بعيد الثالثة صباحاً...
يتسلل خارجاً وهو يغادر القبو الرطب الذي يسكنه، نسمات الصباح الباردة تلطمه بقسوة، وهي ترافقه في الزقاق الضيق، قدماه تنغرزان في الوحل، يرفعهما بصعوبة، زرقة خفيفة بدأت تصبغ السماء الفجرية، عمارات الشارع الطويل الذي دلف إليه من زاروب ضيق تبدو كأشباح، المكان موحش، لا أثر فيه للحياة، سوى انتشار خفيف لإضاءات الفجر الذي يسحب معه الحياة ببطء شديد من هذه العتمة، وبداية زقزقات بعيدة لجماعة مبكرة من عصافير الدوري ترسل تحية الصباح.
قطرات مطر ناعمة بدأت تتساقط، ابتلت لفافته المفلترة، "انفلشت" قذفها، اختلطت بالوحل، بينما قرقعت دراجته القديمة، وتألمت بصوت مسموع وهو يمتطيها قاصداً تجمع العمال الذين ينتظرون -بصمت- أوامره كل صباح، انقادت الدراجة له، بدأت تسير في طريقها اليومي، المرسوم لها، وكأنها مجبرة على ذلك.
"أبو أحمد" يسير بدراجته، شامخ الرأس، يحاول استعادة بعض العبارت التي حفظها من مسؤولي النقابة، كي يلجم استفسار واستنكار العمال. يتابع طريقه بمحاذاة الشرفات الكبيرة...
* قطرات المطر تزداد...
يجتاز بيوتاً كثيرة قبل أن يراها في مكانها المعتاد، ماتزال ترتدي قميص النوم القرمزي الذي لا يناسب حجمها، تتكئ على الشرفة، ترد له التحية، تبتسم بشهية وهو يقترب منها.
- إنها راضية عن عملها الليلة - قال لنفسه-
لم يكن في شكلها مايثير الاهتمام، سوى سمنتها الزائدة، التي تجعلها شديدة الشبه بالبراميل والحاويات التي يتعامل معها، ومع ذلك يشعر باندفاع نحوها كأنها ماتزال صبية في مقتبل العمر.
- أهلاً. أراك مبكراً إلى العمل.
- لم أنم جيداً.. أعود إليك..
- أنا بالانتظار.. إلى اللقاء..
يتابع طريقه بتردد، يستعرض ليالي كثيرة أحس فيها بالرضى عن اللحظات التي جمعتهما، تابع طريقه، وهو يشعر بالاشمئزاز بعد أن ينتهي منها، يحاول طرد صورتها، يضع مكانها صورة أخرى:
- آه منها، ماالذي غيّرها؟
إنها زوجته التي لم تعد تكترث به، بل ربما بدأت تكرهه بعد أن أحضرها إلى المدينة- من بين الدواب- كما يقول، وهو يعيد هذه الأسطوانة على مسامعها كل يوم. حتى أولاده الصغار، لا يشعرون بغيابه، والعمال...
- إنهم سفلة..
العمال لم يتعودوا احترامه بعد، هو غير قادر على إقناعهم بتنفيذ الأوامر. ترى ما الذي غير الدنيا إلى هذه الدرجة؟ يتساءل، لا يجد جواباً. يتابع طريقه.
* مطرٌ غزيرٌ ينبئ بعاصفةٍ..
يقود الدراجة مترجلاً تحت الشرفات ليحمي نفسه من المطر، يسرع الخطى إلى مكان تجمع العمال:
- كل إلى عمله. ماذا تنتظرون؟
- "إي" صبحنا بالخير أولاً، لم نتناول حصتنا من الحليب والبيض بعد أجاب أحدهم.
- " طول بالك أبو أحمد"، لدينا متسع من الوقت ، قال ثانٍ بمودة.
- "إي وليش العجلة" قالها أحد الشبان بتحدٍ، وهو بالمناسبة بعين واحدة، كان يعمل في بعض الأحيان سائق دراجة نارية ضخمة، ينقل على متنها هواة ركوب الدراجات.
- "الله يبعت الخير" المطر يقوم بعملنا اليوم، تمتم عجوز قارب الستين
لم يعد يستطيع التحمل، أحس أنه يجب أن يلقي أوامر واضحة وصريحة.
زرّر السترة، وقف مرفوع الرأس، تنحنح قليلاً:
- لا أريد أن أرى واحداً منكم هنا، خلال نصف ساعة. مفهوم...؟
- إيه.. والله وصرت يا أبو أحمد"، "تجاسر شاب".
- ولا كلمة أخرى. انصراف، عدّل وضع ربطة عنقه التي تلف ياقة قميص أسود بياضها...
- لن ننصرف سيدي، "قالها ذو العين الواحدة بتهكم مقصود، ثم نظر إلى أبي أحمد والشرر يتطاير من عينه"!! إذا كنت في عجلة من أمرك، لم لا تذهب وتعمل؟!
- حاضر، وسأعمل بدلاً منكم جميعاً، مارأيكم؟
- لامانع لدينا، إذا كنت قادراً على ذلك...
بدأت بعض الوشوشات، قهقهات صدرت من زاوية أخرى:
- "راحت عليك يا أبو أحمد..".
- عملك في مكان آخر...
- كيف تركتها اليوم؟
- يبدو أنها ملت منك؟!
- "عيب ياشباب أبو أحمد واحد منا، قالها العجوز.
- "لا منّا ولا شي"، ردّ ذو العين الواحدة.
- "طيّب" أنا خارج لأعمل، وسنتحاسب فيما بعد.
- إي موفق يا أبو أحمد" ضحكة عالية دفعته إلى الخروج بسرعة...
* الغيوم السوداء تطبق على السماء..
أكوام القمامة في كل مكان، هو ينتقل من مكان إلى آخر دون أن يستطيع القيام بشيء، المطر الغزير لم يقضِ على الأوساخ، بل زادها ببعثرة مخلفات المدينة، ومع اقتراب الفجر، بدأت الشوارع تُظهر اتساخها بقوة..
في البيت، أو بالأصح، في الغرفة الرطبة، التي يعيشون فيها مايزال أولاده نائمين. زوجته أعدت صرة كبيرة من الثياب، لها ولأولادها، وركنتها قرب الباب، قبل أن توقظ الأولاد، أعدت الشاي والطعام كي يقتات الأطفال قبل الرحيل..
في الشارع، هجمت العاصفة، بدأت بنثر الثياب في الهواء، أكياس النايلون المستعملة صارت تلهو مع الهواء، العاصفة اقتلعت الأشجار الضعيفة ورمت بها في الشارع، اكوام القمامة بدأت تنتشر في رقعة أكبر، بعض العمال انضموا إلى أبي أحمد، لكنهم وقفوا عاجزين ينظرون إلى بعضهم بعضاً، ثم إلى السماء طلباً للعون.
مع انتصاف النهار، ذهب المطر مع الغيوم، مفسحاً المجال للشمس التي أطلت مستفسرة في البداية، ثم ظهرت مشيعة الفرح في النفوس.
قاد أبو أحمد دراجته عائداً إلى البيت، تلك المرأة ماتزال في مكانها المعتاد على الشرفة تبتسم، تدخل إلى بيتها مباشرة، يدخل مسرعاً خلفها، كانت مسترخية في غرفة نومها الرخيصة التي لا تدخلها الشمس، مثلها مثل بيته. غاب معها لحظات، اعتقد أنها السعادة بعينها، اشمئزاز آخر رافقه في خروجه من غرفة نومها، أسرع إلى بيته...
أمام المدخل الضيق لم ير أحداً من أولاده بالانتظار لإدخال الدراجة، تابع طريقه، دلف إلى ساحة الدار -لا أحد- إلى الغرفة الرطبة بلا شمس، إنها فارغة تماماً، تهالك على الأرض بانتظار الشمس الصباحية كي يسأل عن زوجته وأولاده.
* بانتظار الصباح التالي...
مع ارتفاع الشمس إلى كبد السماء، بدأت السيارة التي أقلت الزوجة والأولاد تصعد المرتفعات الجبلية الخضراء، تاركة خلفها قمامة المدينة وروائحها. مع كل ارتفاع كان صوت الأولاد يرتفع وهم فرحون. تقف السيارة، تنزل الزوجة. الأولاد يسبقونها إلى زواريب الضيعة المشبعة بالحياة، يتوزعون بين الحواكير والحقول، يتابعون طريقهم إلى بيت طيني له رائحة الحياة. الشمس الدافئة الساطعة تزرع الحياة في أوردة كانت على وشك الجفاف.
هو... كان مايزال يغط في نوم عميق له رائحة القمامة....