بتـــــاريخ : 11/17/2008 6:35:08 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1438 0


    هكذا يحدث دائماً

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : وصال سمير | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    شهقت حين رأته منتصباً أمامها بطوله الفارع، وسمرته القاتمة، لا يفصله عنها سوى عدد من الطاولات..‏

    تيبست في مقعدها حين التقت عيونهما، تسمرت، وامتدت نظراتها حتى قاع عينيه، وكأنها تود أن تشده إليها.. كان ذلك اللقاء مفاجأة لها.. لم تكن تتوقعها.. لم يكن وحده.‏

    إلى جانبه الأيسر، كانت تقف فتاة لم ترها "هدوة" في اللحظات الأولى. رأسها الصغير ملفع بغطاء رقيق، يستر خصلات شعرها وجزءاً من عنقها.‏

    تدفقت دماء حارة إلى وجنتيها ووصلت إلى قمة رأسها المتوج بجدائل سوداء طويلة.‏

    في جسدها النحيل سرت رعشة قوية.. مما جعلها ترتبك، وترتجف كعصفور صغير، جرفه تيار لا يرحم..‏

    وظل هو، يتأمل وجهها من بعيد وكأنه يراها للمرة الأولى.. نبهته الفتاة التي ترافقه إلى الطاولة التي انتقتها.. فسار وراءها دون تردد.. كمنوم مغناطيسياً.‏

    وصل نداء إلى فمها المختنق ولكنها أخرسته..‏

    اهتزت الكأس في يدها، وكادت تسقط من يدها النحيلة البيضاء.‏

    سمعت صوت حسان يقول لها باستغراب:‏

    -ماذا دهاك؟ أهناك شيء خطير؟..‏

    ظلت صامتة، ولم تحر جواباً.. ولما أعاد السؤال.. حاولت أن تعمل تفكيرها قبل أن تتلفظ بكلماتها:‏

    -لا.. لا شيء.. لماذا تسألني؟ ليس هناك شيء‏

    -ولكنّ تعابير وجهك، تقول غير ذلك، وشحوبك يدل على ألف معنى.‏

    -قلت لك.. لا شيء.. ألا تصدق؟‏

    -إذاً.. من أين أتتك هذه الرعشات. كادت كأسك تتحطم.‏

    صمتت "هدوة" كالمنومة، محاولة استجماع قواها التي خارت..‏

    وظل حسّان صامتاً، وقد قطّب ما بين حاجبيه، ثم بدأ يرتشف محتوى كأسه رشفة إثر رشفة...‏

    عادت نظراتها تجتاز الفراغ، والمسافة الفاصلة.. لتصل إلى تلك الطاولة اللعينة المنزوية في ركن المطعم الكبير، ثم تحطّ على وجه ذلك الشاب الأسمر الوسيم.. الذي استقر في مقعد، يقابل مقعدها.‏

    رفع ذراعه اليمنى، ومر بكف يده على الجانب الأيمن من رأسه.. ثم أسند رأسه إلى تلك الذراع..‏

    كل ما فيه جذبها لملاحقته.. عيناه اللتان طالما أحبتهما.. نظراته العميقة المستغرقة في حلم طويل، وهدوؤه الآسر.. لم تدر لم أحست بفرح خفي، حين لمحت شحوباً، يكسو وجنتيه وأرنبة أنفه.‏

    -إنه غاضب إذاً.. فليغضب.. ما زال في صدره شيء من الماضي وليحزن وليقتله الندم!!‏

    ألم يتركها تتألم طيلة الشهور الماضية؟.. ألم تفقد ثقتها بنفسها وبالآخرين؟!!‏

    أخذته منها فتاة أخرى.. كما هي العادة في قصص الحب.. نسي حبها الكبير في غمرة إحساسه بالغيرة عليها.. وتساءلت: أهكذا هي الغيرة.. تذهب بالعقل.. وتبقي الرأس خالياً من التفكير الصحيح..؟‏

    ولكن.. أين ذهبت ثقته بنفسه، واعتداده برجولته؟..‏

    إن كل ما فيه، يوحي برجولة آسرة، وساحته المغناطيسية تجذب المراكب، تنزع منها مساميرها، وتتركها محطمة على الشواطئ الصخرية العاتية.‏

    ولكنَّ الطود، تحطم على شواطئ الغيرة، وأصغى إلى همسات أتته متتابعة ومتزاحمة.. فاخترقت حجب نفسه، وزرعت فيها الظنون.‏

    صبّ عليها جام غضبه، متهماً إياها بما لا تعرف.. هربت من وجهه وكأنها لم تعرفه من قبل، دفاعها، لم يعد يجدي.‏

    -هل تقدم لحبيبها شهادات براءتها:‏

    لا لن تفعل، فالماضي المشترك، والعاطفة الكبيرة التي جمعتهما معاً، جديرة وحدها أن تطهر القلب، ليعود إلى صفائه.‏

    الألسنة لم تتوقف، والطوفان جرف معه ذكريات جميلة كادت تتكلل بزواج قريب.‏

    صفق الباب وراءه، ومضى..‏

    تركها وحيدة، مشردة الروح والنفس، تبكي بصمت، وتتحدث بلا رغبة وتحيا وهي تتألم وتتمزق.‏

    وها هي ذي تراه أمامها متأبطاً ذراع أخرى.. وها هي الآن تتقاسم مع شاب آخر تلك الطاولة.‏

    إذاً مضى إلى حاله، وذهبت هي إلى حالها.. وكأن شيئاً ما لم يكن أبداً.‏

    قبل شهر فقط، رنَّ في بيتها جرس الهاتف ليعلمها المتحدث أن حبيبها قد ارتبط بفتاة ذات حجاب.. إذاً.. الحجاب وحده، هو الذي شدّه إلى الأخرى الحجاب وحده، أعاد إليه الثقة في نفسه..‏

    ياله من رجل تقدمي.. يؤمن بحرية المرأة!!!‏

    الشيء الفظيع الذي ما زال يؤلمها.. أنها لم تخنه، ولم تفكر دقيقة بخيانته..‏

    أما ذلك الشاب، الذي اتهمت به، فلم يكن سوى زميل لها في العمل، يسكن في حي قريب من حيها..‏

    صحت من شرودها على صوت حسّان يطلب منها -إن احبت- مغادرة المكان. ولكنها لم تفعل، بل ابتسمت في وجهه ابتسامة جميلة حملتها كلّ ما في قلبها من شوق إليه.. ولم تعد تدري كيف شرحت له بهدوء عجيب، أن كل ما رآه لم يكن سوى زوبعة في فنجان.. أو وقفة قصيرة مع الذات جعلتها تدرك الحقيقة.‏

    إن من يجلس قبالتها.. هو الذي يحبها بصدق.. بينما الآخر جذبته أنوثتها المتدفقة، ومنعته نرجسيته من أن يخترق ذاتها، ليحبها هي بكل وفائها وإخلاصها.. لو أنه عرفها جيداً، وأدرك مكنونات روحها لما تطرق أي شك إلى نفسه.‏

    ودهشت حين سمعت حسّان يقول لها برصانة:‏

    -أتمنى ألاّ أكون مصدر ازعاج لك.. فربما ترغبين بالبقاء وحيدة في مثل هذه اللحظات؟..‏

    -وكيف ذلك؟ إن وجودك إلى جانبي، أعاد إلي الإحساس بإنسانيتي.. أعاد إلي الثقة بنفسي، بالحياة، وبالآخرين..‏

    نهر الحياة المتدفق، لا يتوقف يا صديقي.. نعم لا يتوقف.. فما كان البارحة مستحيلا، أصبح الآن ممكناً وسهلاً..‏

    -ولكني ما زلت مصرّاً على معرفة أسباب اضطرابك..‏

    -وهل هذا يهمّك؟‏

    -أظن.. أنه يهمني..‏

    تبادل الاثنان النظرات بهدوء وسكينة.. وتناست هي الشخص الذي يراقبها عن بعد..‏

    غرقت في بحر عينيه.. استراحت على شواطئ روحه الرملية الملساء.. انتقلا في دقائق إلى ظلال غابة من أشجار النخيل..‏

    وحين عادت إلى مقعدها.. لم تجد الرجل الآخر..‏

    همست برقة متناهية: حسّان.. إنك كالصاعق.. فقد نجحت في امتصاص حممي.. قبل أن تهبط الصاعقة لتحرقني، وتدمر كل ما تلمسه بي..‏

    -ووجودك أنت إلى جانبي رائع أيضاً.. كان لا بد من تلك اللحظات كي أعرف مقدار حبي وتعلقي بك..‏

    -أما زلت مصرّاً على معرفة أسباب انهياري؟‏

    ولكنه لم يجبها..‏

    وحين وصلا إلى المنزل، أخذها بين ذراعيه، وترك رأسها يغفو على صدره، فقد أدرك بذكائه أنها رجعت من رحلة طويلة، لاقت فيها من الألم والعذاب الشيء الكثير.‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()