لؤلؤة الروح، ونوّارة القلب يا أمي. هي فجري، وشمسي، وهيامي، لن أستطيع أن أوصد قلبي دونها يا أماه.. سامحيني، فحينما تتهادى-بكعبها العالي- على حديد الجسر المعلّق أسمع الفرات يدندن بما يشبه الخرير، ثم يبسمل، ثم يتمطى، ثم يمضي في مجراه.. أما أنا فأنسى تعب الوقوف الطويل، وعطش الظهيرة ولفح شمسها المتربة.
*ولكنّ.. فيها جموحاً لايلائم رصانتك يابني.
- وماذا أيضاً ؟.
* أرى في نفسها دلالاً سيطفو كالزبد.
هكذا أنت يا أمي . عين ماء صافية. خضرة منعشة تشعل بهاء الحقول. مثلك لن يأتي في الزمن الذري، ولن يتكرر إلاّ إذا شاء الله، فدعيني أهيم في براري عشقي أبحث عن مهري الجامح.. أحاصره... أربّت على خصلات شعره .. أغمره بالطمأنينة كي يستكين .
تسلقت الدرج، وألقيت جسدي على فراشي الممدود فوق سطح الدار. لم أشعر بلذة التثاؤب من قبل كتلك الأمسية القائظة... الشاقة. تقلّبت كثيراً قبل أن يستقرّ بي المنام على ظهري. عقدت يديّ تحت رأسي، وأرسلت بصري في الأفق الشاسع أبحث عن حلم أشتهيه، فبدت لي السماء أبعد مما تكون- عادة-، ووجه مريم النقي يتألق وسط النجوم البعيدة جامحاً .. بهيجاً يبوح لي بأسرار الليل الداكن، وأنا مسحور بعذوبتها. أتنهّد بين الفينة والأخرى، وأمواج الحلم الهادر تتلاطم في رأسي، فأشعر بالدوار، ويخرّ قلبي على أعتابك يا مريم. ليت نبوءتك تكذب يا أماه، فقد مسّني الفزع، وأنا أدرى بحدسك الذي لا يخيب.. لقد جزعت، ونال السهد مني صرت مثل فراشة تلقي بجسدها في أحضان النار مأخوذة بالتوهج حتى الاحتراق لتبحث عمّا وراء التوهج، أو كشجرة تضرب بجذورها في عمق الأرض لتكشف كنه الأعماق. ليتك لم تبوحي بما أحسست - وقتها- فها أنذا أطلق قلبي في صحراء ملتهبة يتمرغ برمالها حتى تجفّ شرايينه وينسى وجه مريم الندي.
أخشى أن أقترب منك أكثر يا مريم، فيخفت وهج الحلم المتأجج في عيني، أو تتحقق رؤية أمي، فأخسر جنان الأرض، وأهيم شريداً ..منفلتاً في بيد الكآبة..
* قولي شيئاً آخر يا أماه
*ماذا ترى أنت غير ذلك؟!
أرى مريم ليست كالنساء.. وجهها الثلجي، وجسدها البريّ الناضج، وصوتها الموسيقي، عيناها، وشعرها، وأجزاؤها الفاتنة مثل أميرات الأساطير، لها سطوة خارقة تصفّد قلبي، وتغشاني حتى الجنون، وحين تغيب عني أشعر بالضيق.. أتفصّد عرقاً .. تتملكني وحشة غريبة كأنني في بطن حوت في أقصى أعماق المحيط...
*سر إلى مشتهاك يابني، فلا أطيق حزناً ينالك مني.
* سامحيني يا أماه.. العالم من دون مريم مقبرة واسعة تفزعني.
مريم..!!
يا سكون البحيرات، وذهب الشموس، وصباح العصافير.. هاأنذا أقترب منك، فمدّي يديك إليّ..
وهبتك قلبي فلا تخذليني، وكوني كما أشتهي أن تكوني..
لأدفن خوفي، وتنفض أمي وساوسها.. كوني يا مريم كوني يا..
***
ماكان لمريم أن تتكوّر هكذا، وتصبح كتلة من الشحم، واللحم، والبلادة.. ماكان لها أن تنام الليل كله،وأطراف النهار، ثم تجلس على طرف سريرها(دهراً قبل أن تتنبّه لوجودي في الغرفة إلى جوارها، ثم لا تعبأ بي.. ما كانت لتأكل بهذه الشراهة، وتسترخي بعدها الساعات الطوال.. ما كانت لتأكل، وتنام، وتكتنز، وتستديرلولاذاك العناد المتأصّل فيها جرّاء دلال طفولتها..
*أين أنت ياأماه؟1 لتجودي عليّ بما زودتك الأيام من حكمة
*أصبر يابني.. أعرف أن الفارس لا يستسلم
*لقد تعبت يا أمي، ماذا غير الصبر؟
*حاول ثانية، هذا قدرك و..خيارك
عبثاً يا أمي... مريم لايعنيها ما يجري في هذا العالم من أحداث لا تعرف عن أحوال الدنيا إلاّ ما يعرضه التلفاز ببرنامجها اليومي (طبق اليوم) ويستهويها- تماماً - عرض الأزياء، وأخبار الفن، وأسماء الشركات المنتجة للمأكولات المختلفة، وقذرات أخرى!!
كل الأشياء لدى مريم أرقام .. ومذاق..
هذا رابع ثوب ألبسه هذا الأسبوع، وذاك العطر الأول، في العالم، وتلك المصنوعة بالفلفل والكاري لها طعم رائع...
ماعدا ذلك، فثمّة أمور قليلة تسترعي انتباهها، ولم تكن تصّدق حتى اللحظة أن الجزائر استقلت،و(كاسترو) بات رئيساً لكوبا، وأن موريتانيا دولة قائمة- فعلاً - وليست من بلاد الأساطير، وكل ما تحفظه من معلومات عامة، وتتباهى به أمام جاراتها البائسات هو أن(كريستيان ديور) رئيس فرنسا "العظمى" وأن (نيلسون مانديلا) مطرب "البوب" المفضّل عندها، و(هتلر) مازال حياً.. مجنوناً بحب (إيفابراون) ويهددّ العالم بحربٍ كونية ثالثة إذا مسّ أحدهم شعرة من رأسها ..
هكذا وجدت مريم يا أمي، أو هكذا أصبحت - لافرق عندي - كتلة من الشحم، واللحم، والبلادة.. تأكل، وتنام، وتستدير لم تعد أفقاً للعشق، ولاخضرة للحقول .. ولم يعد الفرات يدندن على وقع خطوها.
ذات مساء. وقد تجمّع- عندنا - بعض الأصدقاء في سهرة عائلية.. حميمة .فرحت مريم كثيراً -كما لم تفعل من قبل- إذ وجدت الفرصة المناسبة لعرض مشترياتها على الساهرين من النساء والرجال- على السواء -للتباهي والمبالغة في الأسعار ثم لتقود دفّة الحديث بالاتجاه الملائم لخيالها المريض، وأحلام يقظتها الفجةّ، فتبدأ باستعراض ما قرأته في الصحف المتشابهة وماشاهدته في التلفاز للتدليل على عصريتها، فتصدّع رؤوس الساهرين حتى يذعنوا، أو يخفّوا مودّعين طلباً للسكينة.
هذا المساء. لا يختلف كثيراً عن المساءات المنصرمة، بل هو أكثر سخونة مما سبق نظراً لتراكم الأحداث، وكثرة التسوّق ودقة الموقف..
كانت مريم تثرثر-كعادتها- حين أزف موعد النشرة الإخبارية، فتوسلت إليها أن تصمت- قليلاً-رأفة بلسانها، ورفقاً بالحضور.. ولعلّنا نسمع مايسرّنا، ويسرّي عنّا في هذا المساء الصاخب الملتهب..
سكتت مريم ممتعضة، ورشقتني بنظرات نارية تحمل الوعيد والتأنيب، وتنذر بليل لن يمرّ بسلام . ابتسمت لها مستسلماً، واستدرت إلى التلفاز هرباً من مواجهة محتملة جاء الخبر الأول من الأراضي المحتلة: أطفال الحجارة يصعّدون إنتفاضتهم الباسلة ضد المحتلين، وجنود العدو يردّون بعنف وعرض المشهد المواكب للخبر..
(جمع هادر من الفتيان والفتيات يرجم جنود الاحتلال بالحجارة، ويمسك جندي بفتاة غاضبة ويسوقها إلى سيارة المعتقل-قسراً-.. تقاومه بشراسة فيشدّها من شعرها.. تتلوى، فيمزق ثوبها ويرغمها على صعود العربة، فتذعن.. وتلوّح لصويحباتها بشارة النصر)..
تأثّر الجميع بفظاعة المشهد، واغرورقت عيون النسوة بالدموع (حتى مريم!!).. بدت أكثرهن إشفاقاً وتأثراً بماترى .. وقتئذٍ. لمت نفسي كثيراً إذ ظلمتها، وظننت بها الظنون. سرحت معها لأيام الهيام الأولى، وليالي السهد الطويلة، حتى أيقظني من شرودي صوتها المخنوق بالأسى والدموع.. (تأتأت)طويلاً قبل أن تقول: يا حرام.. ما أقسى أولئك الأوغاد!!
أرأيتم كيف مزّقوا ثوبها الجميل، وأفسدوا تسريحة شعرها أولاد الـ...؟!.
ذهلت مثل الآخرين لما يقلق مريم .. شعرت بالإحباط .. إذ مزّقت حلمي، وأفسدت أملي، وأيقنت أن لن تكون إلاّ كما هي ...كما هي!!