كان مكتب الممرضة الذي يحتل الزاوية اليمنى من القاعة فارغاً، أحست برضى جرّاء كون المكان خالياً. قالت لنفسها: هذا أفضل، كنت سأضطر لخوض حديث مع الممرضة، وقد تعتقد أنني مجنونة أو مصابة بمرض نفسي، وتساءلت: لماذا يعتبر كل من يقصد عيادة طبيب نفسي مجنوناً؟ لكنها للحال أدركت أنها من هؤلاء الناس الذين يطلقون حكماً على كل مريض يقصد عيادة طبيب نفسي، حكماً جاهزاً وساخراً، بل فيه احتقار، واستصغار لأولئك المرضى النفسيين، لكأنهم صنفوا خارج الجنس البشري. ما يهمها الآن ألا يعرف أحد أنها قصدت عيادة طبيب نفسي، لكنها لم تقصده لعلّة فيها بل فيه هو -الزوج- الذي لم تعد تناديه باسمه بعد عامين من الزواج، بل صار اسمه أنت وهو بدوره صار يناديها أنت، أنت وأنت الأسماء الحقيقية للأزواج، لأن الخصوصية والسحر لكل منهما يذوبان أو يتبخران في روتين قاتل.
قامت تتمشى في القاعة الفسيحة، وتقترب من لوحة يزيد طولها على المتر كما قدرت وعرضها حوالي نصف متر، تمثل شاباً مستلقياً على عشب أخضر بكسلٍ واستسلام، وثيابه رثة، ويضع على رأسه قبعة من القش مهترئة ومثقبة، وقد مالت إلى الأمام بسبب يديه المتصالبتين خلف رأسه وهو يغمض عينيه باسترخاء لذيذ مستمعتاً بدفء أشعة شمس تحسها تغمر فضاء اللوحة، فيما رسمت شفتاه ابتسامة سعادة صريحة، استفزها الشاب في اللوحة، وتساءلت حانقة: ما الذي يدفعه للابتسام؟ واتهمت الطبيب بأنه غير موفق في اختيار لوحة غرفة الانتظار... لكنها تساءلت وما أدراني مغزى هذه اللوحة؟ إن ابتسامة السعادة والسخرية الطافحة على وجه الشاب قد تكون مقصودة من قبل الطبيب، لعله يريد أن يوصل مرضاه إلى مرحلة يقدرون فيها على الإحساس بتلك السعادة البلهاء، لكن فكرة انبثقت في ذهنها تذكرها أن ابتسامة الشاب استفزتها لأنها تشبه ابتسامة زوجها. خفق قلبها مؤكداً حقيقة الشبه، أجل زوجها يبتسم دوماً تلك الابتسامة مذ أصابه الجنون...
انتفضت مجفلة من صوت الساعة الخشبية تعلن تمام الثامنة، إنه موعدها مع الطبيب، نظرت بآلية إلى ساعتها. كانت تشير إلى التوقيت ذاته أيضاً، وما كادت ترفع نظرها عن الساعة حتى فتح باب أبيض عريض وأطل الطبيب الأربعيني بقامته الفارعة وأناقته الملفتة ووجهه الوسيم، وحياها بابتسامة قائلاً: السيدة رحاب أليس كذلك؟
قالت: أجل..
قال: تفضلي، وأفسح لها مجالاً للدخول..
كان مكتبه لا يقل اتساعاً عن قاعة الانتظار، أنيقاً من اللونين البيض والأخضر، وقد فرشت الأرض بموكيت أخضر طويل الريش يبدو كعشب. قرأ سؤال الدهشة في عينيها: من أين خرج المريض الذي كان في الداخل؟ قال لها باسماً محاولاً بث شيء من المرح في نفسها: باب الدخول غير باب الخروج، اضطررت لهذه الوسيلة لأن الناس هنا يحسون بحرج إذا تواجهوا، وعرف كل منهم أن الآخر يقصد عيادة طبيب للأمراض النفسية.
قالت له: أجل معك حق..
غمرها شعور بالارتياح وهي تجلس في حضرة رجل أحست أن له مفعولاً آسراً، وأعطاها الأخضر المنتشر إحساساً بالاستقرار، أخذت نفساً عميقاً وهي تشعر أنها ستبوح له بكل شيء، كل شيء قال: آسف سيدة رحاب، لقد اضطررت أن يكون موعدك متأخراً، في الواقع ضغط العمل عندي كثير هذه الأيام، وابتسم متابعاً: إن ضغوط العصر تتفاقم، وما عاد تحملها بالأمر السهل، وافقته دون أن تستوعب كلامه لأنها كانت منشغلة في تحضير لمقدمة حديثها...
قال: حسناً، سيدة رحاب، ثمة أسئلة تقليدية في البداية عن العمر، المهنة..
قاطعته: عفواً، دكتور، لست أنا المريضة، بل زوجي.
نظر إليها مستطلعاً إنما ليس مندهشاً، قالت: أتيت استشيرك بحالة زوجي، إنه هو المجنون أقصد المريض، أما أنا فالحمد لله لم أفقد عقلي بعد..
سألها الطبيب: ولم لم تحضريه معك؟
تصنعت الابتسام قائلة: لأنه يرفض، يعتقد بأنه عاقل، بل الأدهى من ذلك يعتقد بأنه توصل إلى حكمة الحياة.
-لكن في هذه الحالة سيكون من الصعب علاجه، يجب أن ألتقيه...
قالت: آمل ذلك، بمساعدتك طبعاً.
أخذت نفساً عميقاً قائلة: في الحقيقة لا أعرف من أين أبدأ؟ وفجأة اختنق صوتها وهي تخضع لانفعال خضّها فجأة مفجراً دموعاً حارقة من عينيها، ربما لأنها أحست بهشاشتها تجاه رجل تتدفق الثقة من ملامحه، لكنها أحست أنه من الطبيعي ، بل قد يكون من واجبها أن تبكي في حضرة طبيب نفساني...
قال لها وهو يقدم منديلاً ورقياً لتمسح دموعها فيما موسيقى هادئة لموزارت تغمر المكان فجأة تحسها قادمة من الفضاء لأنها عجزت عن تحديد مصدرها...
سيدة رحاب ثقي أن كل المشاكل لها حلول، وكما يقال نصف العلاج يكمن في البوح بالمشكلة فأرجوك اهدئي وتحدثي إلي بثقة...
مسحت دموعها، أحست برضى كونها ابتدأت بدفقة الدموع، وهكذا سيشعر الطبيب صدق معاناتها، وقد يصدقها أكثر.
قالت: أليس غريباً أن يبدأ الجنون عند رجل، وهو على أعتاب الخمسين؟ لا تتصور كم يحزنني ذلك يا دكتور، منذ أكثر من سنتين غدت تصرفاته غريبة للغاية، كأنها صادرة عن شخص آخر شخص لا علاقة له إطلاقاً بما كانه.
-هل يمكنك أن تقولي لي للحال ودون تفكير بعض تصرفاته مثلاً..
أذعنت للأمر وقالت: تصور البارحة لمحت صرصاراً كبيراً خلف ستارة الصالون، وأنا أشمئز من الصراصير، وأخشى قتلها، أقصد أفضل أن يهرسها غيري، قلت له: انظر إلى هذا الصرصار هيا اقتله، فابتسم قائلاً: لا، لن أقتله، دعيه يعيش مستقبله! هو الذي كان يسحق الفراشات في كفيه ليبين لرفاقه براعته في اصطياد الفراشات.
ابتسم الطبيب وقال بدعابة: ألم يُقتل الصرصار بعد؟
قالت: لا، تصور ماذا فعل، لقد رفعه على قطعة ورق برفق شديد ورماه خارجاً.
-حسناً، سيدة رحاب، سأسألك عن عمله وعاداته، وإن كان يشكو من أمراض عضوية.
أشعل الطبيب سيجارة، وقدم لها سيجارة تناولتها شاكرة قائلة باستغراب: لكنك تمنع التدخين مشيرة إلى غرفة الانتظار.
قال: في الخارج، غرفة انتظار للجميع، لا يحق للمدخن أن يسيء لغير المدخنين، أما هنا فالمكان والوقت ملك للمريض فإذا كان مدخناً فليدخن.
سحبت نفساً عميقاً من سيجارتها وقالت: زوجي اسمه مروان عبد الجبار، أشهر تاجر زجاج وقد جمع ثروات كبيرة من تجارة الزجاج، وهو جامعي حاصل على شهادة جامعية في التجارة والاقتصاد، وقد تزوجنا بعد قصة حب، منذ ربع قرن تقريباً، كان شاباً جميلاً، قوياً، مغرماً بالصيد، وأكثر ما أحببت فيه قوته، كان لا يخشى شيئاً، ولكم اصطدمنا في بداية زواجنا بسبب هوايته في صيد الخنازير، تصور يا دكتور الرجل الذي كان يقتل الخنزير ويسلخه ويقطعّه ثم ينام بعمق، لا يقتل الآن صرصاراً، بل يتركه ليعيش مستقبله!
-حسناً سيدة رحاب، هل عشتما سعيدين ومتفاهمين؟
-أجل يا دكتور، كانت حياتنا نموذجية، رزقنا ثلاثة صبيان، كلهم ناجحون، والحمد لله، لم يتسببوا لنا بمشاكل إطلاقاً، لم نشك من أية صعوبات مادية. على العكس، لا نزال نعيش في بحبوحة يحسدنا عليها الأقرباء والأصدقاء إلى أن تحولت حياتنا إلى جحيم مذ أصابه الجنون أقصد المرض.
-منذ متى لاحظت أن طباعه تتبدل، أرجوك أن تحددي الزمن بدقة.
قد لا أستطيع تحديد الزمن بدقة، لكني أعتقد أنه منذ صدور الحكم النهائي للدعوى بينه وبين ابن عمه، رغم أن الحكم كان لصالحه بالنتيجة.
-وما موضوع الدعوى؟
-آه، إنها قصة قديمة، كان زوجي قد ورث عن والديه بناء قديماً ومتصدعاً من طابقين، الطابق الأول عبارة عن ثلاثة مخازن، يحتل أحدها ابن عمه، وحين أراد زوجي هدم البناء المتصدع وتشييد بناء حديث من ستة طوابق، رفض ابن عمه أن يخلي الدكان، واضطر زوجي للجوء إلى القضاء، تسع سنوات يا دكتور استمرت الدعوى، إلى أن صدر الحكم أخيراً بأن يخلي ابن عمه الدكان وبأن يهدم البناء، وبالفعل تم هدمه، وشيد بدلاً منه عمارة رائعة بتسعة طوابق..
سأل الطبيب: لقد ذكرت منذ برهة أن البناء من ستة طوابق.
ضحكت وهي تجيب: ومن لا يخالف يا دكتور؟ لقد دفعنا سلفاً ثمن المخالفات.
-وما علاقة الدعوى بمرض زوجك؟
-قد لا تكون هناك علاقة فعلية، وقد أكون أنا واهمة إذ ربطت بين مرضه والدعوى لكني لاحظت تغير شخصيته منذ صدور الحكم، آه، الله لا يكملّها مع أحد كما يقولون، فبدل أن نفرح وتتحسن حياتنا بعد أن ربحنا الدعوى، فقد ابتلينا بمرضه، تصور لقد انتابه حزن شديد حين صدر الحكم لصالحه.
-كيف انتابه الحزن؟ هل يمكنك أن توضحي أكثر؟
-أظنه أحس بالندم الشديد كونه ظلم ابن عمه، وندم على سنوات القطيعة والكره بينهما. لقد انتابه غمٌ فظيع لأيام بعد صدور الحكم، لم يفتح فمه بكلمة، كان يجلس طوال الليل محملقاً في الفراغ أمامه، لا يرد على كلامنا، كأنه لا يسمعنا ولا يرانا، وقد عرفت من المقربين أنه قد زار ابن عمه ورجاه أن يسامحه..
قاطعها الطبيب يسأل: وهل عوضه عن الدكان؟
-في الحقيقة أراد أن يعطيه أكبر دكان في البناء الجديد، ولكن من حسن الحظ لم يستطع، لأنه كتب البناء منذ سنوات باسم أولاده، وجن جنون أولادي بسبب تهور والدهم ورفضوا أن يذعنوا لرغبته بإعطاء ابن عم أبيهم أكبر دكان في البناء الجديد.
-وماذا كان موقفه من أولاده؟
-لقد نظر إليهم بشفقة واحتقار، وقال إنهم مساكين، وعميان لأنهم لا يبصرون نور الحق.
آه يا دكتور حتى مفردات لغته تغيرت بعد أن مرض، صار يتكلم كثيراً عن الحق، والعدل والقيم الروحية، يا إلهي كم تبدل، كان لا يحكي سابقاً إلا بلغة الأرقام، وكان يضحك وهو يحكي لي كم ربح بمجرد لعبة بسيطة مارسها على زبون.
-ألا يزال يتابع عمله كتاجر زجاج؟
-لا إطلاقاً، لقد أهمل المحل، إنه يقضي وقته متأملاً أو يقرأ كتباً روحية، أظنها زادت جنونه.
-ألا تزال الخصومة قائمة بينه وبين ابن عمه؟
-لا، لقد عوضه بمبلغ كبير من المال، يشتري للأخير دكاكين وليس دكاناً واحداً، عرفت ذلك من المقربين والأهل، فهو لا يحدثنا إطلاقاً بما يعمل، حتى أن أحد الأقرباء شاهدة يبكي في أحضان ابن عمه، بالله عليك يا دكتور، رجل عاقل يتصرف بهذه الطريقة؟
-من الواضح أنه ندم وأحس أنه ظالم.
-أحس أنه ظالم! لماذا لم ينتابه هذا الشعور طوال سنوات الخصومة مع ابن عمه؟ أليس غريباً أنه بعد أن ربح الحكم أحس أنه ظالم؟!
-حسناً سيدة رحاب. ما هي تصرفاته الغريبة التي لاحظتها أيضاً منذ عامين؟.
-ألا يكفي أنه أهمل تجارته، بل تركها تماماً، ثم أخذ ينفق بلا حساب على الفقراء، مبدداً ثروته شمالاً ويميناً، من حسن الحظ أن أولادي تمكنوا من أن يستولوا على القسم الأكبر من أملاكه وأمواله، لكن ما يحرقني أكثر نوبات البكاء التي تنتابه، صدقني أحس وقتها بقرف، اعذرني على هذه الكلمة يا دكتور، لكنها الحقيقة، أشمئز من منظر رجل عرفته قوياً وجباراً صار يبكي كطفل.
-ألم تحاولي التحدث إليه؟
-أجل حاولت مراراً، لكني لم أجن سوى المرارة والخيبة، لم أعد موجودة بالنسبة إليه يا دكتور، أتكلم إليه فيما هو ينظر إلي نظرات شاردة تتجاوزني، كأنه لا يراني، ويقول لي مسكينة يا رحاب، أنت تضيعين الجوهر. عن أي جوهر يتحدث لا أعرف؟
-وكيف يقضي أوقاته؟
-إنه يغرق بتأملات طويلة، وأحياناً يكتب، وهو حريص على أوراقه يخفيها في درجه ويقفل عليها أكثر مما كان حريصاً على أمواله، ذات يوم داهمته يكتب فأجفل وأخفى أوراقه، لكني غافلته مرة وتمكنت من فتح درجه الخاص بعد أن سرقت المفتاح وقرأت أوراقه، يا للطلاسم، لم أفهم شيئاً، لغة مجانين.
-هل تذكرين بعض عباراته؟
-لا، واستدركت أجل أذكر بعضها، تصور أنه يبتدع تعابير مثل تجميع الذات، لقد قرأت صفحة لم أفهم منها شيئاً أنه سيجمّع ذاته، وأنه يجب أن يوجد حيث هو، وأنه يجب أن يمتد إلى المستقبل، وبأنه يعاني من نتائج سقوطه المأساوية. يا إلهي يا دكتور، لو أتمكن من إحضار تلك الأوراق إليك..
-أتمنى فعلاً أن أقرأ ما يكتبه فهو مثير للاهتمام كما يبدو...
-لكن أي تجميع للذات هذا يا دكتور... هل يتحدث هكذا عاقل..
ابتسم الطبيب قائلاً: ثمة قاعدة يجب أن تعرفيها يا سيدة رحاب، لا يمكن القول عن شخص بأنه مجنون أو مضطرب نفسياً ما لم يخضع لاختبارات في الطب النفسي، كما لا يمكن أن نقول عن شخص إنه عاقل، ما لم يخضع بدوره لهذه الاختبارات.
-ماذا تقصد؟
أحست بذعر لكأن الأرض تتخلخل تحت قدميها، إنما لم تتمكن من تحديد ذعرها بوضوح.
تابع الطبيب: الكلام شديد الوضوح كثيرون حولنا، يعتقدون، ويعتقد ذووهم أنهم أسوياء في حين أنهم غير أسوياء على الإطلاق، إن العصاب يأخذ أشكالاً متنوعة وقاسية في زمننا، بالمقابل هناك أشخاص منسجمون مع ذاتهم، يفكرون بوضوح وصدق وبشكل سليم لكنهم يعتبرون شاذين أو مجانين، كما ينظر إليهم الآخرون، أعرف شاباً ينظر إليه الناس على أنه مجنون لمجرد أنه يمارس هواية اليوغا في الهواء الطلق، ويضع حلقاً ذهبياً في أرنبة أنفه ويسدل شعره على جبهته أو يضفره في ضفيرة، لقد درس في الهند، وتأثر هناك بالبوذية واعتنقها، وأصرّ على أن يعيش قناعاته هنا فكانت النتيجة أنه صُنف مجنوناً، فماذا تحكمين على هذا الشاب يا سيدة رحاب؟
أحست رحاب بالارتباك، ووجدت نفسها تجيب دون أن تبذل جهداً للتفكير: لا أعرف المهم العقل..
ضحك الطبيب قائلاً: جملة هامة. المهم العقل حسناً، فهل بإمكانك تعريف العقل؟
اشتد ارتباكها وقالت: وهل العقل يحتاج لتعريف، إنه عكس الجنون..
ابتسم الطبيب وقال: إذاً علينا أن نتفق حول تحديد مفهوم العقل ومفهوم الجنون..
قالت وهي تحس بضيق: أرجوك يا دكتور أنا لست طبيبة نفسانية، كل ما أرجوه أن تساعدني في علاج زوجي.
قال الطبيب: ما فهمته حتى الآن أنه تاجر ناجح ثري، له ممارساته المعينة في الربح غير المشروع، وكان طماعاً وشرساً وظالماً، ثم تغيرت وجهة نظره للحياة، أعاد تقويم ذاته وحاول ترميم ما يمكن ترميمه...
قاطعته بذهول: ترميم ما يمكن ترميمه، لكنه أهمل تجارته، وبدد أمواله، صار الكثير من المحتالين يتظاهرون أمامه بالفقر ليسحبوا أمواله وهو يصدقهم ويعطي، ويعطي بسخاء وبدون تفكير... ولم يعد يبالي بأولاده، صار يتهمهم بالضلال والطمع، ويبكي ألماً على وضعهم، يسميهم المضللين، وأنا...
-وأنت ماذا؟
غضت نظرها وقالت: في الواقع يجب أن أصارحك بكل شيء، فأنت طبيب، وأردفت، نفساني لم يعد يقربني أبداً، منذ حمى الدموع الروحية التي انتابته بعد صدور حكم الدعوى وتغيرات طباعه، ما عاد يشتهي أن يقترب مني، أكاد أصاب بالذهول، لا أكاد أصدق أن هذا الرجل الذي أحبني وكان لا يطيق الابتعاد عني، صار ينفر مني وينظر إلي تلك النظرة الباردة الأقرب للشفقة.
-ألم تناقشي هذه المسألة معه؟
-أجل، لقد اضطررت لمناقشته في مواضيع حرجة، لا تتمنى امرأة أن تبادر بمناقشتها مع زوجها.
-وماذا قال؟
-قال بعد أن أجبرته أن يقول شيئاً: صحيح أن المسافة بيني وبينك شبر، لكن المسافة بين روحينا أميال.
-ألم يقل شيئاً آخر؟
- لا أبداً.
ابتسم الطبيب وتفرس في وجه السيدة رحاب وسألها بلهجة مرحة: لو كانت علاقتكما الجنسية كزوجين مستمرة، هل كنت تعتبرينه مجنوناً؟
تضرج وجه السيدة رحاب وقالت: أرجوك يا دكتور، لا تسيء الظن بي..
-إطلاقاً يا سيدة رحاب، هذه أمور بسيطة للغاية، لكني حتى الآن لم أجد سبباً مقنعاً لإدخال زوجك خانة المجانين.
قالت بحماسة حارة: كيف يا دكتور، لقد أهمل عمله، ونسي أسرته، وبدد أمواله، ونسي أصدقاءه، أتعرف من يعاشر هذه الأيام، المتسولين، إنه يجلس معهم على قارعة الطريق وأحياناً يراه الناس يذرف الدموع وسطهم، فهل هذا تصرف رجل عاقل.
لم يجب الطبيب، فألحت السيدة رحاب في السؤال قائلة:
-أرجوك قل لي، أهذا تصرف رجل عاقل؟!
-لنبتعد عن التسميات يا سيدة رحاب، أنا أفضل أن ألتقي زوجك، إنما عليك أن تعرفي أن تغير رؤية الإنسان للحياة بشكل عام ولحياته بشكل خاص يقتضي تغيراً في سلوكه وشخصيته، واضح أن زوجك أصبح يزدري المال، بل ندم على ممارساته القديمة..
قاطعته السيدة رحاب: وهل هذا طبيعي يا دكتور؟
قالتها بحرقة وقهر شديدين..
قال الطبيب باسماً محاولاً امتصاص انفعالها: في الواقع أفضل أن ألتقيه.
-وكيف علي إقناعه بزيارتك يا دكتور؟
-لا أظن الأمر مستحيل، سنتوصل لحجة ما، لوسيلة ما.
-لكني يئست تماماً من إمكانية عودته إلى ما كان عليه، بصراحة لقد تعبت كثيراً، صرت قلقة، سريعة التأثر، وعصبية، بل أحياناً تنتابني نوبة ذعر مفاجئة، أحس كأن القدر أحكم قبضته علي...
قاطعها الطبيب: في هذه الحالة أنت بحاجة لمساعدتي أيضاً يا سيدة رحاب.
نظرت إليه السيدة رحاب باستسلام وقالت: أجل..
-حسناً سيدة رحاب، سأكتب لك دواء مضاداً للقلق، أنصحك بالاسترخاء والتأمل والابتعاد عن الضجيج، لا بأس في أن تقضي فترة هدوء تغوصين فيها في أعماقك...
تناولت السيدة رحاب الوصفة الطبية وهي تحس بانكسار، ودعها الطبيب حتى الباب الخارجي للعيادة، لكنها قبل أن تغادر التفتت لتتأمل صورة الشاب المسترخي على العشب مستمتعاً بدفء أشعة الشمس، للحظات أحسته زوجها، بل شعرت كأن هناك تواطؤاً بين الطبيب وزوجها والصورة... لكنها تابعت خطواتها متعثرة بأفكار غريبة تزيدها تشوشاً وتوتراً.