الطاولة التي أجلس إليها.. تكاد تلتصق بالنافذة.. عليها غطاء أبيض، مرتب.. ونظيف...على الغطاء صحنان مسطحان أبيضان... ومتقابلان.
وعلى كل منهما منديل أبيض، يوجد أيضاً كأسان فارغان، ونفاضة سجائر كريستالية فاخرة وثمينة..
عفواً...نسيت ذكر أهم شيء، إنه السيد (م) الذي يجلس برفق على الكرسي، عند الطرف المقابل من الطاولة، والسيد (م) هو صاحب الدعوة إلى هذا المكان المرتفع.. الهارب من "ألف ليلة وليلة". علاقتنا لا تزال طرية.. طازجة.. وغير واضحة.
هو من طبقة النجوم، وأنا رقم من الجمهور العائم.
كنت مبهوراً بفخامة المطعم المرتفع جداً، والذي يسمح برؤية الفضاء المشرع.
لاحظ السيد (م) انبهاري...سألني متودداً:
- إن شاء الله أعجبك المكان؟
اختلّ الهدوء... بدخول عصابة آدمية، سرعان ماتبين أنها تتألف من نجمةٍ، تجرّ وراءها نجيمة، وثلاثة ذكور، الذكور يرتدون ثياباً محتشمة.
السيد (م) حيّا العصابة، وهو ينهض قليلاً.. بعضهم رفع يده بالتحية، والبعض اكتفى بهز الرأس، جلس السيد (م) التفت إليّ، ولم يتخلص من ابتسامته بعد، قال:
- إنها النجمة.. الكبيرة.. تعرفني.. وتحترمني..
هنا أحسست بأن السيد (م) ليس خارقاً تماماً...شخص يقترب من طاولتنا. يضع عليها أطباقاً متخمة بأصناف الطعام.. الشهيّ بمنظره.. ورائحته.
لم أبدأ إلا بعد أن بدأ السيد (م)، التقطت أسلوبه في التعامل مع جمهرة الأطباق، وحاولت تقليدها، جاءت محاولتي متعثرة قليلاً، شجعني السيد (م) بالقول:
- خذ راحتك...
أصوات العصابة ترتفع وتهبط كأمواج البحر، السيد (م) يلتفت إليهم بين الفينة والأخرى .. ويبتسم، أما أنا فكنت آكل، وأتأمّل وأقارن.
بيتي يبحث عن الشمس، يقف في مصراع حيّ مهرَّب، هواؤه فاسد.. وراكد. الصراصير بأنواعها تستعمر مطبخه، وتتعدى بغاراتها على أحشائه الاخرى، بيتي معتل ومستعبد، بينما هذا المكان كالنسر.
غداً سأحدث زملائي في العمل.. لا أستطيع السكوت على العجائب التي أراها. بأدق التفاصيل سأشرح.. وأصف، بل سأرسم صورة مجسّمة لكل مارأيته وسمعته وأكلته، صوت زميلي في العمل يقتحم أذني لا أعرف كيف استطاع الصعود عبر الهواء الحرّ إلى هذا العلو الشاهق حيث أجلس...صوته قرع أذني المواجهة للنافذة:
- ماهو الثمن؟!
ارتبكت.. ثم قلت لنفسي: حتى الآن لم يحرجني السيد (م) بطلب يخالف القانون والأنظمة، أوراقه كلها سليمة نظامية.. ثم إنه ألح بدعوته لي..لم أقبل حالاً..
جفلتُ، وجفلتْ موجودات المطعم، بسبب ضحكة مبعثرة، خدشت الهواء والهدوء، النجيمة هي التي رشتها. الذكور الثلاثة جاملوها بضحكات لزجة، بينما عاتبتها النجمة بصوتها الخشن:
- عيب.. اخفضي صوتك..
علّق السيد (م)، بعد أن لا حظ استغرابي:
- إنهم نجوم!
عقّبتُ مبرراً:
- بعض النسوان عندنا يفعلن كذلك.
تذكرت الدجاجة البلدية: أم صبحي.. كيف توقوق، وهي تلاحق أطفالها، الذين يعبثون كالجراء، لاحظت الفرق بينها وبين تلك الجاموسة... صاحبة الصوت المسترجل، أقصد النجمة، الحقّ أن صوت أم صبحي أحلى.
بدأت أشعر أنني لست عديم القيمة، وأن موجودات المطعم أقل شأناً مما توهمت في البداية.
شخص يرفع الأطباق.. وقد بقي منها مايشبع عائلة كبيرة..
تمنيت لو كانت أم صبحي وجراؤها معنا، إذن لأكلوا وشبعوا دون أن يضطروا للحس الأطباق.
عاد الشخص ليقدم لنا الفواكه الممتازة، كانت حبّات التفاح اللامعة مغرية، فوجدت العذر لآدم وحواء، أخذت حبّة كبيرة جذابة، فوجئتُ بها مدوّدة.
لاحظها مضيفي.. السيد (م) علل:
- إنها حالة شاذّة...
وعقبتُ مبرراً:
- عندنا يأكلونها، حتى ولو كان فيها دنياصور.
ضحك مضيفي ملء خاصرتيه لذلك التشبيه، وقد انتبهت محتويات المطعم لحضكته الجامحة بشيء من الفضول، قلت لنفسي: عندنا بعض الرجال يفعلون هكذا! وأحسست أن السيد (م) ليس خارقاً (م) ولامختلفاً جداً عنّا، وللأمانة أعترف أنه كان طيّباً معي، وأميل إلى اعتبار دعوته لي نوعاً من كرم الأخلاق.. والأريحية... لأنه لم يحرجني بطلب منافٍ لشرفي الوظيفي حتى الآن.
شيء مايتحرك تحت طرف الصحن، يظهر ويختفي.. كاللص تماماً شيء صغير... بنّي قاتم... طوله أقلّ من سنتيمتر.. ولكنه سريع الحركة... يطلّ ثم يلوذ بأسفل الصحن...راقبته... تأكدت من هويته. إنني أعرفه، شخصيته مألوفة جداً لي، لدي خبرة طويلة به... و... من غير تخطيط... صرخت بقوة.. وثقة:
صرصور... صرصور... أنا واثق.. متأكد.. إنه صرصور.
مضيفي السيد (م) وضع أصابع كفه المضموم بعضها إلى بعض عضها قبالة فمه. أخذ يبعدها ويقربها بسرعة من شفتيه، وهو يرجوني بصوت مخفوض:
- اسكت.. اسكت.. فضحتنا يارجل..
قلت: ولكنها الحقيقة.
قال: مستحيل.. أنت تتوهم.
قلت بصوت مرتفع: انظر إليه...إنه صرصور...سلني أنا...أنا أخطئ في أي شيء عدا هذا...
قاطعني: ياصديقي إنها حالة شاذة... أرجوك أصمت.
قلت: أقنعتني...هذا معقول...ممكن...ولكن عندنا هذه الحالة ليست شاذة..
التمَّ بعض الخدم...تحلقوا حول طاولتنا...بحيث عُزلناعن باقي تضاريس المطعم. أحدهم وضع فمه في أذن مضيفي...غطاها بشفتيه الغليظتين. خادم آخر في يده منديل، يده ترتعش...وهي تقترب من الصرصور، يقبض عليه، ثم يزفر، ويمسح وجهه المتعرق بمنديل آخر.
سكان المطعم وموجوداته تهامست، مستفسرة، وظل الجواب حبة اسبرين مهدئة ملفوفة بعبارة "حالة شاذة" التي ظلت تتردد كالصدى في الفضاء المحصور للمطعم الممتاز.