بتـــــاريخ : 11/20/2008 9:20:13 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1070 0


    رؤيــا الريح

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : مســعود بوبو | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    منذ زمنٍ ليس بالقصير تهبّ في رأسي هذه الرياح.. وأراها من حولي رأي العين، في لينها وعتوّها، نديّةً وجافّة، عليلةً ومسعورة.. وتجدّد ألوانها.. وكلّما فكّرت بالكتابة عنها يتصعّدني همٌّ عتيق، ويصلني صوت مجنون بني عامرٍ من فلاةٍ بعيدةٍ، أبحّ كالصدى:

     

     

    تمرّ الصبا صفحاً بساكن ذي الغضا
     

     

     

     
     

     

     

     

    ويصدع قلبي أن يهبّ هبوبها
     

    ويقولون لي أنت واهمٌ، فالرياح لا تُرى.. وليس ماتراه سوى آثارها، وما من أحدٍ رأى الريح. أجل تنفعل لعبورها أجنحة الطيور، وتبدي الأشجار تجاوباً وانقياداً، وترسم ظلالها لوحاتٍ من الموسيقى المتوافقة مع موكب الرياح، وحقول القمح، ورقدة المياه ترتعش لها.. ولكنّ أحداً لا يرى الرياح...

    أَتَكتَّف إعياء وأتلفّع بالحيرة كصبي خيبته الرؤى.. وأصغي: ثمة صوت، وثمة صدى، وتجليات ألوان تأخذني من جوارحي، وتغيب.. فأرى رياحاً مثقلة بقطعان من القوافل تسد وجه الصحراء العربية، وبأفواج من غيوم كسلاسل الجبال الجهم، وأرى الأمطار مجفلة تلوذ بالأرض، وتغوص أو تجري بالفزع المباغت.. وأرى مخيمات من صفيح تنتزع وهي تتمزق وتستحيل أشلاء ولا تقتلع.. وأرى أفواجاً من البشر تهوي أمامها وترتمي على الأرض كأنّها أعجاز نخل منقعر، وتستطيب الارتماء..

    وأرى عن يميني رياحاً حواصب تختطف الهشيم والغبار والحصباء، ثمّ تلتّف على نفسها وتبدأ بالعلوّ.. وشيئاً فشيئاً تتلولب إعصاراً جارفاً وتمعن في الارتفاع مقشّرةً في تيّارها كلّ خفيف، حاملةً من لا جذور له حيث تشاء، ومعها ينتفخ من يستهويه الانتفاخ..وعلى الأرض الرمليّة يبقى أثر ذيلها كالذهول.. وعن شمالي أرى الرياح النّعور.. تتسارق في مرورها كفجاءة المصادفات.. تباغت بالحرّ وقت البرد، وتفاجئ بالبرد وقت الحرّ، تبهر في ختلانها بصيرة المؤمن.. وكالسراب يخدع ومضها الباحثين عن قبس من بريق، تثقب النوم القرير كغمزةٍ من سحرٍ وغواية، فيضع المأخوذ عقله على حجرٍ بجانب الطريق، ثمّ يرفرف خلفها متقافزاً هنا وهناك كحُبحُبٍ بذيلٍ مضيء.. وفي ساعات غفلة العقل ترى العين وهي تتحرّر من محجرها رياحاً تزهو وتزعق محتشدةً باللون والصدى.. تقول العين: هذه ريحٌ زعزعان.. وإمّا تصل تفتتح على نواصي المفارق ولولةً من طقوس التلّفت والاختبار:

    ترى حقول القمح والقصب تسفّهت قدّامها.. وترى من مشرق الأرض حتى مغرب الأفق قاماتٍ ليّنةً تنحني حتّى مُضيّ الريح.. ثمّ تخالس من حولها النظر، وتغتصب ابتسامةً بين الانتصار والانتحار... تتبحّر فيها العين ولا تنخدع، لا، لا تخطئ العين من ينتعش بالريح، ومن يرتعش لها...

    في بعض الأماسي والأصباح تكون الريح طيبةً ريّا.. يشفّ قميصها، ويرقّ صوتها فترى تهويدها سلاماً من الطيوب الأنيسة.. تراها ريدانة رُخاءً رُخامى.. من لينها يبتدئ الخلق... تفترّ الشفاه عن الأسنان، والبراعم عن ورق الورد، وتتفتح عيون الليالي على حلم يتحقّق في ضياء النهار، وتثمر السنابل والأكمام ويزهر اللوز والقرنفل، وتفصح الأرض عن قصائد من الوئام، وبالينابيع تسخو.. فتتشرّب العين ازدهار العمر تحت سمع الريح، وفي حماها.. وعلى مشارف الفصول أحياناً تحار العين.. يتناهب صفاءها وأمنها بدوات الريح.. وللريح في خوافق السماء بدواتٌ لا تُستجلى ولغةٌ مستغلقة.. تتأمّل العين وتقول: لقد راجت الريح فلا يُدرى من أين تجيء.. تقول هذه رياح حواشك اختلفت مهابّها وتباينت جهاتها... فمن يترجم لنا لغة الريح آنذاك؟! ولأيّة ريحٍ حينها نفتح نوافذ البيوت؟!

    بجلالٍ تنظر العين وتتساءل عن سرّ صمت ماحولها.. كليلةً ترتدّ عن جبلٍ وطيد، أو شجرةٍ غابت جذورها في الأرض، أو بيتٍ شيّد بموقف كبرياء، أو ظهر لا يرتمي ولا ينحني لغير الصلاة، ثمّة ريحٌ في كلّ مكان.. وثمّة ثوابت في كلّ مكان.. تمرّ عليها الرياح الهوج والحَرُور والهيْف والدّرُوج والجفول.. وتبقى... تأمّلوا حولكم في أناة.. وتشبّثوا بالأرض كالشجر العتيق، وانظروا إلى ما تفعل بالناس الريح حتى تقتنعوا بأن لها صوتاً ولوناً وقوّةً ليس من السهل أن تُقاوم...

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()