وهو يعبر الممر الطويل، فجأة لمح الوجه الذي طالعه في الممر.
لم يعد يعرف كيف يتصرف. ود أن يدخل إلى أية غرفة قريبة كي يهرب منه. تطلع إليه، كان ينحني آنئذٍ نصف انحناءة، يضع سيكارة مشتعلة بين شفتيه ونظارة سميكة العدسات على عينيه، وتطوق خصره وزرة زرقاء انتفخ جيبها بفناجين القهوة المرة التي بدت أطرافها.
فجأة فتح باب إحدى الغرف، فصرّ صريراً ناعماً، ولمح في ضوء الممر الباهت امرأة تطل، نصفها الأسفل عارٍ، وهي تصرخ بصوت ممطوط:
_ "عيسى! أعطني إبريق الماء والطشت"!
جمدتّه المفاجأة، لمح عيسى يضع سيكارته المشتعلة على سطح رخامة الشوفاج ويرد بصوت مبحوح:
- جاي! جاي!
ويمشي بخطوات متثاقلة، وعندما مر من جانبه تطلع إلى عينيه بسرعة خاطفة، داهمه خوف من أن يعرفه، ورأى الفشل الكامل وتعب السنين في عينيه، ذلك الرجل الذي تخلى عن أحلامه ذات يوم في أن يصبح نجاراً كبيراً.
فتحت امرأة الباب ودعته إلى الدخول، كتفان ممتلئان ونهدان يستندان إلى حمالة زهرية اللون، وقف متردداً، أناس يدخلون إلى الغرف ويخرجون، وأناس يغادرون.
فكّر أن عليه أن يغادر المكان بسرعة، شعر بسعادة غامضة لأن عيسى لم يعرفه، وبرّر ذلك بمضي سنوات طويلة ومريرة أكلت جزءاً من بصره وسمعه. هكذا خمّن.
وهو يعبر الباب الخارجي باتجاه ضوضاء الشارع، استوقفه الشرطي في مفرزة الدخول، وطلب أن يشعل له سيجارة، كان يريد أن يمشي، أن ينسى ما رأى. مر من أمام موقع دمشق، تطلع إلى يمينه كانت تنتصب شجيرات الورد في حديقة الخدمات الطبية، لكنه تابع سيره ثم انعطف قرب الجامعة وتجاوز التكية بقبابها الأليفة، وهو يشعر أن شيئاً رهيفاً، شيئاً رقيقاً قد انكسر في داخله.
هو منذ سنوات طويلة لم يره، كان عندما يهرب من المنزل وهو طفل صغير، ويصل إلى مكتب والده داخل محطة القطار، يسارع عيسى الموظف الشاب الأنيق، ويحمله بين ذراعيه ثم يضعه على الأرض ويبدأ في البحث عن قطع الحلوى ليعطيه إياها، كان يحبه ويرتاح إليه، ويراه جميلاً، هكذا كان يراه.
وعندما صار في الصف التاسع كان يستمع إلى عيسى وهو يروي بعضاً من قصصه لشباب الحارة:
- آه لو عرفتم النساء الإنكليزيات! أنتم لا تعرفون أنا أعرف.
ثم يبدأ رواية قصة من قصصه العجائبية عن بعض السنوات التي قضاها في فلسطين في منجرة تابعة للجيش البريطاني.
وذات يوم قال له شاب:
- أنت تكذب.
ضحك عيسى وأجابه:
- كلنا نكذب، ولكن ما أرويه هو حقيقة.
في غرفة تطل على حديقة وسط المدينة يعيش وينصرف إلى دراسته الجامعية. يكون ليله سهراً طويلاً، إما في الجريدة حيث يعمل أو في بيت أحد الأصدقاء فكثيراً من أنخاب سعادة سريعة لا يفوت أوانها.
في تلك الليلة، وفي وقت متأخر أحس بثقل رأسه، نهض وضع ركوة القهوة فوق الغاز الصغير، وأضاف ملعقة سكر، صب القهوة في فنجان ثم أخذ رشفة وهو ينفث دخان سيكارته، عاد السؤال يطرق رأسه:
- "هل عرفني عيسى"؟!
حاول أن يزيح وجه الرجل العجوز عن ذاكرته، لم تكن به رغبة عميقة للاستطراد في استحضار ماضي الأيام، لكن ثقلاً يلاحقه في تلك الليلة.
تذكر وجه الرجل العجوز في المبغى، وجه عيسى! وكانت تحدوه رغبة في أن يخطو نحوه ويطلب إليه مرافقته إلى الغرفة أو إحدى المقاهي للثرثرة واستحضار الماضي.
كان يود أن يقول له:
- تعال واحكِ لي من جديد، حكاياتك ولنضحك عالياً! لكنك ابتعدت يا عيسى، وهبطت على درج السنوات العالي حتى وصلت إلى مكان مخيف!؟.
كان هدوء الليل مغرياً، وسيطرت عليه رغبة مفاجئة، في أن يخرج إلى صمت وهدوء الشارع يفتش عن النسيان، كان يتجول في شوارع المدينة التي استسلمت لليل، والصورة تلحق به، ترافقه على غير رغبة منه، صورة امرأة نصفها الأسفل عارٍ وهي تصرخ بصوت ممطوط:
- عيسى! أعطني إبريق الماء والطشت".