ابتدأت رحلتي يا سادتي، بصلبي على مدخل هذه الدار المتواضعة، بعد أن أتوا بي من مكان يصعب تحديده. فأنا لا اعرف أين منبتي، ولا من أين اصلي وفصلي. وطني هو المكان الذي اقف عليه، وأسرتي هي التي تعيش وراء أسواري، وهويتي هي هذا الإطار الذي يحتضن جسدي ويحدد سيمائي.
وجهي الأمامي مسافر أبداً نحو بوابات هذا الحي، نحو أنفاسه ونبضاته، وبكل ما فيه، ومن فيه. تتناوب عليّ ظلمة الليل وضوء النهار، أسهر مع القمر وأناجي المطر، وأتحايل على الشمس كي لا تشقق جلدي. خشبي عتيق، والمسامير الموشومة عليه هي العيون التي أطل بها على حارتي الجميلة، التي حافظت على أشكال بيوتها وأبوابها ومنحنيات أقواسها. وان كان الإنسان الذي يعيش فيها قد تغير، وفقد كثيراً من صفائه.
تحاصرني الذكريات، تعيدني إلى رمضانات بعيدة كنت أعيا فيها من كثرة الدّق والفتح والإغلاق، لاستلام الخيرات المتدفقة علينا من بيوت الجيران. واليوم لا أحد يهادينا أو نهاديه. كم أحب أن أعرف لماذا يتغير الناس، وما الذي يغيرهم؟ أهو الزمن وتعقيداته، أم أنّ هذا التغيير بتأثير الركض وراء لقمة العيش؟
يزعجني صريف الباب الذي يجاورني، يشتت أفكاري ويطرد عن عيني الراحة ومن نفسي الهدوء. مفصلاته الصدئة، تئن ويئن معها قلبي. جربت مرارا أن أنبهه، قبل أن أكتشف أنه أصمّ.
موقعي يضعني في مواجهة الغادين والرائحين، ويترك لي فرصة تأملهم، ورؤية الهموم التي يعتلونها على أكتافهم. من بين هذا الفيض الإنساني، كنت أميز الطفل سامر، بقدِّه الهزيل ووجهه الأبيض المقدد وعينيه الغائرتين، وكيف كان يبدو في مريلته الخاكية مثل يرقة في شرنقة.
أحلى لحظاتي، تلك التي كانت فيها أصابع سامر الدقيقة تتلمس سطح مساميري وتبدأ بتعدادها: واحد، اثنان، ثلاثة. وقد افتقدت أصابع سامر الدقيقة، عندما هجرت أسرته هذا الحي إلى حي آخر.
وجهي الآخر، ينفتح على دار تتوازع مساحتها الأرضية أربع غرف ودهليز طويل. وتتوسط الدار فسحة سماوية، تنتهي في إحدى زواياها، بدرج حجري متآكل يؤدي إلى غرفتين علويتين مسيجتين بدرابزين خشبي مزخرف. يعيش في الدار الحاج وهبي، وهو رجل ينحدر إلى سفح العمر، له قبيلة من الأبناء والأحفاد. يبدأ يوم الحاج وهبي بصلاة الفجر في الجامع، ينطلق بعدها إلى دكان الألبان الذي يملكه. وبعد صلاة الظهر يعود إلى البيت، ولا يخرج منه إلاّ في الصباح التالي. تحيرني شخصية الحاج وهبي، فهو مع الزبائن دمث حلو المعشر، وفي البيت صعب المراس متسلط وحشري. وصدق فيه المثل: بره شحرور، وجوا البيت دبور.
وفي الدار زوجته الحاجة زكية التي تحب الجميع ويحبونها. وهي رقيقة مسالمة، لا يشغلها شيء عن إرضاء الحاج وتلبية رغباته، رغم قسوته وفظاظته معها. الحاجة هي أحب شخص من العائلة إلى قلبي، تعتني بنظافتي وتدافع عن وجودي. في عام مضى قرر الحاج وهبي أن يستبدلني بباب جديد. بكت الحاجة وتوسلت إليه أن لا يفعل، ذكرته بإخلاصي ومحبتي، وكيف دفعت عنهم رصاص الفرنسيين، وحميت الوطنيين المختبئين خلفي من عيون الجواسيس.
آيه كم كانت جميلة تلك الأيام! مع وجود المستعمرين، ومرارة ظلمهم. كان جمالها في محبة الناس وإخلاصهم. في الطابق العلوي تعيش بنت الدار يسرى، ومن يراها يظنها باردة، لا تبالي بما يدور حولها. لكنها غير ذلك تماما، فهي رهيفة حساسة، تضايقها قسوة أبيها وانسحاق أمها، فتنغلق على نفسها وأزهارها وكتبها. في سكون تخرج إلى تعليم التلاميذ في مدرسة بالجوار وفي سكون تعود، دون أن يسمع لها صوت في هذا المنزل الذي يعج بضجة الداخلين إليه والخارجين منه. يسرى في الخامسة والثلاثين وما زالت عازبة، وهذا الوضع يتعس الحاجة ويقلقها. فمن أجل أن تتزوج يسرى تصلي اكثر وصوم اكثر وتزور الأولياء والصالحين، توزع عند أضرحتهم الخبز والدراهم نذوراً وتقرباً.
منذ مدة اقترحت عليها إحدى الجارات أن تستعين بخطوط الشيخة ديبة لفك الرصد عن يسرى وإطلاق نصيبها. في البداية استهولت الحاجة هذا الاقتراح ثم ما لبثت أن استجابت. لكن الشهور مرت، والمصاري ضاعت، وبقيت يسرى بلا زواج!
* * *
مساء أمس، قبل أن تخلد يسرى للنوم، سمعت خطوات أمها تصعد إليها. دخلت الغرفة، وقالت لها: هناك تاجر ثري في سوق الهال طلب يدك للزواج، وهو أرمل وله ولدان، ماذا تقولين؟ تصمت يسرى، وتتشاغل عن حديث أمها بتقليب صفحات كتاب كان في يدها. إنها فرصتك يا ابنتي، وقد تكون الأخيرة. تبقى يسرى على صمتها. تلاطف الحاجة بأناملها شعر يسرى الأسود، وتتابع: الزواج سترة من غدر الأيام، ونحن لن ندوم لك. قولي لي ما هو المستقبل الذي ينتظرك، اكثر من غرفة في بيت أحد أخوتك؟.
توغل يسرى في صمتها وتوغل أمها في مواعظها عن غدر الحياة وعن بشاعة العزوبية وعن قحط الوحدة وعن وعن....
كلام في الهواء ليس له صدى في قلب يسرى أو عقلها. تحس بالحنق على أمها، لأنها تعرض عليها الزواج وهي تعرف إنها مضربة عنه، ولن تتراجع. لقد أبغضت الرجال من خلال والدها وخطيبها السابق صفوح. في العشرين من عمرها وافقت على صفوح الأصلع البدين، والذي يكبرها بعشرين عاما، لتتخلص من جحيم والدها. لكنها تركته لشهوانيته المغرقة. كرهت يديه الجريئتين تنهب مواطن فتنتها. واشمأزت من نظراته الوقحة تعرّي أية فتاة تلمحها عيناه. ذكرّها بأبيها الذي لا يرى من أمها غير جسدها وقت رغبته. في النهار يذلها بالفعل والكلام، وفي المساء يجبرها أن تدخل معه السرير من غير ملاطفة أو اعتذار.
* * *
حديث الحاجة يؤرق يسرى، يحثها أن تواجه أباها وأمها بالحقائق التي كتمتها في نفسها سنوات وسنوات. وأن تقول لهما: أنتما سبب مأساتي. كراهيتي للزواج تأصلت بفعل ذكوريتك المدمرة يا أبي. ومن خنوعك القاتل يا أمي.
تندفع يسرى من غرفتها، قدماها تقفزان درجات السلم دون وعي منها. تقف أمام باب غرفة والديها، تهم بالاستئذان والدخول، تتردد وتجبن، فتعود من حيث أتت. مسكينة يسرى! في تلك الليلة صاحبت الدمع حزناً عليها، لكن ماذا يمكنني أن أصنع؟ وأنا بالمحصلة باب لا أكثر ولا أقل!!.