بتـــــاريخ : 11/18/2008 6:49:47 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1427 0


    زهرة اللافندر

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : أنيسة عبود | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    مؤكد أني أغلقتُ باب المنزل وأنا أغادره.‏

    لكنّي حين تلّفتُ، شعرت أن الباب مفتوح، صعدت الدرج بهدوء ودفعت الباب فانفتح فوراً.‏

    أنا واثقة أني أقفلته جيداً خوفاً من دخول أحد أثناء غيابي.‏

    شعرت بالخوف وأنا أتفقد غرف المنزل. لم أجد أي شيء قد تغيّر، فقط باب الشرفة الغربية كان مفتوحاً.‏

    "لا بدّ أني نسيته"‏

    رنّ جرس الهاتف فتسمّرت مكاني.‏

    "لن أردّ" قلت بصوت عالٍ وكأني أبلّغُ رسالة لهذا الهاتف. توقعت أن يكون "عليّ" على الطرف الآخر. لم أعد راغبةً بوصل ما انقطع. سأغلق قلبي على زمنٍ مضى وسأكتفي به شاهداً على عذابات كثيرة.‏

    الهاتف يرنّ.‏

    كلمة واحدة تقطع زمناً وتلغيه. كلمة واحدة تشعل حريقاً... أو...‏

    "لن أرد"‏

    الهاتف يرنْ أتأمله بحزن. هذا الجهاز الصامت لو أنه يتكلم ذات يوم، سيقول إني أغلقته في وجه الكثيرين، سيقول إني صرخت وبكيت آلاف المرات. سيقول: وحده عليّ كان يلغي العالم كله أو يحضره كله.‏

    "الهاتف يرن" وأنا لا أرد، أشعر بالخجل منه، سابقاً كنت أركض إليه متلهفة أتكور على الأريكة وأنتظر رنينه في موعدٍ محدد من يومٍ محدد. كان أحياناً يخرس، فكان المنزل يضيق بي، ولم يكن أمامي إلا أن أتصل أنا، ولكن لا أحد في الطرف الآخر. أعاود الاتصال عدة مرات وأنصت إلى رنين هاتفه حتى يصمتُ أشعر عند ذلك بالراحة. لقد تلمست جدران منزله عبر الأسلاك، كان هو يحدثني عن هذه المشاعر، مرة قال لي: اتصلت بك، لم تردي.. آه ياحبيبتي، تمنيت أن يردّ أي شخص كان أي شيء... تمنيت...‏

    مازال الهاتف يرنّ أسمع صوته ينساب عبر كل الأشياء في المنزل، صوت الهاتف يحمل وجه علي الذي أحبّه. والذي أهرب منه ويتبعني، أهبط الدرج، أتعثر بأصص الورد. آخ.. أصرخ وكأني أعترف للصمت بقراراتي.‏

    جارتي التي تقف عند المدخل، أقسمتْ بأني لم أصبّحْ عليها، مع أني متأكدة من أنني سلمتُ عليها، فشكتْ إليَّ زوجها.‏

    "زوجي بخيل وعينه نهمة للنساء. كأنهن سلال تين لا أكثر"‏

    وسألتني رأيي:‏

    "أأتركه أم لا؟"‏

    هي تحسّه مثل كأس قذرة، توضع على المائدة دون أن تغسل وهي لا تقدر أن تشرب في كأس شرب منها غيرها، وما تزال آثاره على زجاجها كبقعةٍ قاتمة.‏

    هذه الكأس تحتاج إلى تنظيف وتطهير لتكون صالحة للاستخدام ثانية، أليس كذلك؟ أم أنهم كلهم هكذا؟!‏

    قلت لها، لا.. ليسوا هكذا.‏

    "بل كلهم... بل"‏

    لم أرد، كنت مجهدة. لا قدرة لي على الجدال. لكل رأيه في هذه الحياة. أنا مثلاً أرى أن الإنسان السويّ لا يقدر أن يجمع أكثر من شخص واحد في قلبه، ومن يحيط بالعشرات لا يكون سعيداً. ولا يستمتع بالعلاقة الإنسانية.‏

    كم تحاورنا أنا وعليّ في هذه الأمور، تنهدت بشكل عفوي، انتبهت إلى جارتي التي استمرت في وقفتها، بينما تابعت السير باتجاه البحر.‏

    شعرت أن المسافة طويلة جداً، وأن دهراً يفصلني عن البحر. الصباح في أوجه ومنزلي صار بعيداً. مع ذلك ما زلت أسمع صوت الهاتف. خالد قال لي: اتصلت بك أكثر من مرة ولم يردّ عليّ أحد. خالد رجل رقيق ولكنني قررت الانغلاق على نفسي كبيت مهجور.‏

    ها هو البحر يمتد كقطعة من المخمل الأزرق بين حافتي عمارتين ضخمتين تقفان على طرفي الشارع المنتهي إلى الشاطئ. الموج هاديء والكورنيش وحيد مع الصخور والكراسي الفارغة، الرمال تتثاءب وأنا وحدي، يغريني البحر بتناول القهوة والإنصات إلى الأعماق السحيقة.‏

    تأملتُ المسافات الزرقاء: كم هي شاسعة. تفصلني عن عليّ بكل شراستها، تأجج الشوق في أعماقي، رأيت طيف ملامحه فوق سطح الماء. لا أريد أن أستجمع هذه الملامح في صورة كاملة. عندما تكتمل الصورة نفتقد الحلم. أأنا ما زلت أحبّه؟!‏

    لا أريد أن أجيب عن السؤال، هذا السؤال الذي سألني إياه خالد.. أطرقت رأسي صامتة. قدّم إلي زهرة "لافندر" أخذتها بخجل ولكن لم أحتفظ بها كنت أحتفظ‏

    بقرنفلة علي فقط.‏

    "أريد قهوة من فضلك"‏

    قلت للنادل فأسرع يلبي طلبي الذي انتظره طويلاً وأنا أتأمل الموج...‏

    كم من الخائبين وقف على هذا الشطّ ونظر باتجاه الغرب كأنه يريد طيّ المسافة الهاربة.‏

    جاء النادل يحمل صينية نحاسية محفورة بأوراق النباتات، وعليها ركوة نحاسية كأنها من متحف للآثار. ومع الركوة كأس ماء وفنجانا قهوة.‏

    "واحد لك. والآخر لعليّ"‏

    نظرت إلى النادل مندهشة. تأملت ملامحه الغريبة... لم أره من قبل.. ولم يقدم لي القهوة أبداً. مع ذلك لم أقل شيئاً. تركت القهوة وسرت على الكورنيش أُلملم الموج والرمل والمدى... كانت نسمات الصباح رقيقة كأنها يد محبّ يمررها على وجه محبوبه الحزين. طارت نوارس كثيرة فوقي. سمعتُ وقع خطوات تقترب مني توقعت أي شخصٍ آخر يسير مثلي وحيداً. لكن فجأة اقتربت مني موجة عطرٍ غمرتني برائحة أعرفها، ياه... إنه عطر عليّ.‏

    ولكن لن ألتفت.. سأتظاهر بأني لم أحسّ به. رائحة العطر تنفذ إلى مسامات روحي وذاكرتي. أقاوم حرقة ورغبة بالالتفات إلى الوراء. أتخيل أني أسمع همسه وصوته الذي أميزه من بين آلاف الأصوات. أشعر أني غير قادرة على حمل نفسي أكثر.‏

    أريد أن ألتفت. أن أركض إليه، سيعاتبني لأني أمشي وحدي صباحاً والمدينة نعسانة، سأعاتبه على غيابه الطويل، ثم سننسى كل شيء، كأننا لم نفترق، أو كأنه لم يفرط قرنفلتي في تلك المحطة وينثرها على شعري بغضب لأني ابتسمت، قلت له: أنت كل الرجال، لم يصدقني. قلت له: أنا أضع العطر لك وحدك، وأرتدي الثياب الجميلة لك وحدك، لم يصدقني.‏

    الخطوات تقترب مني أكثر، أمشي ببطء، ومع ذلك لا تتجاوزني، مؤكد أنه عليّ، هذه مشاكساته. سأقول له نسيتك، وإذا ما دعاني للحوار لن أحاوره. حتى الورد الذي كنت أجففه له سأنتزعه من باطن الكتب وسأرميه أمامه. هي حقبة من عمري وانتهت، فيجب أن تنتهي كل آثارها، سأحوله إلى رجل عادي، كأي رجل، لن يعنيني بعد الآن عطره ولا ثيابه التي كنت أحبّ ألوانها، وإذا ما رأيته مع امرأة أخرى لن أهتم. أعرف بأني أضفيت الكثير من الصفات الرائعة عليه، الآن سأنتزعها منه. لكن الخطوات ورائي، وموجة العطر تحيط بي، لا بدّ أنه الآن يرتدي ربطة عنقه المشجرة بالأحمر.. لا بدّ أنه يرتدي قميصه الأخضر الحريري الذي أحبّه. لا بدّ... وأنا أحاول التماسك، يبدو أن الورد الذي ينبت في الأعماق لا يموت بسهولة. أمشي ببطء ورأسي إلى الأرضّ منتظرة يد علي تربت على كتفي. يطول انتظاري. أجتاز مسافة في الشارع المؤدي إلى بيتي. أشغل نفسي بالواجهات. أحاول الوقوف أمام بائع للفستق الحلبي، أسأل عن السعر، أريد أن تتجاوزني موجة العطر، ومع ذلك تظلّ ورائي أقترب من المنزل. أقف عند المدخل فتتجاوزني الخطوات الرتيبة، يقف أمامي شاب أنيق وسيم يحمل حقيبة سفر صغيرة، يبتسم ويسألني أتعرفين خالد الـ... لم أستطع أن أرد. كبّلتني الدهشة. صعدت درج المنزل. رأيت الباب مفتوحاً والهاتف يرنّ. اقتربت بخوفٍ، رأيت باقة زهر من اللافندر البنفسجي في الزاوية. نظرت حولي. الهاتف يرنّ. رفعت سماعة الهاتف بحذر. لا أعرف أي صوت سيكون في الطرف الآخر. لا أريد أن أفقد الأحلام الجميلة. وضعت السماعة دون أن أقول "ألو". ولكن عاد الهاتف ثانية للرنين. صوته تحول إلى نقرات خفيفة على كتفي. رفعت السماعة وقلت بهدوء "ألو" ولكن لم يرد عليّ أحد، لم أشعر بالأسى. كان عبق اللافندر يملأ المكان ويتغلغل إلى روحي

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()