قلت: حسناً...لنجرّب.
اقتربنا منه، كان يجلس القرفصاء، لم يحلق شعر ذقنه منذ أيام، اختلط فيه البياض والسواد بنسبة أكبر مما هو عليه شعر رأسه المنفوش، ثيابه رثة...متسخة...وغير متوافقة مع مقاسات جسده الضئيل المعروق.
وقفنا قبالته، بادرناه بالتحية، لم يردّ. كأنه لم يسمعنا أو يرنا. أغراه صديقي بالقول: "ردّ علينا وخذ "مصاري". ومع ذلك بقي صامتاً...لا يبالي...وظلت عيناه جامدتين، لا ترمشان، ظلتا مشدودتين إلى شيء ما...شيء بعيد كالأفق.. قلت لصديقي: "إنه شارد الذهن". علّق صديقي مبرّراً: "تلك عادة العباقرة...نعم إن التأمل والشرود عادة العباقرة...لعله يعيش لحظة إبداع وابتكار!!" طلبت من صديقي أن نمضي في سبيلنا. قال: "أنت دائماً هكذا...بصلتك محروقة". ثم التفت إلى الرجل. بعد أن أخرج من جيبه ورقة نقدية وعلبة تبغ وقداحة. مد يده بها إلى الرجل وهو يقول: "تفضل ياأستاذ عطوان.. مافيه شيء من قيمتك".
استيقظ عطوان من رحلة خياله، تماماً مثل قطّ اشتمّ لتوه رائحة لحم طري، فاستنفرت حواسه وغرائزه، رمقنا بنظرات جائعة واختطف الأشياء من يد صديقي بلذة وحماسة.
دهشنا واستمتعنا بمراقبة سلوك عطوان، الذي مالبث أن انتزع لفافة، وأشعلها، وأخذ يدخنها بشراهة وصمت، بينما بقينا أنا وصديقي نراقبه بصمت، وننتظر الفرصة المناسبة لمحاورته. أخيراً رفع بصره نحونا، وراح يتأملنا بارتياب وخبث، ثم فاجأنا بقوله:
"هذا الكرم ليس لله، هاتوا من الآخر"
علق صديقي: سامحك الله يا أستاذ عطوان! أهكذا تعامل من يحبك ويهتم بك، صدقنا لا غرض لنا إلا راحتك... وإذا شئت نمضي حالاً"..
بدا التأثر على وجه عطوان. فاستدرك قائلاً:
- " مهلاً... خفت أن تكونا مدسوسين...ولكن لا يهمني...حتى لو كنتما من القطيع...واعلما علم اليقين أنه لا فرق بين الجاسوس والمغفل والخروف".
دهشت، وازدحم الضحك في حلقي، ولم أتمالك إلا أن سألته:
- هل ترى علاقة بين الجاسوس والمغفل والخروف؟
وانطلقت من صدر عطوان قهقهات منغّمة، وشعرت حينئذ بعدم الإحراج، وبأنني قادر على الضحك مثله، وسرت عدوى الضحك إلى زميلي الذي قال وهو يضحك: "ألم أقل لك!! إنه مثيرٌ ومسلٍّ".
هدأ عطوان قليلاً وعلّق:
- لدّي فراسة قوية، كنت أحس أنكما من القطيع.. ماع... ماع...
واستمر يقلد ثغاء الحملان، ونحن غارقان في الاستغراب والدهشة والتساؤل عما يعنيه بعباراته ووصفه لنا.
زهير.. صديقي تدخّل بلباقة وقال لعطوان، وهو يشير إليّ:
- أعرفك بالأستاذ ناصر. إنه صديقي.. يريد أن يتعرف بك، ويسمع منك بعضاً مما تبتكره مواهبك الفذة.
سأل عطوان متردداً:
- ولماذا؟ هل هو صحفي؟
- أمسك زهير طرف الخيط، وأجاب:
- أنت ذكي فعلاً...كيف حزرت؟
- قلت لكما: لدي فراسة قوية؟
- إذن هلاّ تكرمت علينا، واسمعت الأستاذ ناصر؟!
- ليس قبل أن تبيّض الفال... وتدفع... الفن يحتاج إلى الخبز..
ونقده صديقي ورقة نقدية للمرة الثانية.. وبدا الحبور على وجه عطوان فقال: "الآن صرت قادراً على الكلام والعمل... حسناً سأوجز لكما قصتي، قبل أن أقدم لكما عرضاً نموذجياً تطبيقياً لعمل من أعمالي المشهورة عالمياً"..
وراح عطوان يسرد لنا نتفاً من سيرته، ومما قاله لنا:
"كنت عضواً بارزاً في "الأوركسترا" الوطنية، وحينما أتيحت لي فرصة الترقية، لقيادة الفرقة الموسيقية، تعرضت لمؤامرة دنيئة، وخانني أعز أصدقائي وتلامذتي، وروجوا حولي شائعات خطيرة ومغرضة، حتى إن البعض اعتبرني هرطقياً...مشعوذاً، كما شكك آخرون بموهبتي وخبرتي وجدارتي وإخلاصي.. أوه.. ياللحسد والنذالة والأنانية...أوغاد...خونة...خراف...صدقاني..لم تكن عقولهم في رؤوسهم قطعاً. كانت عقولهم في قرونهم... نعم في قرونهم"...
وأخذ عطوان يطلق من فمه ثغاء ممطوطاً...مقهوراً.. وساخراً.. ماع... ماع... واستطرد قائلاً:
- إنهم مجرد قطيع...والقطيع بحاجة إلى رعاة.. وجزارين.. وذئاب...بحاجة إلى أي شيء إلا "المايسترو"... أنا الموسيقار عطوان أكفأ "مايسترو" عرفه التاريخ، لكنهم ليسوا بحاجة إليّ. بل إلى شيء آخر لا علاقة له بالموسيقى والفن والإحساس.
قطع كلامه، وغرق في قهقهات منغمة ومريرة، ثم انقلب فجأة إلى النحيب والبكاء، وكأنه صادر عن إنسان مفجوع.
في هذه الآونة كان قد تجمع حولنا رهطٌ من الفضوليين المستطلعين، وبدا بعضهم يعرف الرجل عطوان، كانوا يحيّونه، وينادونه باسمه مضافاً إلى لقب "موسيقار" و"مايسترو"، وكان بعضهم يقدم له نقوداً.. وسجائر، ويمطرونه بعبارات الثناء والمدح والتعظيم تمهيداً لاستدراج موافقته على تلبية طلباتهم وترجياتهم له بتقديم عرض من عروضه الممتعة.
- عطوان لا تبخل علينا.
- السيد عطوان ملك الموسيقا.
- المعلم عطوان أستاذ النغم.
- نحن جمهورك، وأنت موسيقارنا المفضّل.
شعر عطوان بنشوة الفخر والاعتزاز، فنهض واقفاً، ونفش جسمه بكبرياء، وصلف وجدية مبالغ بها إلى درجة الإضحاك، رفع يديه وصاح:
- هدوء... هدوء...
وصمت الجميع، وتابع عطوان:
- شكلوا نصف دائرة...
وفعلوا... فقال:
- لا أستطيع أن أخيب آمالكم، ياجمهوري الحبيب. سأقدم لكم آخر مؤلفاتي. إنها ملحمة سيمفونية رائعة أسميتها سيمفونية الخروف.
وانطلقت من بعض الأفواه أصوات ثغاء، مافتئ أن اشترك فيها صوت عطوان بطريقة ملحّنة: ماع... ماع.. ماع...
رفع عطوان يديه وصرخ: يكفي.. حسبكم.. الهدوء الهدوء....".
لبى الحاضرون طلبه، وصمتوا بانتظار الجديد، تابع عطوان:
- أريد الهدوء... كما لو كنتم في طقس عبادة..
صمت الحشد، الذي كان يتزايد، وينمو، ويترعرع، بينما غاصت كفُّ عطوان اليمنى داخل قميصه البالي، عند الجهة اليسرى من صدره، ليخرج عصاه الموسيقية، ويجعلها في وضع أفقي بالنسبة إلى صدره، رفع يده الثانية إلى المستوى نفسه، ثم انطلق يؤدي حركات كالتي يؤديها مايسترو حقيقيٌ عاشقٌ لفنّه. وقد أَصْحَب عطوان حركاته، أصواتاً موسيقية، راح يطلقها من فمه، لتجسيد إيقاعات الآلات المختلفة، وبشكل متفاوت الشدّة والحدّة: "بم...بم... ترك... دج...ترم...بم...الخ". وكان يحرك أعضاء جسده بما ينسجم مع الإيقاعات التي يمارسها. وكانت تلك الإيقاعات تنساب هادئة حيناً، وتندفع صاخبة معربدة أحياناً. ومالبث عطوان أن خرج عن المألوف، لينتقل إلى أهازيج وصياح وهتافات غير مترابطة..." يتخللها صوت ثغاء خراف متقطع "ماع... ماع...ماع..."
لم يستطع الجمهور أن يحبس الضحك، الذي تراكم وازدحم في الصدور والحلوق والأفواه... بسبب ذلك الاستعراض الملهائي المدهش.
فبدأت تفرقع ضحكة هنا، ترفدها ضحكة من هناك، إلى أن تشكل سيل هادر من الضحك، امتزج بأصوات وحركات تحاكي مايفعله السيد عطوان، وارتفع الصفير والتصفيق، وراح الحشد يرقص ويدبك ويردد وراء عطوان عباراته وأهازيجه.
بلغ الهرج والمرج حداً مرعباً، فبرز من بين الحشد رجلٌ ضخمٌ ذو هيئة جادّة...صارمة...مخيفة وعدوانية...وقف في مركز نصف الدائرة، دفع الرجل عطوان جانباً...أزاحه بسهولة، رفع ذراعيه، صاح مهدداً متوعداً: "حسبكم، تفرقوا... وإلاّ"...
لم يكترث لصياحه أحدٌ، بسبب الضجيج والصياح والاندماج في الحالة الانفعالية الجماعية المتنامية، فما كان من الرجل الهيوب إلاّ أن شهر مسدساً أخرجه من وسطه، ثم أطلق طلقة في الهواء.أخرست الطلقة الضجيج، وفرّ الناس مذعورين في كل اتجاه بينما اختزلت أصواتهم المرعوبة فيما يشبه ثغاء قطيع من الخراف حينما تتعرض لخطر هجوم الذئاب عليها.
وفي هذه اللحظة كان عطوان يضحك ملء يأسه وحزنه.. ويثغو كحمل ضائع يفتش عن قطيعه