بعد تردد طويل، كان يقف أمام بيته، ويدق بابه دقاتٍ خفيفة وجلة.
مرّت الثواني بطيئة ثـقيلة، قبل أن ينشق الباب عن رجل سمع عنه قصصاً وحكايا غريبة. ولما كان لا يريد لأحد أن يراه في موقف كهذا.. أخفى جانباً من وجهه بجريدة يحملها في يده.
راودته الفكرة منذ شهور، بل منذ سنين. إلا أنه كان يبعدها عن تفكيره، ساخراً منها وممن يعتقد بها. ولما بلغت قضيته حد الأزمة، وتطورت إلى مأساة أنهكت بدنه ونفسه اتخذ قراره وعزم على تنفيذه.
صاحب الدار، بثيابه الغريبة الفضفاضة، ولحيته البيضاء، ومسبحته الطويلة.. استنكر زيارته، وساوره الشك منها، لأن زّواره عادةً من عامة الناس.. من البسطاء والساذجين والنساء، ولهذا تردد قبل أن يدعوه للدخول.
وبلمح البصر، صار في باحة الدار.
دخلا غرفة متواضعة، لم تدخل الشمس إليها أبداً، ولم يتسرب إليها إلا نور ضعيف من نافذة صغيرة ضيقة في أعلى الجدار.
مفروشة ببساط قديم ووسائد رثّة.. ألوانها كالحة ورائحتها مزيج من العفونة والعرق البشري.. نفذت إلى أنفه، فشعر بالقرف والغثيان.
سأله بعد أن جلس أمامه: ما حاجتك؟
أجاب متردداً: هي رؤيا.. أقصها عليك، أريد لها تفسيراً.
قال بآلية: نسمعها. هات. تفضل.
وعلى طقطقات حبات المسبحة، قال:
-أرى نفسي أمام قصر كبير، خزائنه مليئة بالذهب والحلي والجواهر.. موائده عامرة بأصناف الطعام والشراب. على بابه حرّاس أشدّاء.. يرفعون سيوفهم وحرابهم في وجه من يحاول الاقتراب.. يطول انتظاري قبل أن يطل صاحب القصر ويلقي إلي بالفتات.. أحمله وأهرع إلى بيتي، لأطعم الزوجة والأولاد وإن كان لا يسد رمقهم ولا يشبع جوعهم.. لكن وحوش الأرض تطاردني فأهرب منها بعد أن تنتزع نصفه.. ثم أجد نفسي في بحر تتلاطم أمواجه.. تحاصرني الحيتان وأسماك القرش.. تخطف النصف الثاني ثم أغوص.. أغوص إلى الأعماق. أصرخ فلا يسمع صراخي أحد، أستغيث ولا من مجيب... أختنق، قبل أن أصحو من حلمي مذعوراً. لم تظهر علامات الدهشة على وجه الرجل، بل ابتسم وقال:
-هذه الرؤيا تتكرر دائماً.
-نعم..
-متى؟
-كل شهر.. أقصد.. في نهاية كل شهر.
-هل أنت متأكد من أنها رؤيا؟
-نعم.. كل التأكُّد-
صمت الرجل العجوز، ثم قال والابتسامة ما زالت على وجهه:
-يا صاحبي، ماذا أقول لك.؟! هذه ليست رؤيا. فابحث عن تفسيرها عند غيري