انفجر الخبر في الحي كالقنبلة: السيدة عفت تزوّجت رجلاً يكبرها بسبع سنوات! كان هذا الخبر آخر ما يمكن أن يصدّق؛ فالسيدة عفت في الخامسة والسبعين من عمرها. وقد أحيلت على التقاعد من أكثر من عشر سنوات. ومضى على رحيل زوجها أكثر من ثلاثين عاماً. وكبر أولادها، وتزوجوا، وانفضّوا من حولها بعد أن رفضت أية زوجة السكنى معها، فعاشت السنوات الأخيرة وحيدة. وأقنعت نفسها ألا تنتظر زيارة أحد من أولادها إلا في الأعياد والمناسبات.
وفوجئت السيدة عفت، في عصر اليوم الثالث لزواجها بسرب من نساء الحي يطرقن عليها الباب للمباركة، تعرف اثنتين أو ثلاثاً منهن فحسب. فترحب بهن، وتدعوهن إلى صالة الضيوف، ويدخلن متدافعات، وهن يخفين ضحكات تكاد تنفلت في الممر الضيق. وتغيب السيدة عفت دقائق، وتعود إليهن بثوب بنفسجي فيه عروق أزهار كبيرة، متعددة الألوان، وقد زينت شعرها بربطة صفراء، وانتعلت خفاً أبيض كجلد الأرانب. وجلست في مواجهتهن، وهي ترد على التهاني، التي انصبت على التوالي من أفواه متعجلة. ثم حلّ الصمت، وكبر حجم الحرج. مما دفع السيدة عفت، التي كانت تستعرض وجوه المهنئات، إلى تجاوز ذاتها، لتتجاوز هذا الصمت وذاك الحرج، فانبثق في عينيها شيء من التصميم، وعلى شفتيها ابتسامة لا مبالية، وارتفع صوتها، وأخذت تتحدث بلهجة واثقة وعاتبة مؤنبة:
ـ أنتن مثل بناتي، فلا تؤاخذنني إذا كنت صريحة. أنا أعلم أن هذه الزيارة ليست للتهنئة، أو ليست كلها للتهنئة. الفضول هو ما دفعكن للحضور؛ لترين هذه العروس، التي كان الأولى بها أن تهيئ كفنها استعداداً للموت القادم، أليس كذلك؟! لقد فعلت ذلك زمناً طويلاً، لكنه لم يأت. كنت أقضي الأيام والليالي دون أن أتحدث إلى أحد. فوجئت ذات يوم أنني أكلم نفسي. عندها خفت وقلت: يا بنت لا تلومي أحداً كل واحد عنده هم يكفيه، الله يسامح الجميع. يا بنت أخرجي أحسن لك، وإلا أصبحت قريبة إلى الجنون. صرت أتردد إلى الحديقة العامة في الحي المجاور. وكنت أجد فيها ما يسلي. ولا يخلو يوم من حديث مع شخص ألتقيه. وصادفته هناك، وتكرر اللقاء، ومع التكرار كنا نتبادل تحية الصباح أو المساء. وأصبح جزءاً من الحديقة. ولم أعجب من القلق الذي ينتابني إذا لم يحضر. وجمعنا ذات يوم مقعد واحد، فلم نعد نفترق. وعلمت منه أن حاله مثل حالي، وحيد في مدينة كبيرة، يأرق طويلاً في الليالي الطويلة؛ ولا يجد من يناوله حبة دواء، أو كأس ماء إذا كان مريضاً. وشيئاً فشيئاً عرفت عنه كل شيء، أصبح بيننا أشخاص وأمكنة، بل وذكريات مشتركة. وذات يوم وكأننا على موعد انبثقت رغبتنا أن نكون معاً، ولم نفعل سوى تلبية هذه الرغبة، فهل في هذا ما يعيب؟!
ذات ليلة فكرت طويلاً في الأمر: لدي شقة ولديه شقة، نؤجر شقته لنستعين بأجرتها على حياتنا مع هذا الغلاء، ويأتي ليسكن معي. ما أطبخه لي وحدي يكفينا نحن الاثنين. بدلاً من أن يشتري من السوق ما يحتاج إليه وحده، يشتري لنا نحن الاثنين، فأرتاح من الذهاب والإياب للبحث عما أحتاج إليه. بدلاً من أن أشرب قهوة الصباح والعصر على الشرفة وحدي صامتة، فإننا نشربها معاً ونحن نتحدث. بدلاً من أن أنام في السرير العريض البارد وحدي فإني سأجد أنفاسه تدفئني. إذا خفت في الليل وأنا أسمع صوتاً هنا أو هناك وجدته بجانبي. إذا أرقت في الليل وجدت من أتحدث إليه قربي. وإذا جاء الموت يطلبني لم أكن وحدي!.
وبعد هذا وذاك أنا بشر من لحم ودم و... يكفي أن تكون في البيت رائحة رجل! وأنا قد اعتدته فلم لا نكون معاً في النهار والليل؟ أحرام أن تكون المرأة مستورة في آخر حياتها، وتجد من يواريها التراب إذا جاء صاحب الأمانة يطلب أمانته؟!
فكرت في هذا وفي أشياء أخرى. وقلت: يا بنت، وافقي! وهذا ما كان.
لا تؤاخذنني «العريس» نائم ولا يستطيع الحضور للسلام عليكن، ظهره يؤلمه، يبدو أن برداً أصابه، وقد وضعت له «لزقة» ونام.
ويبدو أن دمعة تحيّرت في مقلتيها، وهي تنقل نظرها في الضيفات واحدة واحدة، وخشيت أن تنحدر الدمعة على خدها، فقامت، معتذرة إلى المطبخ، لتحضر لهن ما يشربنه