كنتُ لا أعرفُ معنى الموت.. أسمع عنه من دون أنْ أراه..
فَجْأة.. ودون مقدمات، ماتَ أخي الأكبر مني بثلاث سَنَوات..
في ظهيرة ذلك اليوم، وبعد عودتنا المدرسة.. كنتُ على موعد غداء أخير مع أخي.. الذي كان يتمتع بسُمْرة تزيده وَسَامة وَهَيبة..
كانَ بيني وَبينَه مَا بين الإشقاء الصِّغار من مشاكسات ومُناكفات..
في ذلك اليوم.. قرّر أنْ يدخلَ المُطبخ.. ودون أنْ يطلب من أمِّي أيَّة مساعدة..
أخذَ عدَّة حبَّات بطاطا.. قشَّرها.. غسلها.. ثمَّ وضعها في المقلى..
وببراءة الأطفال جلستُ أنتظر البطاطا المقليِّة..
وعندما وضعها أخي - رحمه الله - على الطاولة ليأكّل.. أكلتُ معه.. فلم يعترض.. ولم يسجِّل أيَّة مُلاحظة.. ولا حتى من خلال ملامح وجهه.. فوجئت بذلك.. فأنا أقتحم أشياءه من دون استئذان.. كان صامتاً.. لم يعترض على هجومي على الطبق.. ما أثار فرحي.. وتماديتُ في مشاركته الطبق..
لم يتكلِّم..
فالتهمتُ معظم البطاطا المقليّة بكل شهيّة..
وبهدوء جم.. وبحركات متأنيّة.. قام أخي.. حمل الطبق.. ووضعه في المغسلة.. ثم غسل يديه وفمه.. وذهب إلى غرفته..
في ذلك اليوم.. لم يفتح أخي التلفزيون كعادته.. فقد كان يطيل السهر.. درس قليلاً.. ثم ذهب إلى السرير ونام، وكان ذلك في وقت مبكر، وعادته التأخر على التلفزيون..
سمعتُ أبي يقولُ لأمِّي..
ما به خالد؟
أذهبي واسأليه لماذا نام باكراً؟؟
توجهت أمي نحو غرفة أخي.. وكنت قلقة أمثر من
عادت تقول:لا شيء هناك.. فهو يشعر بالنعاس..
ثم قالتْ والقلق في عينيها: له لا تقلق.. وصوتها يوحي بعكس ما تقول..
فلم يقتنع أبي بهذا الكلام..
الوقت مازال مبكراً.. والشمس بالكاد غربت منذ قليل.
وفي صباح اليوم التالي.. نهضتُ كعادتي متكاسلاً أجرُّ حقيبتي جرّاً.. وسرتُ نحو المدرسة وقد نسيتُ كلّ قصة الأمس..
ومَضَّى النَّهار في اللعبِ والمرح.. والدِّراسة..
وعندما عدتُ في الظهيرة.. وجدتُ الطبيب عندنا..
"ضربة شمس".. قال الطبيبُ ذلك بكلِّ ثقة.. ووضع له كيس (مصل).. ثم ذهب مطئناً راضياً..
بعد وقت يسير.. جاء عدد من أصدقاء أخي في المدرسة يسألون عن سبب غيابه عن المدرسة..
وكان أخي قد غاب عن الوعي تماماً..
فوجئ أصدقاؤه..
قالوا: لقد وقع خالد بالأمس على رأسه.. ونحن نلعب.. ألم يقل لكم؟؟
كانت صدمة للجميع..
لماذا لم يخبرنا؟؟
لماذا لم يقل ذلك؟؟
مم كان يخاف.. وما الذي أخافه؟!
وتحول بيتنا إلى حركة غير طبيعية.. لم أكن أعرف ما يجري تماماً...
أسرعوا به إلى المستشفى..
وكانت الصدمة الثانية..
الأمرُ غريبٌ.. الدماء تَملأ الرأس.. لماذ تأخرتم؟؟
كان النزيفُ قد أتلف الرأس كله..
بذلَ الأطباء وسعهم...
لكنَّ أخي رحَل بصمتُ..
رقدَ أخي في المستشفى أسبوعاً كاملاً يعيش على الآلة.. حتى نبضَ القلب مرة أخيرة.. وودع أمي وأبي اللذين لم يتركاه لحظة واحدة بعينين دامعتين ورحل..
قال أبي: فتح عينيه قبل لحظات من موته.. فرحتُ.. وكانتْ فرحةً لم تدُم فترةً طويلةً..
وعادَ أخي إلى البيت محمولاً..
وضعوه على فراشِه للمرَّة الأخيرة.. لنودِّعه..
كان سمرته أشدَّ وسامة من ذي قبل..
تذكرتُ طبق البطاطا..
الآن عرفتُ لماذا لم يعترض على اقتحامي لهذا الطبق واستيلائي على معظمه..
لمتُ نفسي..
وبكيت..
عرفتُ الموتَ.. ورأيته..
وانتقلنا إلى المقبرة.. حيث كان الوداع الأخير.. وكانت هذه هي المرة الأولى أيضاً التي أعرف فيها المقبرة..
شاهدتُ الدموع الحقيقية..
شاهدتُ أبي يبكي للمرة الأولى.. وأمي تصرخ من أعماق قلبها..
ودّعته.. قبل أن يغلقوا عليه القبر..
خفت أن أقبله..
أخي الكبير.. صاح وقد وضعوه في قبره.. أن تمهلوا.. دعوني أرى وجهه للمرة الأخيرة..
فرميت بنفسي على مقربة منه.. وألقيت معه آخر نظرة عليه..
كانت سمرته تزداد سمرة ووسامة..
ذهب طفلاً..
سمعت أمي تقول: إن الأطفال لا يعذبون.. وهم مثل العصافير في الجنَّة.. يفرحون ولا يحزنون..
فرحْتُ لأخي بجَنَّته.. لكنَّ أمِّي كانتْ على الدَّوام حزينة..
وكانت أوّل مرَّة أعرف فيها الموت.. وجهاً لوجه..
وظل أبي يتساءل دون جواب: ترى لماذا يخبرنا عن وقعته ذلك اليوم؟؟ لماذا؟!!