بتـــــاريخ : 11/20/2008 9:24:54 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1066 0


    ذاك النســـيان

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : مســعود بوبو | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    أفواج من رياح اختلفت مهابها تتهاوى نحو مدينة ساحلية... ومن البحر يتلاحق تدفق الأمواج.. تلتحف المدينة بعباءة ضافية من الأصوات الليلية المبهمة، وتتنهد خارجة من سحابة النهار... حول سريرها القرير يتحلق الليل، يغمغم بأغنية بحرية وانية، وغير عجلان يغلق عيون النوافذ بآخر لمسة سهر، فتلقي المدينة رأسها على وسادة وثيرة من النسيان العذب...

    عندما راحت المدينة تسحب ثوبها عن الأرصفة، وصوتها من الشوارع والأسواق، بدأ مواطن يدعى "رمضان" يجر قدميه نحو بيته المجاور للمقبرة المسورة، قريباً من الضاحية التي لم يشملها المخطط التنظيمي بعد.. كانت أجنحة عصافير المساء الساحلي تندس فزعة في غصون أشجار الخرنوب، ومع زفير البحر كانت أوراق الشجر ترتعش وتذوب في سقسقة العصافير الصغيرة.. وكان المواطن "رمضان" ما يزال يزحف كالتثاؤب نحو بيته.. و "رمضان" رجل لا تعتريه الدهشة، و لاينتابه التحمس لشيء.. رجل تخطاه الفرز والاختيار، وضاقت به ثياب العجب، ومن يومها زهد في الألوان.. رجل تلقفته مداخل التجارب، وخلفته مخارج المحاولات صمتاً لا يلتفت إلى الخلف... ليس النوم مطلباً معلناً عنده، ولكنه -لو تحقق على أصوله- لبدأ ملاذاً معقولاً في زحمة اللامعقول... لِلْعصافير الشجر، وللسفن المواني، وللمدينة الليل.. وقد يكون للنفوس والأمم حالة مشابهة...‍‍‍!!‏

    في ذلك المساء الواعد بمطر ليلي عاود "رمضان" النظر إلى زوجته وأولاده: لم يجد بين شفتيه كلمة يقولها... وما اعتراه أي شعور بالطمأنينة أو بالخوف.. وهو أصلاً لا يتكلم في أمور كهذه، ولا في غيرها... بل يرى أن الناس استهلكوا أنفسهم وطاقاتهم وأفكارهم في كلام يكثر ويعاد بغير جدوى، في محاولة للتخلص من سوء الفهم... رنا الرجل إلى ما حوله.. ثم تَأَوَّى إلى غرفة نومه في هدوء مألوف.. في فراشه الدافئ راح ينصت لصوت الريح تلهث في خصاص النافذة، كبحة محزون يغني، واستعذب صبيب المطر المتمهل فوق صفائح معدنية في الجوار... شد ما تَحلَّى هذه النومة في طفولته!! تلك الطفولة العصية على الغياب... غاص في فراشه أكثر وأغمض عينيه، وراح ينسى: من البحر البعيد المستريح كانت تنشأ قيامة الغيم والموج حبالاً من مطر تتخاصر بالريح وتتوالي كملايين من السنابل تتمشط بالريح نفسها.. وفي المدى البحري الوسيع تخفق أجنحة نوارس بيض، وتتناهى إلى الذاكرة أغان قادمة من حقول بعيدة... تلك افتتاحية سمر للروح والنسيان، وفلوات تفتح المطوي، وتسحب الأرق من تحت الوسائد.... تلك سانحة مواتية للنوم الهنيء، و "رمضان" يفتتح نومه مع بدء رحلة الليل.... ينسى ذكريات الطفولة التي لا تنسى، يريح نفسه من عناء التفكير في مفهوم "المستجدات" و "المتغيرات" يتجاوز ماكان يكدر ليله من أزمات خانقة ويسترخي، يتخلى عن غيظه الكظيم، وتأزمه النفسي وإخفاقه في الحصول على حقوقه الإنسانية التي سُلِبَها مراراً بغير حق... كان المطر السخي يواصل تسكابه، والليل يزداد وداعة وقراراً، و "رمضان" يمعن في الارتياح والنسيان، خليا كالناس المنعمّين كان يتنهد، وخلف الذاكرة يرمي أوجاع جراحه النازفة.. ينسى كيف أتلف نفسه في العمل أملاً في أن يُقَدَّر، وتفادياً لأي لوم أو انتقاد. ينسى كيف أفنى عمره ليحظى بقليل من طمأنينة الليل وأمنه، ينسى ماعليه من ديون وتبعات، وما ينتظره من مسؤوليات لا سبيل إلى تجنبها، ولا سبيل إلى حلها... ينسى مرضه الذي كان يجدد تأجيل موعد التفكير بمعالجته.. ينسى احتياجات الشتاء الذي سيُحْدِق قريباً ببيته وأسرته... بل راح ينسى تلك الشكوى المتكررة التي كانت تلح على إيجاد شكل مقبول لحياته المهدورة بغير معنى: "أنت لست أكثر من منتظر لقافلة الموت".... وأوشك أن يردد: ولم الاحتقان بثقل هذا الشعور!؟ المقبرة قريبة من البيت. والدفن مؤاجرة.. إرادياً سينسى هذا أيضاً، سيتخفف من أوزار تقريع الضمير والندم لإهماله العناية بأبويه، وهو -عملياً- غير قادر على فعل شيء مُرْضٍ لهما حتى الآن.... وسيبعد عن ذهنه تلك الصورة الزاهية لحب قد يكون -لو تم- عزاء العمر كله...‏

    سينسى ذلك الإنذار الملعون بهدم البيت إن لم... سينسى هذه الهموم والمنغصات الآخذ بعضها برقاب بعض... بل سينسى ما حوله من هموم الناس، وهموم السياسة والمستقبل والوطن، وسيغفو.. سيستسلم لنوم لذٍّ عميق...ولكن جرس الساعة المنبه ينفجر بغتة برنينه الملحاح... وحين يسكت يصل إلى أذني "رمضان" وقعُ المطر الراتب فوق صفائح التوتياء في الجوار، ومن النافذة تبدو المدينة مستحمة بالنور والمطر...‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()