ارتديت ثيابي على عجل، رغم أن هناك متسعاً من الوقت، فلقد كان نور صديقاً حميماً منذ الطفولة، يطلعني على أدق تفاصيل خصوصياته. وكان قارئاً نهماً، يحاول باستمرار أن يطور ثقافته، وهو إلى جانب ذلك نموذج متفرد في أشواقه المجنونة لعالم جديد مطهر من الوضاعة والظلم والمفاهيم المشوهة. ورغم اختلافي معه في بعض الموضوعات، كنت احترمه لحرصه على عدم فرض قناعاته على أحد، بل وأكثر من ذلك، كان يردد بأقصى درجات الصدق أن آراءه مجرد محاولات أو اجتهادات قد تكون صائبة أو قد لا تكون. يُعلي من شأن العقل، ويغوص في تحليلات وكتابات نقدية عن العلاقات الاجتماعية وواقع الأمة بشكل عام. لا يشغله تحسين أوضاعه المادية وكذلك مركزه الوظيفي، إذا ما شكل ذلك تناقضاً ولو بسيطاً مع قناعاته واجتهاداته. ورغم عقلانيته والروح النقدية التي يتمتع بها، كان عاطفياً إلى حد كبير، وقد يكون ذلك مرجعه إلى طفولته اليتيمة. وكان للمرأة دور هام في حياته. وقد أدى اهتمامه الكبير بقضية تحرر المرأة، ومفاهيمه المتقدمة عنها، إلى التقليل من دور الموروث في تصرفاتها ورؤيتها. وما إن وصلت مقهى الواحة حتى طلبتُ فنجاناً من القهوة، فما زال لدي نصف ساعة كاملة حتى يحين موعد اللقاء. لقد سيطر عليّ التفكير بنور وقصة حبه الفاشلة. فمنذ خمس سنوات أخبرني عن إعجابه الشديد بنشوة التي كانت تعمل معه في نفس البنك. قال لي يومها: "إنها المرأة الحلم التي أريد، الطريق إلى قلبها يمر عبر عقلها، إنها ناضجة، طموحة، دؤوبة وتتعامل مع الآخرين باحترام وذكاء ملفتين"، قلت لـه آنذاك وأنا أعرف مدى اهتمامه بثقافة الإنسان ورؤاه:"وماذا عن ثقافتها ورؤيتها؟"أجابني بارتباك: إنها ليست مثقفة،إلا أن استعداداتها للثقافة كبيرة، ورؤيتها عموماً تقليدية، ومع ذلك، فهي تعاني أحياناً
من صراعات بين المفاهيم الثاوية في أعماقها، وأنماط السلوك المتعلقة بالمفاهيم المستنيرة، إنها باختصار شخصية ناضجة ومفاهيم عتيقة. علقتُ: لا تتسرع في إعجابك، فهذه الفتاة قد لا تناسبك. أذكرُ يومها أنه احتج بشكل عصبي ودافع عنها دفاع المستميت، فأيقنت أن نور وقع في حب نشوة، وأن ما يسميه إعجاباً ليس إلا لعباً على الكلمات. وبالفعل فقد اندفع في حبها اندفاعاً جنونياً، وأصبحت شغله الشاغل كما كان يحدثني خلال لقاءاتنا المنتظمة. أذكرُ أنه بعد حوالي سنتين، قال لي والحزن يتوسد في عينيه: ما زلتُ أذكر تعليقك حول علاقتي بنشوة، كان صائباً جداً. لقد بدأتْ تُلمح منذ أن أدركت طبيعة مشاعري نحوها، أنها تحلم برجل "جاهز"، إن رجلاً مثلي لا يحقق لها طموحاتها. قالت لي ذات يوم بجدية "إن مفاهيمك وتصرفاتك وأحلامك لن تجعل منك رجلاً ناجحاً، وستبقى أوضاعك المادية السيئة على ما هي عليه، إن لم تتحول نحو الأسوأ، إنك صاحب رسالة، هذا صحيح، ولكن عصرنا هذا ليس عصر أصحاب الرسالات". اكتشاف نور لحقيقة نشوة كاد أن يودي بعقله. أصيب بكآبة مرعبة لازمته فترات طويلة كنت خلالها أحرص على المزيد من اللقاءات معه، أشجعه، أسمع منه ما يعتمل في نفسه من آلام مبرحة، استنفر قواه المعنوية للخلاص من تلك العذابات المضنية التي تكويه. قال لي ذات يوم بعد أن عاتبته على استمرار مشاعره نحوها: "إن الحب يا صديقي هو الحالة الوحيدة من الجنون الذي يدرك صاحبه أنه مصاب به". ثم تابع "أرجوك قدر ظروفي، ثق أني سأعمل كل ما بوسعي لمقاومة الضعف الذي ألم بي". مرت سنوات وبدا لي أن أوضاعه قد تحسنت، واستعاد نشاطه الفكري وفعاليته الذهنية وحمدت الله على ما آلت إليه صحته النفسية، وتعمدت أن لا أتوقف طويلاً خلال لقاءاتنا التالية حول نشوة التي بدأ افتتانه بها يخف تدريجياً، كما كان يؤكد لي، إلا أني في الواقع كنت مرتاباً في حقيقة مشاعره، وكنت أقول بيني وبين نفسي لعل احترامه لذاته وحرصه على إقناعي بقدرته على الانتصار على ضعفه، كانا وراء خداع نفسه وخداعي. أما زواج نشوة وبهذه السرعة فقد أثار كل مخاوفي عليه وخشيت أن ينتكس مرة أخرى. إني أنتظر الآن وبفارغ الصبر وصوله، وسأكون دقيقاً في تصرفاتي خشية الوقوع في خطأ ما. ها هو نور قادم من بعيد يحمل كتاباً في يده اليسرى، ويسرع الخطى نحو مقهى الواحة.
-أهلاً أهلاً يا نور.
-أهلاً يا رشدي، أهلاً يا صديقي.
ثم صافحني بحرارة وجلس.
الأمور كلها تبدو على السطح مُطمئنة، قررتُ مباشرة أن لا أكون البادئ في فتح الموضوع، وأن لا أشير حتى مجرد إشارة إليه، لذلك دارت أحاديثنا حول مواضيع شتّى، ثم طلب القهوة.وحين وُضِع الفنجان أمامه، أشعل سيجارة بهدوء ثم سرح قليلاً وانطلق يقول: "منذ سنوات شهدتُ فيلماً بعنوان صيف ودخان، قصة الفيلم مقتبسة من مسرحية أمريكية. إنها قصة حب رائعة. فتاة مرهفة رقيقة تقع في حب طبيب شاب ماجن، لا يهمه من المرأة سوى إشباع رغباته الجنسية. وذات يوم كما أذكر، جاءت الفتاة إليه وهو في حالة سُكر شديد. وعندما حاول أن يراودها عن نفسها امتنعت بإصرار. فما كان منه إلا أن أمسك بعصا طويلة مدببة الرأس وهو يترنح من السُكر والانفعال، وتقدم من صورة تشريحية لجسم الإنسان، ثم أشار بالعصا إلى الجمجمة قائلاً: هنا عقل يتطلع إلى المعرفة، ثم نقل المؤشر إلى المعدة قائلاً: وهنا معدة تتوق للطعام، ثم حوّل المؤشر إلى مكان العضو الجنسي قائلاً: وهنا عضو يتحرق للذة، وختم محاضرته مؤكداً: هذا هو الإنسان، وكأنه يريد أن يقول للفتاة: أنتِ لا تفهمين حقيقة نفسك. عندها غادرت الفتاة الغرفة وهي تنتحب بصمت. بعد سنوات قليلة وخبرات عديدة، عاد الطبيب للبحث عن الفتاة التي هدها الحب الفاشل، وحولها إلى شبح. وعندما التقى بها، قال لها فيما قاله، والندم يكاد يقتله:
-لقد عرفتُ الآن- وبعد أن خضت غمار الحياة- أن هناك شيئاً ما في حياة الإنسان لا يمكن أن نعبر عنه بالكلمات، لا يمكن أن نمسكه، لا يمكن أن نلامسه، إنه أشبه بدخان خفيف في أمسيات الصيف الجميلة، إنه الحب.
ولكن الفتاة لا تستجيب لندمه، وتتركه إلى الأبد.
صمت نور بعد أن كان يتدفق كنهر غزير، ثم أردف قائلاً بنبرة هادئة: "لقد تحدثتُ عن هذا الفيلم لكثير من الأصدقاء، وقد أكون قد حدثُتكَ أنتَ أيضاً عنه، إلا أن هناك شيئاً بقي غائراً في أعماقي لم أبح به لأحد، وهو سؤال برز في أعقاب مشاهدة الفيلم لم أجد له جواباً: لماذا لم تقبل تلك الفتاة اعتذار الشاب، وتعود إليه عاشقة كما كانت في الأيام الخوالي الطافحة بمشاعر الحب العظيمة؟؟"
قاطعته وأنا أمسك بما يريد، قائلاً:
-بعد زواج نشوة جاءك الجواب.
رد نور على الفور:
-نعم هذا ما حدث فعلاً. كان من المفروض أن يصدمني زواجها، أو أن يزعجني كحد أدنى، إلا أني لم أتأثر على الإطلاق، وهذا ما أدهشني شخصياً. لقد هنأتها كما أهنئ أية زميلة أخرى. صحيح أنني أحببتها في يوم ما، وصحيح أيضاً أنني عانيت الأمرين في حبها، ولكن الصحيح أيضاً أن كل شيء يموت حتى الحب، نعم حتى الحب يموت.
ثم استأنفنا أحاديثنا العادية.