بتـــــاريخ : 11/17/2008 7:45:10 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1323 0


    صديقي الشرطي حمدان

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : شوقي بغدادي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    كنتُ نصفَ نائم، كعادتي هنا، عندما سمعت قرقعة المفتاح في القفل، والمغلاق الضخم يُسحب من حلقاته المثبّتة، ففتحتُ عينيّ فوراً، وترقّبتُ. ترى هل وقع اختيارهم علينا الليلة؟‍.. ويلاه!..‏

    نظرتُ إلى رفيقي فوجدتهما مثلي مُنتبهين متوترّين. سمعتُ أحدهما يسأل هامساً:‏

    - كم الساعة ياترى؟‏

    كان النور الساطعُ فوقنا ليلَ نهار لا يسمح بتقدير الوقت، وهاهو الباب الثقيل الذي يئزّ قد انفتح بطيئاً عن فُرجة كافية لمرور رأس إنسان، ثم توقف وظهر الرأس.‏

    عرفته على الفور، إنه "حمدان" الشرطي العسكري الطويل العريض المشهور بيننا بصفعاته المدمّرة التي كانت تكفي واحدة منها على الوجه أو الظهر كي تطوّح بالضحيّة أرضاً.‏

    قلتُ في سرّي: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم..". وشعرتُ بقلبي يهوي، ولكن سُرعان ما تماسكتُ إذ لمحتُ على وجه الشرطي المتورّم من السمنة شبح ابتسامة وهو يضع سبّابته على فمه أن الزم الصمت، ثم يشير نحوي بالسبابة ذاتها داعياً إيّاي إليه أن أنهض وأتبعه.‏

    نهضتُ مذعناً، ثم ودّعت رفيقيّ بنظرة متوجسة وخرجت. كان حمدان يقف لصق الجدار المجاور وليس غيره في الممرّ الاسمنتي الطويل الموحش، فمدّ يده وردّ باب الزنزانة ورائي ثم مال نحوي هامساً وقد تضرّج وجههُ المكتنزُ:‏

    - قالوا لي إنّك الكاتب "شينَ" وقد قرأت لك في مجلّة "الجندي"... فهل أنت هو حقاً؟..‏

    كان أطول وأضخم مني بكثير. وكان بثيابه العسكرية الكاملة، وأنا إلى جواره ضئيل نحيف أرتعش في منامتي الرقيقة، كنتُ أُجري هذه المقارنة في ذهني وأنا أنظر إليه وقد أدهشني اكتشافي أنها كانت حمرة الخجل تلك التي صبغت وجهه الأبيض السمين. قلت له:‏

    - نعم.. أنا هو..‏

    فدَسَّ يده متمهّلاً في الجيب الداخلي لسترته ثم أخرج منها ورقة مطويّة "مُجَعلَكة" فَرَدَها ومدّ يده بها نحوي قائلاً بلهجةٍ متعثّرة:‏

    - بودّي لو سمحت.. أن تصحّح لي أغلاط هذه الرسالة..‏

    نعم!.. تصحيح رسالة في مثل هذا الوقت!‏

    أخذتُ الورقة وقد سكنت نفسي درجت أقرأ. كانت رسالةً غرامية مكتوبة على صفحة دفتر مدرسي، ركيكةً حافلةً بالأخطاء اللغوية والإملائية، كان الخطّ سيّئاً، إلا أنني فككتُ طلاسمه مستمتعاً بالموقف بعد أن زال خوفي. قلت له:‏

    - هل أنت كاتب الرسالة؟!‏

    فأجاب هامساً: - لم يتحدث وقتها إلا همساً كأنّه كان يخشى أن يسمعنا أحد.‏

    - نعم.. أنا كتبتها... مارأيك فيها؟.. هل أخطاؤها كثيرة..‏

    قلت:‏

    - رسالة لطيفة.. فيها بعض الأخطاء ولكن من السهل تصحيحها على الفور.. هل معك قلم؟!..‏

    فاندفع بحركة مبتهجة يبحث عن قلم ثم قدّمه لي:‏

    - تفضّل...‏

    صحّحت على الفور مايمكن تصحيحه، ونصحته بأن يُعيد نسخ الرسالة على ورقة جديدة أفضل، ثم أردفتُ قائلاً:‏

    - تأمر شيئاً آخر؟.‏

    فأجاب مرتبكاً:‏

    - العفو أستاذ.. متشكّر كثيراً...‏

    نظرت إليه بإمعان.. عجباً!.. حتى هؤلاء يعشقون أيضاً وبهذه السذاجة!.. ابتسمت له، فردّ عليّ بابتسامة عريضة مؤثرة بَدَتْ ناشزةً كلّ النشوز على منظر الجدران الكالحة، والأبواب السميكة المغلقة على طرفي الممرّ الطويل الخالي. كان أشبه مايكون بتلميذ صغير، ولكنه ضخم الجثة يقف منفعلاً أمام معلّمه. قلت له:‏

    - هل يمكنني العودة إلى فراشي الآن؟..‏

    فقال متضاحكاً:‏

    - طبعاً.. طبعاً.. لكن أرجوك خلّيها بيننا..‏

    قلت:‏

    - طبعاً..‏

    ثم تابعت مداعباً وأنا أدفع الباب:‏

    - هل الرسالة للخطيبه، أم لغيرها؟!..‏

    فقال وهو يكتم ضحكته:‏

    - الله وكيلك للخطيبه..‏

    تبادلنا من جديد ابتسامتين متضامنتين وعدت إلى فراشي آمناً. غير أنني لم أستطع ألا أن أروي لرفيقيّ بعضاً مما حدث كي يطمئنّا.‏

    وهكذا صرتُ بيت سرّ الشرطي العاشق، وصار يأتيني من حين لآخر برسالة من هذا النوع فأكاد أعيدُ صياغتها كاملةً انسجاماً مني معه. بل لقد تطوّعت مرّةً بإضافة بعض الأبيات الشعرية، وكان سروره بها عظيماً.‏

    وهكذا أيضاً صار يشعر بدوره أنّ عليه أن يقدّمَ لي بالمقابل بعض الخدمات. ولكنْ ماذا كان في إمكانه أن يصنع سوى أن يحميني أحياناً من أحد زملائه القساة حين يحاول أن "يتبلاّنا" مجّاناً، فيأخذه جانبّاً، ويطيّب خاطره أو يسحبني وحدي إلى ركن يُمكن أن نتوارى فيه مدّعياً بصوت عالٍ أنه سوف يريني نجوم الظهر هناك، بل لقد ذهب أبعد من ذلك فصار يسعى إلى حماية رفيقيّ أيضاً. أما حفلات التعذيب المبرمجة فلم يكن في استطاعته أن ينقذنا منها بالطبع إلاّ أنه كان يحذّرنا قبل وقوعها أحياناً أو يحمل إلينا بعض الأخبار المفيدة عن المعتقلين الآخرين وعن الدنيا في الخارج، أو يُشرف نفسه على الزيارة التي يقوم بها لنا أهلنا من حين لآخر كي يسهّل علينا التفاهم، وقد يتطوّع لشراء المواد التموينية وتهريب الدخان، غير أن أهم خدمةٍ قدّمها لي بالتأكيد كانت هي تهريبه لي دفتراً صغيراً مع قلم رصاص صغير مع أنّ ذلك كان وقتها من أهم الممنوعات.‏

    كنا نعرف أنه يُغامر، وأنّهم لو شكّوا بتعاونه معنا إذن لعاقبوه، شرّ عقاب، ويوماً بعد يوم بدأتُ أشعر أن زياراته الليلية لي تتباعد أكثر فأكثر، وفي إحداها لم أجدْ في رسالته التي عرضها عليّ سوى كلمتين في رأس الصفحة: "محبوبتي الغالية" فسألته:‏

    - لماذا لم تكتب شيئاً؟!‏

    فأجاب:‏

    - ماطلع معي شي... أعتقد أنها الرسالة الأخيرة، لأنّني سوف أُسَرّحُ قريباً، وأتمنّى أن يتمّ ذلك قبل أن ينتبهوا لي وإلاّ لوضعوني إلى جانبك في زنزانةٍ واحدةٍ، قلتُ وقد ساورني بعض القلق:‏

    - لماذا؟ هل أحسّوا بك؟! هل وشى بك أحد؟!‏

    فأجاب مبتسماً وكأنّما قد سرّه قلقي عليه:‏

    - يبدو ذلك. لقد حقّقوا معي من عدّة أيام. وإن شاء الله تكون مرّت على سلام.. أكتب الرسالة أنت. أسلوبك أحلى من أسلوبي وسوف أبيّضها بخطيّ فيما بعد.. قل لها إنني سوف أتوقّف عن الكتابة إليها لأسباب اضطرارية وأن تسريحي قريب. قلْ لها أيّ شيء ولكنْ بأسلوب عاطفي جميل.. أرجوك... أنت كاتب شاعر وتفهم في هذه المسائل أفضل مني...‏

    قال جملته الأخيرة: وهو يمنحني ابتسامةً مصحوبةً بغمزةٍ ذات مغزىً خاصّ، فبادلته بالابتسامة نفسها والغمزة ذاتها، ولبيّتُ بعدها الطلب كما أراد بأسلوب "عاطفيّ جميل". وكأنما كنتُ أخاطب حبيبتي أنا لا حبيبته. وكانت تلك رسالته الأخيرة حقاً، إذْ لم أره بعدها، ولكم كان صعباً أن أسأل عنه وأعرف أخباره، غير أنني قدّرتُ بأنه من الجائز أن يكون قد سُرّح من الخدمةِ فعلاً، وأنّه الآن إلى جوار "المحبوبة الغالية".‏

    غير أنني عدنا وحدنا بعد رحيله في مواجهة الأخطار بلا أيّة تغطية أو حماية. ولكنني لمحته بعد عدّة أشهر، أو هكذا خيّل لي، وكنا عائدين إلى المهجع الكبير الذي انتقلنا إليه مجدّداً من فسحة "التنفّس" في الوقت الذي كان يجتاز الممرّ المجاور رتلٌ من السجناء العسكرّيين حين دفعني زميلي بيده منبّهاً هامساً:‏

    - أنظر.. أليس هذا هو الشرطي حمدان؟.‏

    فنظرت إلى حيث أشار، ولكنّ الرتل كان قد ابتعد، هل كان هو حقاً؟.. لقد كان أنحفَ بنيةً، ولم أرَ منه سوى جانب من ظهره، وبعض من صفحة وجهه حين التفتَ بغتةً نحونا، ثمّ تابع سيره وهو يرفع ذراعه إلى أعلى.. فهل كان يحيّينا؟.. يا إلهي... ليس ممكناً أن يكون هذا الرجل الطويل المتهدّل هو الشرطي حمدان العملاق الذي كان يتفجّر بالصحّة والقوّةِ. لابدّ أنّه شخص آخر!..‏

    هكذا قلتُ لزميلي هامساً ولكنّه أجاب واثقاً:‏

    - أنا متأكّد أنّه هو...‏

    في تلك الليلة كتبتُ إليها رسالةً مطوّلةً باسمنا جميعاً نشيد بمآثر خطيبها ونشكر أفضاله علينا. رسالة كنت أعرف جيداً أنها لن تصلها على الإطلاق، غير أنني كتبتُها...‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()