بتـــــاريخ : 11/19/2008 6:51:27 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1079 0


    الحكايات الطويلة ساقية من عسل وساقية من سمن

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : أحمد زياد محبّك | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة أحمد زياد محبّك

    جرت من باب القصر الملكي ساقيتان، إحداهما من عسل، والأخرى من سمن، فرحاً بشفاء ابن الملك من مرض عضال، ألم به سنوات طويلة، وانداحت الساقيتان في شوارع البلدة وطرقاتها، وأقبل الناس على جمع السمن والعسل في الجرار، ولم يبق أحد في المدينة، لم يختزن من السمن والعسل.‏

    ولكن عجوزاً تقيم في طرف البلدة، تناهى إليها الخبر متأخراً، ولما خرجت من بيتها تحمل جرتيها، كانت الساقيتان قد نشفتا، ولم يبق فيهما شيء، فراحت تتبعهما، وتجمع ماعلق بحوافهما، وماتبقى في زواياهما، حتى بلغت منبعهما، عند باب القصر، فاكتفت بما ملأت به جرتيها من سمن وعسل، وحملت إحداهما على رأسها، واحتضنت‏

    الأخرى إلى صدرها، وراحت تتدحرج في مشيتها، عائدة إلى بيتها، وقد نال منها التعب، والإرهاق.‏

    وكان ابن الملك في شرفته، يرى إليها، فلم يعجبه صنيعها، وظن فيها الطمع والجشع، فلقد ظلت الساقيتان من الصباح إلى المساء، أفلم يكفها ماقد نالت؟ فما كان منه إلا أن حمل حصاة، وقذف بها الجرة التي على رأسها، فسقطت على الأرض، وتحطمت، وساح منها العسل، فقهقه بصوت عال، ضاحكاً منها، فالتفتت إليه، وأخذت تتأمله ملياً، ثم ماكان منها إلا أن رمت الجرة التي كانت تحتضنها، وقالت: "أسأل الله تعالى أن يوقعك في حب سلمى، مثلما أوقعت الجرة".‏

    فأسرع إليها ابن الملك، ملهوفاً، وسألها: "ومن هي سلمى؟"، فقالت له: "صبية، عيناها عيناك، وفمها فمك، وأنفها أنفك، تشبهك في جمالها وملاحتها، إذ رآها من يعرفك حسبها أنت، وإذا رآك من يعرفها حسبك إياها"، فتلهف ابن الملك إلى لقائها، وقال لها: "هلا دللتني عليها، ياخالة"، فقالت له: "املأ لي الجرتين، أولاً"، فأمر الخدم، فملؤوا لها سبع جرار عسلاً، وسبع جرار سمناً، فقالت له: "إنها في بلد بعيد، بعيد جداً، وراء بغداد، يدعى شيراز..".‏

    وهمت العجوز بالانصراف، ولكن ابن الملك لحق بها، وتوسل إليها أن تدله على طريق الوصول إليها، فقالت له: "إنها متزوجة يابني، وزوجها كبير الصاغة في شيراز، وهو يغار عليها غيرة شديدة، وقد وضع عليها سبعة أقفال، فليس إليها من سبيل".‏

    فذهل ابن الملك، وأحس بخفق قلبه يزداد، وشعر برغبة كبيرة في الوصول إلى سلمى، ولقائها، أياً كان الثمن، فلقد وقع في حبها، وكأنما أجاب الله دعاء تلك العجوز.‏

    ولم يلبث ابن الملك إلا أياماً، تجهز فيها بالخدم والأموال، ثم شد الرحال إلى شيراز، فلما بلغها نزل فيها متنكراً في زي تاجر، وظل يطوف في أسواقها وطرقاتها، ويتعرف على تجارها وأمرائها حتى اهتدى إلى كبير الصاغة فيها، فقصد إليه ذات مساء، وأقبل عليه وحياه، فدهش الصائغ لمرآه، بل ذهل، ولولا الثياب التي يرتديها، ولولا يقينه من أنه قد وضع على زوجته سبعة أقفال، لحسبه زوجته نفسها، فكل شيء فيه يشبهها: الأنف والعينان والوجه والفم، بل الحديث والكلام.‏

    وقدم الشاب إلى الصائغ جوهرة نادرة، طلب منه أن يصوغ عليها خاتماً، يزين به بنصره، لا يصغر عنه، ولا يكبر، ثم قدّم له ثلاث جواهر هدية، فوق أجرته وطلب منه أن ينجزه في الصباح، وكان الصائغ يعد نفسه في الحقيقة لإغلاق الدكان، والذهاب إلى البيت، ولكنه أمام جود الشاب، لم يستطع الاعتذار، فوعده أن ينجزه له.‏

    وأغلق الصائغ دكانه، ومضى إلى البيت، فتناول قليلاً من العشاء، وحدث زوجته بأمر الفتى الشاب، ووصفه لها، وأخبرها بما بينها وبينه من شبه، وأكد لها أن ذلك الفتى يكاد يكون هي نفسها، ثم أخبرها بأمر الخاتم، والمجوهرات، ورجاها ألا تشغله في شيء وأكب على صوغ الخاتم، وظل يعمل فيه حتى الصباح.‏

    وكانت الزوجة تساهر زوجها، وترقبه وهو يصوغ الخاتم، وهي تتخيل ذلك الفتى الشاب، وتتمنى لو تراه، وقد شغلت به شغلاً.‏

    ولما كان الصباح، انطلق الشاب إلى الصائغ، الذي كان ينتظره في دكانه بقلق واهتمام، فقدم إليه الخاتم، فجربه، فوجده صغيراً، فرده إليه، وطلب منه أن يحتفظ به لنفسه، ثم قدم له جوهرة أخرى، أروع من الأولى، وأثمن، وطلب منه أن يصوغ عليها خاتماً آخر يريده في المساء، ثم قدم له ثلاث جوهرات هدية، بالإضافة إلى أجرته.‏

    فأغلق الصائع الدكان، من الداخل، حتى لا يشغله أحد، وأكب على صوغ الخاتم، بدقة وعناية واهتمام، فأمضى فيه معظم يومه، حتى إذا حل المساء، قصده الشاب فوجده في انتظاره، فلما قدم إليه الخاتم، جرّبه، فوجده أكبر من بنصره، فرده على الصائغ، وطلب منه أن يحتفظ به لنفسه، ثم قدم له جوهرة ثالثة، أروع من الأولى والثانية، وأثمن، وطلب منه أن يصوغ له عليها خاتماً،‏

    يريده في الصباح، ثم قدم له ثلاثة جوهرات هدية، بالإضافة إلى أجرته.‏

    وأقفل الصائغ الدكان، ومضى إلى بيته، وهو في قلق وخجل شديدين، فقص على زوجته ماكان من أمر الشاب، ورده الخاتمين عليه، وتقديمه له الجوهرات الثمينة، هدايا له، فدهشت الزوجة لكرم الشاب، وجوده، وطيبه، ثم تمنت على زوجها أن يسمح لها بتجريب الخاتم الذي صاغه له، وكان أصغر من بنصره، فقدمه إليها، فوضعته في إصبعها، فإذا هو يناسبها، وقد تألق في أنملها وازدان، فسألت زوجها أن تحتفظ به لنفسها، فقال لها: "هو لك"، فحملت الخاتم، ومضت تساهره، وتناجيه، وتتخيل الفتى الشاب فيه، وتتمنى لو تلقاه.‏

    ومضى الزوج في صوغ الخاتم، فأكب عليه، معظم الليل، وهو يوليه من العناية والاهتمام جل مايستطيع، حتى أنهاه.‏

    وفي الصباح قصد الدكان، وقعد ينتظر الفتى، فلما أطل عليه، رحب به، وقدم له الخاتم، وهو قلق مضطرب، فوضعه الفتى الشاب في بنصره، فجاء موافقاً له، فشكره، وأثنى عليه، ثم قدم له اثنتي عشرة جوهرة كبيرة، هدية، فدهش الصائغ، ودعا الشاب إلى مشاركته العشاء، فوعده بالحضور.‏

    وفي المساء قدم الصائغ لضيفه أطايب الطعام، مما أشرفت على إعداده زوجته، نفسها، وأمرت الخدم أن يعنوا به العناية كلها، ثم لما كانت السهرة، أرسلت إليهما مع الخادم كأسين من الشراب، ووضعت في أحدهما منوماً، ونصحت الخادم أن تقدمه إلى زوجها.‏

    وما إن رشف الزوج شيئاً من كأسه، حتى استغرق في نوم عميق، وقبل أن يتم الضيف كأسه، دخلت عليه سلمى زوجة الصائغ، فدهش كلاهما، وأخذ كل منهما بيد الآخر، وراح يتملى ملامحه، ويطيل فيه النظر، وهو معجب به، مفتون.‏

    باح كل منهما للآخر بهواه، من قبل أن يراه، وأمضيا معاً ليلة فيها الأنس والنعيم، حتى طلع الفجر، وأشرف الزوج على أن يفيق، فكان لابد من الفراق، وخاف الفتى الشاب ألا يستطيع إليها الوصول، فسألها ماذا يفعل، فنصحت له بالنزول في الغد إلى البازار ، وحضور المزاد، فإن داراً مجاورة لها سوف تباع، وماعليه إلا أن يزيد في ثمنها، حتى يرسو البيع عنده، وعندئذ يمكن لهما أن يتواصلا من خلال ثغرة يحدثانها في الجدار الذي يفصل بين الدارين.‏

    وكان للعاشقين مادبراه، فقد اشترى الشاب الدار، وأحدث في جدارها خرقاً، يفضي إلى غرفة في دار الصائغ، مهجورة، فكانا يلتقيان، ويتواصلان، وينعمان معاً بطيب اللقاء، والصائغ لا يشك في شيء، وكيف يشك، وهوا لذي وضع على زوجته سبعة أقفال؟!‏

    وكان الفتى الشاب مايفتأ يزور الصائغ في دكانه، فيجلس معه ويسامره، وكان الصائغ يدعوه أحياناً إلى داره، فيلبي الفتى، وقد توطدت بينهما صداقة متينة، والصائغ لا ينتبه إلى مايدور وراءه في الخفاء، وإن كان قد عرف أن الفتى الشاب هو ابن ملك، وقد استغرب منه طول مقامه في البلد، ولكنه سوغه بالنزهة والفرجة والاستجمام.‏

    ثم حان يوم كان فيه على الأمير أن يعود إلى بلاده، فقد أرسل إليه والده يعلن عن عزمه على التخلي عن العرش، وتوليته إياه، فحدث سلمى بالأمر، فقالت له: "أرحل معك"، وحين سألها عن زوجها، قالت له: "أتخلى عنه"، ثم عمدت إلى سيف زوجها، وكان قد صاغ قبضته بنفسه، ورصعها بأغلى الجواهر، فقدمته إلى عشيقها، وقالت له: "اذهب إلى زوجي، فشاوره في شرائه".‏

    وحمل الأمير السيف ومضى به إلى الصائغ، فعرضه عليه، يسأله رأيه، فيه، فهو يريد شراءه، وقد ادعى أن أحد التجار قد عرض عليه شراءه، وما إن رأى الصائغ السيف حتى دهش، ولكنه ماكان ليشك في إخلاص زوجته، وهو الذي وضع عليها سبعة أقفال، فأخذ السيف بين يديه، وقلبه وتملاه، وأدام فيه النظر، وتفحصه، وهو بين شك ويقين، فكان كلما دقق فيه، ازداد به تعرفاً، ولكنه أنكر الأمر، ونصح للأمير بشراء السيف.‏

    وما إن انصرف الأمير حتى أغلق الصائغ دكانه، وأسرع إلى بيته، وما إن وطئت قدمه أرض الدار، حتى صاح بزوجته، طالباً منها أن تحضر له سيفه، فتظاهرت بالتوعك، وأنكرت عليه صياحه، وقالت له:"سيفك في موضعه، فاطلبه تجده"، ومضى إلى حيث كان قد وضع سيفه، فوجده في مكانه، فخجل وتخاذل، وكتم الأمر، ووارى شكه واضطرابه.‏

    وفي يوم آخر، قدم الأمير على الصائغ، يعرض عليه عباءة يشاوره في شرائها، وما إن رأى الصائغ العباءة حتى عرف فيها عباءته، فأخذها منه،وتفحصها، وتملاها، فازداد يقيناً بأنها عباءته، ولكنه تجاهل الأمر، وأخفى اضطرابه، ونصح للأمير بشرائها، ثم أغلق دكانه، وأسرع إلى بيته، وفعل مثل مافعل من قبل، حين رأى السيف، ولكنه خرج ثانية مخذولاً، فقد رأى عباءته في موضعها، وكانت زوجته سلمى هي التي دبرت الأمر، مثلما دبرته من قبل.‏

    ومرت بضعة أيام، كانت الزوجة تتظاهر فيها بالتوعك والمرض، وكان الزوج يعرض عليها إحضار الطبيب، فكانت تنكر عليه أن تسمح لرجل أن يراها، فيزداد بذلك يقيناً بوفائها وإخلاصها، وإن كان يحس أن ثمة أمراً ما غريباً، يشعر به، ولا يستطيع تحديده.‏

    وذات يوم دخل الأمير على الصائغ في الدكان، يصطحب معه جارية، جاء يشاوره في شرائها، وما إن رأى الصائغ الجارية حتى عرف فيها زوجته، وقد صبغت وجهها، وتنكرت في زي الجواري، فتقدم منها، وأخذ يتأملها، وهو في قلق واضطراب وغضب كبير، ولكنه ملك نفسه، ووارى مايجيش في داخله، ثم عمد إلى المثقب الذي يثقب به اللآلئ، فحمله، وتقدم منها، فأحدث في خديها جرحين خفيفين، وقال لصاحبه الأمير:"إن من عادة المرء إذا اشترى جارية، أن يفعل بها مثل ذلك، علامة"، ثم نصح له بشرائها، وبارك له فيها، وكان الزوج يريد بالجرحين، ترك أثر فيها، يفحمها به، حين يعود إلى البيت.‏

    ولما مضى الأمير مع الجارية، أغلق دكانه، وأسرع إلى البيت، ولكن زوجته كانت سبقته، فغسلت الصبغ الذي دهنت به وجهها، ومدت الفراش، واستلقت فيه، وما دخل الزوج، ونادها، حتى أخذت تلطم وجهها، وتحدث فيه جروحاً بأظافرها، متظاهرة بالفزع الشديد، من دخوله المفاجئ عليها، وهي في المرض.‏

    ولما رآها الزوج مجرحة الخدين بأظافرها، لم يستطع أن يتهمها بشيء، فصمت، وخرج مخذولاً ولكنه أدرك الحقيقة وعرف الأمر.‏

    وأخيراً حان يوم رحيل الأمير، وكان من قبل قد كشف عن شخصه، وزار ملك البلاد، وتعرف إلى كبار الرجال، فتهيأت شيراز لوداعه، ونصبت الأقواس، ورفعت الأعلام، ولم ينسَ الأمير صاحبه الصائغ، فمر به في دكانه، قبل يوم من رحيله، يودعه، وقدم إليه هدايا لا تقدر بثمن، فحزن الصائغ لفراق صاحبه، وندم لشكوكه فيه، وأسف لسوء ظنه في زوجته، وعاد إلى يقينه بوفائها وإخلاصها.‏

    وحين عاد الزوج إلى البيت في المساء، وأخبر زوجته بعزم الأمير على الرحيل، وصارحها بألمه لفراقه، فأبدت تأثراً خفيفاً لسفره، ولامته إذ لم يسمح لها بأن تراه طوال إقامته في البلد، ثم توسلت إليه أن يسمح لها بمشاركته في وداعه، فأبى، فعرضت عليه أن يأذن لها فقط بالإطلال من نافذة بيتها كيما تراه من بعد، قبل ذهابه، وهو الذي طالما حدثها عن شبهه بها، فوافق على أن لا تطيل المكث في النافذة.‏

    وكانت سلمى قد هيأت كل شيء، ورتبت الأمور خير ترتيب، فما إن خرج موكب الأمير، وانضم إليه الصائغ لوداعه، حتى رأى زوجته إلى جانب الأمير، فلم يصدق ما رأى، وهو الذي أحكم إغلاق الأقفال السبعة عليها قبل خروجه، كعادته كل يوم، والتفت إلى نافذة بيته، فرأى زوجته واقفة فيها، ولا يظهر من وراء خمارها سوى عينيها، فاطمأن قلبه، ولكنه أعاد النظر إلى موكب الأمير، فإذا زوجته هي بنفسها إلى جانب الأمير، ورجع ببصره ثانية إلى نافذة بيته، فإذا هي تطل من النافذة، فحار في أمره، ولم يستطع أن يغادر الموكب، إذ كان عليه أن يبلغ معه حدود البلدة.‏

    ولما بلغ الأمير حدود البلدة، ودعه صديقه الصائغ، وعاد إلى بيته كالريح، وارتقى درجات السلم وهو يلهث، وأقبل على النافذة، وإذا فيها دمية خشبية، على هيئة زوجته، وشكلها، قد ألبستها مثل ثيابها، ووضعتها أمام النافذة لخداعه.‏

    وطاف الصائغ في أرجاء الدار ينادي "سلمى... سلمى... سلمى"، ولكن ما من مجيب.‏

    تعليق:‏

    حكاية مسرفة في الخيال، تشبع لدى العامة أوهامها وأحلامها، وتنبه في المتلقي ذكاءه وتحفزه، وتسرح به في عالم من الجمال والعواطف والمغامرة.‏

    وهي تؤكد قوة الحب وانتصاره على الذهب والأموال، كما تؤكد تغلبه على القيود والحدود والأغلال وهو بعد ذلك كله قدر لا مفر منه ولا مهرب.‏

    لقد ارتحل الشاب من بلد إلى بلد، حتى يلتقي بمن يهوى، وقد ظفر المحبان باللقاء على الرغم من الأقفال، وكان ذلك كله مقدراً لهما.‏

    والحكاية تنتصر للمرأة، وتبرز دورها على الرغم من الأسوار والأبواب المغلقة، محققة بذلك انتقاماً لبنات جنسها.‏

    ويلاحظ أن الحب يتحقق في الحكاية خارج حدود الوطن، وفي بلاد الأعاجم، مما يدل على فقدان الحب والحرمان منه داخل الوطن

    كلمات مفتاحية  :
    قصة أحمد زياد محبّك

    تعليقات الزوار ()