- كنت أعبّئ سلالي بغمار الندى، كي أقدّمه إليك هديّة.
خفضت الياسمينة رأسها خجلاً. أضمرت أن تردّ الهديّة بأحسن منها، فأخرجت من جرارها عطرها، وتوحّدت مع الضوء في عناق عذب لذيذ... فصارا واحتي التي أفيء إليها، أبثّها لواعجي، وانشدها الكتمان، واكتب أشعاري إلى جانبها.... تمنحني بيدراً من دفء، وتدفع لي بأضاميم، اقطف منها وأقطف، ثمّ أركض إلى مزهريات صغيرة، أودع ما قطفته، واضع في كلّ ركن من أركان المنزل مزهريّة... عندها يبدأ العالم احتفاله، وابدأ أنا نهاري بتفاؤل جديد.
في كلّ الصباحات المكلّلة بالانبهار، ترفع الياسمينة وجهها الوديع، تقبّل أنامل الشفق، فيتوالد السحر، ويتسّرب البخور دفّاقاً، وينهض اللون في أجنحة الفراش.وفي عيون العاشقين تنام اضمومة من الألق متواترة الارتعاش.
ببطء.. تقبل مزنة رائعة تتباهى بصداقة الزهور، وتوافي الياسمينة بزخّات تشهق بالوداد، وتنعش دروب القلب الذي اشقاه الظمأ.
تسألني الياسمينة:
- هل باستطاعة لمسة حنان أن تغسل دهراً من الألم؟
- نعم...
أجيبها، وطيف ابتسامة يؤاخي محيّاي، فيصبح الكون أمامي قبرّة تطير، وروحاً تتلهّف إلى وعد جميل.
***
يومها رأيت الفجر رماديّاً، والسماء بلون الدخان، وبدت بعض العيون سعيدة بما حصل. لقد كانت الياسمينة تُحتضر، أوراقها إلى يباس، وبياضها الناصع صار صفرة، وأمّا القامة الريّانة فقد داهمها المرض، ودبّ في أوصالها الذبول. استحضرت مواكب الحزن، اقمت لها فسحة وداراً.ندبت:
أي ريح شرسة راهنت على أشجاني، وايّة يد حقود قايضت بفرحها على احتراقي، وايّة دودة عابثة تجرّأت على إتلاف الجذور، وأيّ لهب ذاك الذي رموه في دائرة الطهر، واي وقت قائظ ألقوه رداء على حبّات الندى، وأيّة أمراس قاسية أحاطوا بها جيد البياض المهدور
-" ربّما لم تعتني بها.. إن الياسمين يموت عندما تبتعد يد الرعاية عنه،"
"لا.. لم أهمل ياسمينتي، لأنها جزء منيّ.. أتلهّف لرؤيتها، وأسعد بلقائها، وتمتد يدي برفق إلى حمايتها، وإبعاد الأذى عنها."
سمع عصفور الدار الاتّهامات الموجّهة لي.. قال:
" إن الوجع يبرعم في عينيكِ.."
لم اقدر أن أجيب.. فقد كانت عيناي تزهوان بدمع جم.
عرف العصفور ما صار، وأدرك أن الضوع قد غادر الحديقة إلى الأبد، وأنّ النقاء لم يعد له بيتاً، أو ناصية، أو عرزالاً ينام فيه.
رفع صوته باحتجاج، بغناء حزين، بتراتيل، باستفسارات لاتنتهي... هرولت اسئلته كوعول في متاهات الضياع.تكلّل الاختناق بإجابة واحدة:
" مات الياسمين"
قتلوه.. جمعوا له أعواداً من حطب الغابات ,اشعلوها في حضرته.. حملوا إليه وجوها مخيفة ضاقت مساحاتها بالود، فأرعبته، وعجّلت بنهايته.
قامة من الابتهالات كانت ياسمينتي، تبارك الرواح والغدو، تنشر ألقها في أماسٍ مزدانة بالفرح.تضمّخني بظلالها وهمسها فأنتشي... أدسُّ راسي بين حناياها كعادتي، أمرّغ وجهي على صدرها، وأنسى ، لحظة، أنني في حضرة الموت أقف، وأن الغالية تلفظ أنفاسها الأخيرة، وتهمس لي:
" إن حياتك تذبل دون ياسمين"..
في الأيّام التي تلت، كانت وصيّة الراحة قد أصبحت قيد التنفيذ، وكانت ياسمينة أخرى قد أرسلت لي في أوّل صباحاتها، أوّل هجائيات بوحها