-
ايل يطلع من وراء رجم حجري، يضرب بأظلافه جلد الأرض الجاسي ويمزق رداء الهواء الرقيق عن عصافير وغبار وصخب، ويمضي فتياً جسوراً، يبحث عن شجر وغابة فلا يجد أمامه غير الفراغ الخاوي والحماد الذي يستعرض عريه القبيح تحت سماء من الفيروز الباهت، فتميل قرونه حتى تكارب الأرض بحثاً عن رائحة أنثاه، فأين مضت؟! من ذا الذي أطلق في أثر القطيع كلابه الشرسة؟! أيل، روح شاردة، خنجر لفراغ البوادي، مخمل لجسد الليل النقي يزين وحدته الوحيدة.
قال الهيام:
- آخ... قتلتني الوردة.
- من خلف أحد البيوت خرج الرجل، يرفع طرف جلبابه الأبيض النظيف بيد، وباليد الأخرى حمل إبريق الوضوء النحاسي الأصفر.، وعلى راسه الأشيب استقرت طاقية بيضاء
- يا حبيبي وحبيب الكل يا بهاء البهاء.
توهمتها في كأسها فكأنما
|
|
|
توهمت شيئاً ليس يدرك بالعقلِ
|
وصفراء أبقى الدهرمكنون روحها
|
|
|
وقد مات من مخبورها جوهر الكل
|
فما يرتقي التكييف منها إلى مدى
|
|
|
تحدّ إلاّ ومن قبله قبل
|
ورفّ جناح من البهاء والنور يصل ما بين سرّة الأرض وقبّه السماء الصافية، وتهادى قطيع من البقر الوحشي يرعى في مروج خضراء عشباً، وردّد ومن جديد:
- هذا الزغب الذهبي في فخذيها، لم خلقته يا حبيب الروح؟ لمَ تعذبني به؟!
- يا حبيبي، أنت الهوى، وهذا القلب تفاحة نضجت، ومع النضج جاءت الغواية، والدود، فمن لي غيرك ؟ أصابعك التي صاغتها عصباً ودماً وناراً وزغباً ذهبياً، يا حبيبي خذني إلى صدرك، فصدرها شرك لي، ضمني حتى أتوهم أنك أنا، وأنني أنت، أعطني صفاتك واسمك وخاتمك، وابعدها عني.
- البهاء بهاؤك، والجمال جمالك، أعنّي حتى لا يخرب القلب، ويصل السوس إلى الروح، فأنا أدري أن لاصلاح للقلب الخربان، يا حبيبي اشم ريحك في مكان فذوبني.
- دم ؟!
- قال ذيل كشف الظنون:
- ذياك البريق يخاتل الهدب، يسطع ماسة صغيرة، والكحل الذائب في العينين وحشي، وسارة تغتسل، المرأة تغتسل من ظنون كاليقين، من يقين كالظنون ولا مكان للأيل، تهذي:
- من اسلم راسك للذبح يا بن فاطمة؟! المدن الخائنة أم القلوب الخائفة؟!
-آهِ...آهِ
- من هناك؟1
- أنا..
- من أنت ؟!
- ماذا تريد؟!
- افتحي...
- لن أفتح إلاّ إذا عرفتك؟
- أنا حسين.
-4- الخواتيم
- كل الخواتيم كانت ماسأويّة
- ماتت الحكايات.
وقام إلى المطبخ، أحضر مكنسة، وبدأ في تنظيف الغرفة من أعقاب السكائر، وقصاصات الورق، ثم مسح بقع القهوة والشاي، ولم يجد ما يزين به المكان سوى باقة من البنفسج الذابل أهدتها له آخر مرّة زارته، وجلس ينتظر امرأة جميله ونزقة، تحب القراءة والتدخين وشرب قهوتها الصباحية في السرير، بينما ترك الباب موارباً
قال الكاتب:
قالت الحكاية:
وامتدت أصابع سارة إلى القفل فاستجاب لها، وواربت الباب بكتفها العاري، أحست بطعم الماء والخشب المبلول يتسلل إليها وجاءها العواء.
هذا العواء الصادر عن ذئب.
وهذا النهد ذئب
وهذا الماء ذئب.
وهذه الرائحة ذئب.
وهذه اللحظة ذئب.
وهذا الذئب ذئب.
وهذه المرأة...
واندفع قطيع من الذئاب ينهش الجسد العاري، يمزقه بقسوة فيسيل الدم، وتعبق الرائحة وحين يغادر القطيع المكان لا يخلف وراءه سوى الدم والعظام والرائحة...
صمت يعقبه قرع ناعم على الخشب، وترتجف حمامتا الصدر، ويزهو لون الحناء... ويعاود الصوت:
صوت يعبر البخار والماء ورغوة الصابون ورائحة الانثى الزاهية كشجرة دفلى ريانه، صوت فيه ذكورة مختمرة وناضجة وفحولة صاهلة:
وبدون سابق إنذار، يأتي النقر على خشب الباب، يأتي حيياً، يوقظ الخلايا فتسطع شمس صغيرة في النهد الأيمن تكللها رغوة الغار والماء وخصلات من الشعر.. تهمس:
ويصدح جسدها بألف لغة وكل لغة تبشر بجنة من تين وأعناب وخمر، ولا صوت سوى صوت الماء يختلط برائحة الأنثى والغار وجدران السيراميك والزغب الذهبي قصيدة معلقة تحت الإبط وفي باطن الفخذين وفوق الشفاه، زغب يطلع من اللحم رفيقاً رقيقاً، والماء يتحول إلى بخار، ينعقد تاجاً فوق شعرها الأشقر فتتورد فوانيس بالشهوة، تنام مدن، وتحيا مدن.
كل حرف تفاحة، وكل تفاحة مملكه
فنجان قهوة لحبيبتي التي عيناها من بابل ونهداها من سومر، وشعرها من جزيرة العرب.
حمامتان تهدلان على غصن أخضر
هذا القلب كأس من الذهب والياقوت أشرب منه دمك المقدس يا طفلة الأنبياء هذه النمنمات من أنامل ونعاس وأوراق الليمون.
سنونوة عائدة إلى عشها في القلب حربة موجهه إلى واجهة الليل تنقش في جبهته جرحاً.
هذا الجسد من البرقوق والكمثرى المعجون من ضباب وفلفل وحناء وبخور متى يكون لي؟
قال الختام:
وفاح عطر الكلمات، فاح عطر التفاح والنارنج، وتداخلت الحقيقة بالعطر، كما القهوة والماء، وشعر الرجل بأنه خفيف وقادر على الارتفاع حتى يلمس سقف السماء بأصابعه... وهاجمه الخوف، والهيبة، وكانت وردة الليل تمضي تحمل جرتها،وعنقها الأملود عنق ريم، وحين رفع الرجل الإبريق ومدّ ذراعه فأحسّ بسائل كثيف وحار يغسله يغسلها، ويقطر منها، فصاح وهو ينظر إلى السائل:
همس لنفسه، ورقت المشاعر، سالت كعذب الماء الصافي، تغسل درن القلب، وعليق الأسئلة الحائرة، وتترك الفرصة للبراعم كي تتفتح وتغسل أهدابها بنور الشمس، فتطل بعينيها الفضة من نافذة الروح، وكانت وردة الليل تمضي وساقاها عمودان من النور، وسرتها حُقّ للياسيمن والفل، وشعرها يمتدّ من مفرق رأسها إلى أظافر قدميها... فردّد:
وتفوح من آثار قدميه رائحة المسك والزعفران، ويرنّق البياض كل شيء، وتخرج من وراء التلة عارية كعشتار تحمل جرتها، وتمضي باتجاه النبع، تمضي وردة الليل، ونهداها يشمخان باتجاه السماء وكفلها كفل مهرة، وعيناها وردتان من شقائق النعمان، وكفاها من مرمر، ويزداد الجلباب الأبيض بياضاً. ومن الحجر تندّ تلك اللغة التي لا يفهمها سوى قلة من البشر، وينادى:
-
رجل يصنع من أكوابه وردة، يعمل على تربيع الدائرة مرّة، ومرة يقول الدائرة مثلثة، رجل يسكب في كل كوب حسوة من الشراب، ويبدأ طقوسه وشعائره، بادئاً بالأحمر المزّ فالأخضر النعناع، فالأبيض الدره، فالأزرق الحاد، فتشتعل حرائق باشتعال الألوان وتتداخل المرئيات في جنة إبليس، وينده صوت بغوم أغنّ، يا جنيد . صوت أنثى، غائم ودافئ من قرنفل وهيل وزعتر بري حضل الأوراق، شهاء البحة، هذه وردة الصاحب أم وردة الأكواب؟! وتطل صورة رجل على الصليب، رجل فرح يقيم وضوءه الدامي في أعراس الصلب، والحجارة والخناجر تنوشه، وهو يبتسم أمام وجوه العوّام الحاقدة ويردّد كمن يلعب بالنجوم:
-
هذا اللحم العدم لكم خذوه، جرّدوني منه وكلوه قبل أن ينتن ويأكله الدود,
ترميه الأيدي الحاقدة، ترميه العيون الحاقدة، يرميه الجهل والسلطة والغرائز الفائرة، ومع ذلك لا يبالي، يحدق في السماء البعيدة، ويتنهد: آهِ.. ويتابع صلاته الأخيرة، كان عالياً، اللحم يأكله من جسده الخشب والمسامير. ثم جاءت الوردة، وردة الصاحب الذي رماه بها في غفلة من العيون، ثم انسل كاللص، فصاح بألم وحزن:
قال ثم ترنم بنشوة لا يعرفها إلا من عاشر التكايا والخوانق والزوايا عمراً طويلاً:
صوت ينادي:
يا جنيد...
يلتفت، كان الأيل، والمرأة يغيبان وراء الأفق، ولم يبق في وردة الأكواب سوى الأحمر المزّ الذي تحوّل مالحاً كالدم، فمن ذرّ الملح على الجروح؟ من اسلم المدن بعدها لغزاة المغول والتتر؟!
قال وضوء الدم: