بتـــــاريخ : 11/15/2008 7:51:56 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1745 1


    صدى الحقيقة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : محمد رشيد الرويلي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    الصرخات تشقّ حجب السماء، والهلع يغمر النفوس، والنوافذ تزفر أضواء ناعسة ملوّنة بلون الفجر، والهمهمات الراعشة تعلو في كلّ بيت..‏

    - أتسمعين يا امرأة؟‍‏

    - أسمع!. ما للريح تعوي؟!‏

    - أية ريح؟! أصغي جيداً..‏

    - رباه!! إنه صراخ ولدي حامد.. ألطف به يارب..‏

    - ماذا تفعلين؟!‏

    - أقبّل رجليك.. أرجوك يا أبا حامد أخطبها له.. إنه يحبها كثيراً..‏

    - سبحان الله وبحمده.. أنت مجنونة.. تعرفين البئر وغطاءه.. بنات الناس يريدون يا صالحة، وزبائن المقهى يتناقصون يوماً بعد يوم، وأسعار المواد مخيفة، ولقمة العيش أصبحت والله عسيرة.. كرام الناس أصبحوا ذليلين يا صالحة..‏

    - وماذا أصاب الدنيا يا أبا حامد؟!‏

    صمت أبو حامد طويلاً، ودمعت عيناه..‏

    - أتبكي يا أبا حامد؟!‏

    -أبكي على ولدي..‏

    - هوّن عليك.. أعرف ما نحن عليه من ضيق.. سيفرجها الله.. لكن ما أريده منك أن تطمئن باله..‏

    - إن شاء الله..‏

    الصرخات تعلو تمزق السكون بهمجية.. الأغطية تقذف، والأجساد الواهنة تهرول..‏

    - حامد!! حامد!! ما بك يا ولدي؟!‏

    كان وجه حامد يتصبب عرقاً.. فتح بجهد عينين يثقلهما النعاس، ورفع الأغطية متثائباً.. نشر ذراعيه في الهواء، وحاول الجلوس فلم يستطع، فعاد إلى الاستلقاء ملتحفاً بالأغطية..‏

    - حامد.. حامد.. ماذا ألمّ بك يا ولدي؟!‏

    - والدي! والدتي! مابكما؟!‏

    - أنت ما بك يا ولدي؟. لم تصرخ؟!‏

    - أنا؟!‏

    - أجل وصراخك أفزعنا والله..‏

    - ماذا؟!‏

    يخيم السكون هنيهة، وتعود الأجساد الباردة إلى دفء الفراش، وتستغرق النفوس في حكاية الأمل الذي يخبو كل ليلة..‏

    السحب السوداء تغطي مساحة السماء، ونشيج الأمطار يتعالى.. الشوارع اللامعة تتحول إلى أودية للريح، والأشجار التي ترقص في جنون ترفع رؤوسها لترتشف حبات المطر، وتنشئ حواراً صاخباً مع الريح والقهر والضياع..‏

    السكون والصراخ يتقاسمان كل مساحات الفكر المشتت المروّع.. فهل هذا المزيج بداية احتضار؟ أم أنه حلم الأهداب في سديم الشوق للأمل المتجدد؟ أم أنه نبضة ضوء تزيح دامس الظلام من النفوس المترعة ألماً ولوعة؟ أم هو موت الأرحام في حدائق الغربة؟! الصراخ مازال يتمطى على مقاعد الليل ينثر الهلع بسخاء في تقاطع الطرق.. هاهو يعلو يردد السكون صداه..‏

    المصابيح تضيء فجأة لتكشف بوضوح كل ألوان الستائر، وتفضح عرى الصدور والأعجاز، وخفايا الهزيع الأخير من الليل..‏

    - بسم الله الرحمن الرحيم.. ما بك يا أبا حامد؟!‏

    - أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. ما بك أنت يا صالحة؟!‏

    - صراخك أفزعني..‏

    - أنا أصرخ؟!‏

    - أي والله‏

    - نامي.. نامي..‏

    - اقرأ المعوذتين قبل أن تنام أرجوك يا أبا حامد..‏

    - حاضر.. حاضر..‏

    تتمتم الشفاه الراجفة بكل قصار السور، والألسن تلوك بصمت أحرفاً وكلمات تكسر مقلة الليل البهيم وتوقد شعلة الأمل..‏

    حدق العين تسافر في كل الجهات.. وجيب القلب يتسارع فيرتجف الدثار، ويتسلل من النوافذ هواء مبلل بالهمهمات، فيتحد الليل بالخوف، ويسود الهلع في كل فراش..‏

    ***‏

    أفاق حامد مذعوراً عندما لامست يده يداً معروقة تعبث في شعره..‏

    - أمي!!‏

    - نعم يا حبيبي..‏

    - ما بكِ؟! أرى في عينيكِ دموعاً..‏

    - يا ولدي أرجو أن تطمئن.. وداد ستكون لك إن شاء الله.. لكن الظروف غير مواتية الآن.‏

    - لا يهم يا أماه.. المهم رضاكما عليّ.‏

    - وفقك الله يا ولدي.‏

    لم يكن حامد يدري أن ما جرى في الهزيع الأخير من الليل هل هو خدر لذيذ أثقل الأجفان وأطلق اللسان؟. أم أنه كوابيس العوز والحرمان؟.‏

    قبّل يد والدته، وفتح نافذة غرفته فشعشع النور، وامتلأت الغرفة بهدير الحياة الذي نحس به قبل أن يقتحم بضوضائه مداركنا.. ذلك الهدير الذي يوقظ حواسنا ويرغمنا مهما كان حظنا من النوم على أن نهجر مخادعنا..‏

    تأمل الصباح المشرق فرأى أعراس الكون كم هي جميلة رغم ما جرى من صخب ومجون..‏

    أشعة الشمس انعكست على أديم السماء الذي رشح دمعاً كثيراً فصنعت قوس قزح امتص كل العناصر الملتهبة في ضوء الشمس، واحتضن ألوان الطيف بحنان..‏

    تأمل وجوه المارة فوجدها عابسة تنذر بخطر وشيك.. الأجساد هزيلة واهنة أعياها البحث عن البسمة الحالمة دون جدوى.. حوّل بصره إلى نافذة حبيبته.. رآها مشرعة وقوس قزح يبثها كل ألوانه..‏

    - هيا يا بني.. لقد تأخرت على أبيك.‏

    - دقائق وأكون إلى جانبه..‏

    ***‏

    كان المقهى غاصاً بزبائنه على غير عادته.. يعج بالحركة، وتفوح منه رائحة الغيبة والنميمة.. كلّ واحد من الجالسين يتحدث بصخب عن صراخ جاره وما رآه في البيوت التي أضاءت مصابيحها بعد الصراخ..‏

    - عندما بدأ الصراخ في آخر الليل رأيت بأم عينيّ منظراً لن أحدثكم عنه حتى أقف على الحقيقة هذا اليوم.‏

    - أنا رأيت رجلاً ملثماً يهرب من بيت أعرفه.‏

    - أنا رأيت امرأة تحمل نصف ملابسها بيديها وهي تهرول في الزقاق المجاور لبيتي.‏

    - أنا رأيت رجلاً في مخدع مطلقته.‏

    - أنا لم أر أحداً سوى أولادي وقد تحلقوا حولي يستفسرون عن سر صراخي..‏

    دخل المقهى رجل قصير القامة أصاب الصلع الجزء الأمامي من رأسه، ولكن ما تبقى لديه من شعر أطاله في سباسب تغطي المنطقة العارية بإتقان.. حدّق في الوجوه المتعبة التي أثقلتها الكوابيس وأمتعتها رؤية الفزع والفضيحة فجلس على كرسي في ركن قصي، واعتصر صدغيه بقوة بعد أن أطلق تثاؤبة طويلة فضحت أسنانه السوداء المهدمة، وأخذ يتمتم تمتمات غير مفهومة..‏

    تنحنح أحد الجالسين بقوة فتحولت العيون إليه.. مسح أنفه الدامع بخرقة لا تفارق يده وقال ساخراً:‏

    - عجيب أمر هذا الصراخ.. كلنا صرخنا، وسنصرخ كل ليلة إن شئنا أم أبينا.. زوجتي الوحيدة التي لم تسمع صراخاً أتعرفون لماذا؟؟‏

    ضحك الحاضرون عندما عرفوا أنها طرشاء، وتعالى ضحكهم عندما دخل الحلاق أبو سليم متثائباً.. كان منظره مضحكاً ومثيراً للشفقة بآن واحد.. له ذقنان وكرش يندلق بوقاحة وبنطال تساوى عرضه مع طوله متهالك على وركين متداعيين.. أخذ يجر رجليه بصعوبة وكأنه يمشي على أرض موحلة.. اهتزت يده مراراً تحية للجالسين، وجلس ينظف منخريه بعناية فائقة.‏

    صاح به أبو حامد قائلاً:‏

    يا أبا سليم: ألم تسمع البارحة صراخاً؟‏

    فأجاب ومازالت عقدة من أصبعه في أنفه: لا‏

    - وامرأتك ألم تسمع هي الأخرى شيئاً؟‏

    اقترب الحلاق مع كرسيه من أبي حامد وقال ضاحكاً:‏

    - زوجتي!! النوم يأتي إليها سريعاً، وإذا ما غفت فكل صراخ البشر لا يحرك لها جفن، ولطالما أخافتني وهي نائمة..‏

    - أتخاف منها وهي نائمة؟!‏

    - أجل يا أبا حامد.. ما إن تنام حتى تفر الدماء من وجهها فيصبح الوجه كالعصفر، وتظل عيناها نصف مغمضتين وقد غاب الجزء الحي منهما فلم يبق إلا البياض.. أما فمها فيأخذ شكلاً منحرفاً يقطر خيطاً لامعاً لا ينقطع، ويغطي سحنتها شحوب الموت..‏

    ضحك أبو حامد طويلاً وقال:‏

    - اتق الله يا رجل‏

    - صدقني يا أبا حامد لولا خفقان قلبها لظننتها ميتة.. كم تفزعني هذه المرأة قاتلها الله.‏

    ثمة شاب لم يشارك في كل ما قيل وسمع يقرأ كعادته في كتاب قديم لا غلاف له يدعَ الكتاب كلّ هنيهة ليمارس تمارين اليوغا محاولاً الارتفاع إلى تلك الحالة من الصفاء والشفافية التي تسميها التعاليم البوذية بـ(النيرفانا) والتي يظن أنها تتيح له الاندماج بروح الكون.. ما أن صاح به أبو حامد حتى انتفض كاللديغ، ونظر بقرف إلى وجوه الحاضرين قائلاً: ما رأيتموه هو من صنع أيديكم، أما ما سمعتموه فهو صدى الحقيقة اتقوا الله وارتجوا عفوه لعله يخفف عنكم، وأخذ يصرخ صراخاً مفزعاً لم يسمعه أحد من قبل، وقد أمسك رأسه بكلتا يديه ويضرب برجليه كل ما حوله حتى هوى على الأرض دون حراك والزبد يجلل شفتيه..‏

    كان والده يقول في عزائه:‏

    لكم آلمني صراخه في عتمة الليل منذ ليالٍ طويلة.. كان يصرخ كلما افتقد شيئاً أو عزّ عليه الحصول على مبتغاه.

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()