ووحده أقبل.. حاملاً جراحاته، وخساراته التي تحكيها حركاته وذبول وجهه وعينيه منجدلة في صعدة الآه والقلب إلى حلقه...
كان النهر عريضاً، مياهه عميقة، والخطوة صوب الضفة الأخرى مكلفة...
ووحده كان.. طول فارع، وجه أسمر لوحته شموس الصيف، عينان متحديتان يلوب فيهما بريق ذكي حاد، صدر عريض وقبضتان مضمومتان على أقدار خفية وموجعة، شعر أسود فاحم وخطوتان واثقتان...
هتف المغيب به:
"- ولد...ياولد... ارجع... الماء غدار... والأعداء ينتظرونك على الضفة الأخرى...
قالت الغيوم:
- عنيد... ارجع... استرجع مابقي لك... واحتفظ به...
رددت دواخله:
- إنها هناك... "راية"... رايتي..."
فهاج الماء وماج، وانطبقت جدران العالم عليه، هبطت السماء وكادت أن تلتصق بالأرض، تناثر غبار ورصاص وانطلق دوي عظيم.. فصرخ بملء فيه:
- رايا... رايا... أحبك..
وخاض في النهر، بعزيمة استقرت قدماه على القاع، تقدم، وببسالة راح يشق الموج، الموج الذي صار عميقاً، وحاداً، وغادراً، وبلا حدود، وضفاف، وهو لم يعترف بحد ولا بحدود، أبداً طوال عمره ورغم كل ماحصل له، ظل مشاكساً ومقاوماً...
قالت أمه:
"المختار ابن الظالمة سيخصيك... والله سيخصيك ... ابتعد عن ابنته...
قال الجيران:
- أنت تقاتل من أجل قضايا خاسرة...
قال صديقه:
- أنت تبعثر عمرك هباء.. قاتلت المختار في القرية وهزمت، وفي صفوف الفدائيين بقيت سبع سنوات كانت عجاف... والبقية عندك.
لا زالت خطواته تخوض في ماء النهر، الحصى الحادة تحك باطنهما، والأشنة تلف عنقيهما باسورة خضراء، وثمت حجرة حادة كالسكين تخترق وجه رجله اليمين فيصرخ:
- آخ... آخ... آخ...
"حمله رفيقه على ظهره، رفيقه القصير المتين كجذع شجرة بلوط، وكان طويلاً، أخذت قدماه تطرقان وجه التراب، بينما كانت فخذه تطرد دماً حاراً وقانياً وترشه على الحجر والتراب ومناقير الحجل، وبشفتين متيبستين وحلق جاف صاح:
- ماء...ما...ء...مـ...مـ...ا...ء
جوفي يلتهب...
حين كانت قطرة الماء تساوي حياته. تماماً حياته...
ويلمح /راية/، بقامتها الهيفاء، بصدرها الناهد، بخصرها الدقيق، وقدميها الحافيتين اللتين تخوضان في سواقي العنب، بشعرها المسترسل وكفيها العنابيتين، تحتضن ماءً أحلى من العسل، تسقيه، فيشرب.. يشرب، يتدفق الماء من أصابعها الطرية الطويلة... يشرب... حتى أنه لا يشبع من الماء... من عذوبتها وسحرها الأنيس فيصرخ:
"- آخ... أولاد الملاعين... لن أتراجع..."
واجتاز النهر.. مبللاً اجتاز... على كتفه بارودة مذخرة بالطلقات وفي جسده سخونة عزم لرجل يعشق السير إلى الأمام.. وأمامه تلاويح جنود العدو وقلب يفور، أطلق، لم يكن يرى سوى الهدف، الطلقات تفلح التربة حوله، تتشظى، فيضيء الليل، يسقط جندي قربه ويده تسند أحشائه المندلقة.. رمى بنفسه في مربض العدو، طار مع المقذوفات، تحول الأعداء إلى بقايا محترقة، أما هو فجرح في فخذه ثانية.. في فخذه، عاد إلى النهر، وأخذ يبول ويضحك... يبول ويضحك
- عليكم وعلى حدودكم...
وأردف:
- هذه الأرض لنا.. رايتها لنا.. وذرات ترابها معجونة بأحداق أبطالنا..
وغطس في الماء،ووقت ظهر كانت بيده سمكة لامعة فضية:
- سمك لذيذ مع العرق.. هل نتركه لكم...؟!
وداس الضفة...
قال عسكري كان يراقبه "من الأصدقاء":
هذا الرجل مجنون
قال الآخر:
- ليس مجنوناً.. فقط إنه يحاول أن يقبض على المستحيل.. أيظن أن العدو سيستسلم بهذه الطريقة.
أما هو فقد صعد إلى المغارة التي تدخل قلب الجبل..
وهناك... كان جرحه ينزف وكانت "رايا"
تفتح صدرها، تحل بهارات شعرها، وتنتظره، فقال:
- ايه "رايا" لا تخافي.. لن أموت.. حتى إذا مات الجبل...
ووقت عانقها أحس بأنه يعانق عمورية.. القادسية... حطين... وتشرين، كان يعانق الماضي والحاضر... سفن طارق بن زياد... وعبور الجولان، انتصاراته... هزائمه... خساراته التي لا تحصى... من خلال "راية" كان يذوب في كل هذا، أخذ يرتجف داهمته القشعريرة، اهتز مع "رايا" اهتز وغاب... ومن يومها لم يره أحد...
وهناك قرب النهر، وفي المغارة التي تدخل قلب الجبل، تماماً على الصخرة التي كانا يتمددان عليها، مازالت النسوة يصعدن، ويرمين بالزهور فوقها، يرققن العجين ويمددنها على وجهه، فينضج لأن الصخرة مازالت حادة... حارة.. وملتهبة...