شاهدت على شاشة التلفزيون، جموعا من البشر تمشي في الاتجاهين ، ذهابا وإيابا، أو بالأصح ، إقبالاً وإدباراً، لأن المقبلين كانت بينهم وبين الحظ السعيد شعرة، والمدبرين كانوا لا يعرفون درب السعادة، فمشوا أمام الكاميرا التلفزيونية، مكتفين بعرض فروات رؤوسهم واقفيتهم واردافهم وأعجازهم علواً وهبوطاً ، غير عارفين، وغير مكترثين بالالتفات إلى الوراء، إذ ربما اصطادت عين الكاميرا وجه أحدهم، فحالفه الفوز العظيم!
ويبدو ان الحظ لا يبتسم للمدبرين، بدليل ان الكاميرا اقتنصت وجه أحد المقبلين، وتجمدت صورته على الشاشة ، ثم وضعت دائرة بيضاء حوله، وقامت المذيعة الكريمة بتوجيه نداء لهذا المواطن، الذي لم يفعل أي شيء ، سوى أنه مشى في شارع فيصل أو شارع المهاجرين أو سقف السيل ، ليحضر إلى مبنى التلفزيون كي يأخذ جائزته!
وقد فاتني ان أتعرف على مقدار الجائزة، وهي على الأغلب جائزة مالية، وليست شقة أو فرقاطة أو شلية غنم، ولابد أنها جائزة تستحق تحمل وعثاء القدوم إلى أم الحيران، ولابد أن قيمتها تكفي لسد نفقات التنقل من البيت إلى التلفزيون، وتغطية قيمة الوقت المهدور والجهد الضائع. بل إنني على يقين من أن قيمة هذه الجائزة سوف تتناسب طردياً مع حجم الحسد الذي دب في نفس الجيران والأقرباء والأنسباء والمعارف، الذين شاهدوا صورة الفائز ثابتة على الشاشة في إطار دائري، وغبطوه على النعيم الذي حل به، أو الهبة التلفزيونية التي حلت عليه!
وقد خطر لي ان اكف عن أي عمل أقوم به، وان احصل على إجازة عارضة من عملي، وأتوجه منذ الساعة السابعة صباحاً إلى الشوارع المذكورة، وهي كما هو معروف يفضي بعضها إلى بعضها الآخر، فأمشي بها دون كلل أو ملل، إلى أن تأفل الشمس ، فأعود أدراجي ، لأترقب صورتي ملونة على الشاشة، موضوعة في دائرة بيضاء بهيجة!
لقد خطر لي أن امضي كل ساعات نهاري في قاع المدينة، وان ألوذ بدفء المنزل ليلاً، لاسترداد بعض الراحة من مشقة الترقب للكاميرا التلفزيونية، ولاستعادة شيء من العافية التي تمكنني من المثابرة على المشي في اليوم التالي، محدثا نفسي بأن نيل جائزة تلفزيونية أفضل بكثير من نيل جائزة نوبل، على قاعدة "عصفور باليد خير من عشرة على الشجرة"!
غير ان الجهد المبذول على صعيد نيل الجائزة التلفزيونية، قد لا يقود إلى الفوز، وقد لا يظهر وجهي على الشاشة قط، سواء أكان داخل دائرة أم خارج دائرة، بل أن هذا هو المرجح، لأن مدير البرامج حين يراني أثناء المونتاج ، سوف يصيح بالمخرج قائلاً له:" الم تجد من بين كل المواطنين سوى هذا المخلوق؟ أذهب ثانية إلى سقف السيل وابحث عن وجه آخر لمواطن لا نعرف وجهه !".. ولذلك ، فقد بت على يقين من أن المنحوس منحوس، لو علقوا على رأسه فانوس، وبت على يقين من أن كل محاولة يمكن ان أقوم بها لن ترفع عسرتي، أو تقيل عثرتي، أو تفرج كربتي! وبت على يقين أيضاً، من أن ليس لمثلي سوى الصبر والسلوان!