كان زوجي عائداً من رحلة عمل له في لندن. وفكرة استقباله في المحطة تراودني، بل تسيطر عليّ، بدرجة حجبت عن عيوني رؤية ما يمكن أن يحدث، فيما لو وقع لي تصادم أو أوقفتني دورية مرور. فأنا حديثة العهد بسياقة السيارة ولم أكن قد حصلت بعد على ترخيص يخولني ذلك. وبين أخذ وردٍّ بيني وبين نفسي وبين خوفي ورغبتي، حزمت أمري. ركبت السيارة، أدرت محركها، وانطلقت باتجاه المحطة متكلة على الله والحظ.
كان الطقس جافاً والطريق باردة، وخالية من المارة. على طول المسافة التي تفصلني عن وجهتي، ترافقت مع الأشجار الضخمة المتناسقة، ومع الأضواء التي كانت توزع بقع النور على كل ما حولها، بكسل وضبابية.
وقبل موعد القطار بنصف ساعة وصلت المحطة بسلام، والسعادة ترفعني في مظلات فرح، حتى خلت نفسي أطير. - ليلة باردة. قال الرجل الذي يجاورني في المقعد، وكأنه بكلماته يفتح كوة في جدار الصمت.
- هي كذلك. أجبته وأنا أحكم ياقة المعطف على رقبتي، رغبة في الانكفاء ومعاودة الصمت.
لم يحفل الرجل برغبتي. لقد اشتمَّ غربتي من لهجتي. فانهال عليّ بأسئلة متلاحقة، عن سبب وجودي في المحطة وعن عمل زوجي وعن عدد أولادي وعن...
ومع كل جواب، كانت ابتسامته تعرض استحساناً وإعجاباً. لكنه ما أن عرف أنني عربية من سوريا، ولست اسبانية كما خمّن، حتى تقلصت ابتسامته وتجهم وجهه. ثم استقام في جلسته، قائلا باستخفاف: عربية، هيه عربية! يكفي أن تقولي إنك سوريّة. أجبته بابتسامة: لا. لا يكفي.
فقال بلهجة الواعظ: لا تكوني عاطفية، حتى لا تعقدي علاقتك بالمجتمع الذي تعيشين فيه.
أغضبتني لهجته، وألهبني موقفه من العرب. لكنّ عجزي عن التعبير أغضبني أكثر. فلغتي الإنكليزية لا تسعفني في الرد عليه ردّاً يرضي مشاعري وطموحي. ومع بعض الجمل الركيكة والكثير من حركات اليدين، استطعت أن أتحاور معه حتى النهاية. قلت له:
- هل أنت بريطاني وكفى، أم أنت اسكوتلندي أولاً؟
- طبعا، اسكوتلندي أولاً.
- إذن، القومية مهمة؟
- هي كذلك دون شك. إنما، يختلف الوضع عندك بعض الشيء.
- لماذا؟
- لأنّ الأوروبيين يتعاملون مع العرب على أنهم بداة حفاة، يركبون الجمال ويأكلون عيون الشياه.
- أنت تعلم أنها دعاية مغرضة ليس إلاَّ.
- لكنّ الناس هنا لا يعلمون. فهم يتأثرون بما يسمعون من الإذاعة ويشاهدون في التلفزيون. ولا أخفيك أن صورة العرب في إعلامنا صورة غير جيدة، إن لم تكن بشعة وقاتمة.
- هذا ما لاحظته، لا سيما في برامج الأطفال. ترى هل رأيك يخالف إعلام بلدك، أم يوافقه؟
- لا أخفيك أني لست ميالاً للعرب. لكني أحترم دور سوريا الحضاري القديم. وقد قيل إنّ لكل إنسان وطنين، سوريا وموطنه الأصلي.
- كم يسعدني كلامك.! لكنّ سوريا أرض عربية.
- عدم ميلي للعرب يدفعني لتحييدها عن العروبة. وهذا الموقف، هو نتيجة وجودي في مصر، أيام فترة الاحتلال البريطاني.
- وتتهمني أنا بالعاطفية وأنت من يتعامل بعملتها؟.
- كيف؟
- حين حكمت على أمة بكاملها من خلال تعامل شخصي، فأين هي الموضوعية؟
-قد أكون كذلك. لكن لا فكاك من الذكريات التي حملتها معي من مصر، عندما كنت مسؤول تموين في الجيش البريطاني زمن الاحتلال. حينها كان المصريون يغيرون على معسكراتنا، يسرقون خيراتها ويخلِّفون لنا الدمار والخوف والقلق.
- سبحان الله! تعيب على المصريين غاراتهم على معسكراتكم، وأنتم الذين تحتلون أرضهم وتسطون على آثارهم؟
قلت هذا، بعد جهد جهيد وبركاكة لغوية واضحة. في حين كان صفير القطار يملأ الأجواء، إيذانا بتوقف عجلاته. هممت بالانصراف لاستقبال زوجي، فاستمهلني محدثي قائلاً: لغتك الإنكليزية المزهرة أثَّرت بي. وصدقك في التعبير، أضاء المساحات غير المملؤة في نفسي بنظرة سلبية تجاه العرب. أعدك أن أفكر بكلماتك وأن أوازن بينها وبين ما اختزنته في عقلي. إنه أمر غير سهل، لكنه غير مستحيل. وداعاً أيتها السورية العزيزة.
تركته وأنا أتعجب من إصراره على سوريتي، ومن صبره على لغتي. وحثثت الخطأ نحو زوجي الذي كاد أن يتهاوى عندما لمحني في المحطة.