبدو رفوف العصافير أقرب وهناك أدفن خطمها في صدري وأنا أضفر عرفها، فتصهل صهيلاً يوقظ كل شياطيني، بينما أحسّ بنفسها يلسع لحمي الحيّ، فأنظر من أعلى التلّ أرقب الطريق وأنا أتوقع فارساً يأتيني من وراء الغيم.
- قلبي يحدثني بشرّ مستطير.
قالت جدتي، وكان بصرها قد كفّ، لكنّ سمعها مازال قوياً.
- وكلي ربك با مؤمنة، هذه وساوس.
- قلبي لا يكذب فأنا أعرفه وأسمعه كما أسمع صهيل هذه المهرة. وتلاقت عيون الحضور، ولم يفه أحد بكلام فقمت إلى فراشي وسط وجوم غريب يلفني، وفي نومي رأيته في المنام، شاباً وسيماً يأتي من أعلى التلّ وكأنه بازي أو شاهين ينقضّ علي ويقودني أنا ومهرتي إلى الشرق ومن خلفنا خيط من الدم الرفيع لا ينقطع.رأيته يقودني بعيداً، وسط حقول خضراء مكسوة بالأقحوان وشقائق النعمان والباقلاء، ولم يكن في تلك الأرض أحد من الناس، وكان ثمّة صهيل يتبعنا، صهيل ورائحة دم، فاستيقظت مرعوبة، ولم أجرؤ على رواية ما رأيت.
...
مساء اليوم التالي ماتت جدتي .
غسلناها، ثم صلّى عليها الرجال، ودفنّاها في أعلى التلّ الذي كنت أجلس عليه مع مهرتي دائماً، وكنت أحسّ في بعض الأيام بصوتها يتردّد في أذني:
- ملعونة كل امرأة شابة تحضر ولادة فرس وتتفتح على صهيل فرس. فأعود إلى البيت، فأواجه عيون أبي وإخوتي وامي التي تجلس وحيدة في زواية البيت، وبعد العشاء آوي إلى الفراش، وأنا باتنظار حلمي الذي بات يتكرّر كثيراً.
...
صباحاً انطلقت مع مهرتي.
درنا حول التلّ، راقبت من مكاني هناك طيور الحجل الصاخبة، وزهر الأقحوان، وحجارة التل الساكنة، والسماء الزرقاء التي تمتد صافية كقبة من الديباج.
صعدت التلّ، وجلست أتأمل كل ما حولي، كانت بيوتنا بعيدة، وفجأة سمعت صوت حوافر جواده التي طالما تردّدت في أحلامي ،ومن بعيد رأيته قادماً، فصاح قلبي بين ضلوعي، وصهلت مهرتي بصوت ضعيف، صكّت أذنيها، وقمت من مكاني، كان الصوت يقترب.. يقترب.. يقترب والمسافة تضيق، فوضعت أصابعي على عنق المهرة، كان العنق يرتعش، وصوت الخرز الأزرق، وأجراس الفضة يتعالى، وأصابعي تغرق في سائل لزج ودافئ، للوهلة الأولى ظننته عرقاً يسيل فلما رفعت أصابعي، كان الدم يقطر منها على شكل خيط رفيع، فتسمرت في مكاني، أعولت الريح، وصاح قلبي كطائر محاصر. والفارس يقترب على صهوة جواده.
- لقد بدأ الغزو.
وتسمّر كل ما حولي، وظل الفارس وحده يتحرّك، وبدأ الصهيل، صهلت مهرتي، صهل حصانه، صهلت عيناه، وصهل قلبي ولم ينقطع خيط الدم، فثمة صهيل آخر لم يبدأ بعد.