وضعت الحرب أوزارها!!!
لملم الجنود اشلائهم المبعثرة على طول الحدود,وبدأت قوافلهم تنهب الطرقات عودة الى الاهل والديار.
بكت الامهات الثكالى ماشاء لهن,وانكفأت الارامل على أنفسهن ماشاء لهن,واحتسبت مقل الايتام عن دموع تأبى الانحدار...
علامة استفهام ترتسم في الأفق,تسيرها السحب مع قوافل العائدين الى ديارهم,ماذا حدث؟ وكيف حدث؟
ثمانية أعوام عجاف,هلكن الحرث والنسل...وخلفن في كل دار عزاءً,وقلوب حرقى...
علامة تعجب كبيرة تفرض نفسها على الواقع,كلا الطرفين يهلل جذلاً بالنصر,فكلاهما اعلن انتصاره عند انتهاء الحرب!!!
واحتارت البشرية في امرها,كيف بدأت الحرب؟وكيف انتهت؟
كيف كان النصر؟
من المنتصر؟ ومن الضحية؟
لاأحد يدري...
لاأحد يهمه الأمر...
المهم ان كل شيء قد انتهى,فلا صفارة انذار بعد الآن,ولا غارات جوية,ولا جثث,ولا خوف...
وبعد انتهاء الحرب,عاد المغيبون خلف الحدود,ما يسمونهم ب ( الاسرى ),اقسى ما تستطيع الحرب ان تمنحه ذكرى...
عاد سعيد,شيء متحرك خلفته سنوات الحرب,بقايا انسان يستشرف المستقبل امامه برؤى قلقة مضطربة,ياترى ماذا حدث خلال ستة اعوام من غيابه عن الوطن,اهله,زوجته,حارته...
استقبله اهل الحارة بالحلوى والورد,ذبح له ابوه كبشاً كبيراً,اقاموا له حفلاً بهيجاً...ولكن,اين هي؟
تساءل عندما انفض الجميع: اين كريمة؟
تسللت امه خارجاً وهي تخفي دمعة,جمعت اخته صغارها وفرت بهم,ياترى ماذا حدث؟
أهو الموت,أسوء قدر يمكن ان يصيب الانسان؟
أعاد السؤال ثانية,باضطراب :اين هي كريمة؟
لملم الرجل المسن اطراف حزنه وقال: سوف يعوضك الله ياولدي بخير منها.
ارتعش بدنه,انعكاساً طبيعياً لوجل قلبه,وأعاد السؤال ثالثةً :اين كريمة؟
الرجل المسن بشيء من الخوف,وكثير من الحزن: عندما اختفى اثرك,وانقطع ذكرك,وجاء الخبر بانك مفقود الاثر,حزمت كريمة متاعها وعادت الى بيت ابيها وفي احشائها يتحرك جنين,وبعد اشهر جاء الاب يخبرنا بان ابنته وضعت بنتاً,ذهبنا انا وامك الى زيارتها,كانت طفلة جميلة جداً,تشبهك ياسعيد,اخبرنا الاب بان كريمة تعزم الزواج من ابن عمها المقيم في اوروبا,وهي لاتستطيع ان تأخذ الطفلة معها,قلت له ولكنها مازالت على ذمة سعيد,فأجابني بان المحكمة قد حكمت لها بالطلاق لان خبرك قج انقطع عنها وانت في عداد الموتى,ايه ياسعيد,لاتسأل عن حال امك في تلك الليلة...
بلع الرجل المسن ريقه بصعوبة,ونظر الى ولده ليجده لوحة خرساء لاتنطق بشيء,فعاود حديثه قائلاً: جميعنا كنا نعتقد بانك...
بلع الرجل المسن كلمته بريقه المغمس بالحزن,اطرق حيناً ثم عاد ليقول بعد ان طال صمت ولده: المهم ,أخذنا منها البنت,وسمعنا بعد حين بسفرها الى الخارج,لاعليك ياولدي,لاتلمها,لقد كانت تظنك مي....
نظر سعيد الى ابيه بعينين مخضلتين بالقهر,ومن بقايا الإنسان همس بوهن: اين هي ابنتي؟
دخلت امه تحمل طفلة صغيرة جميلة,هي خلاصة ما تبقى له من امل.
وضعتها في حضنه,نظر اليها طويلاً,اجل,تشبهه كثيراً,بجث عن صوته المقهور,حتى وجده يتضرح دماً,فاستغنى عنه...
كفكفت امه دمعها وهي تقول : كنت اشم ريحك فيها,كانت طفلتك مؤنسي في تلك الاعوام القاسية,لاتحزن,عندما سمعنا بخبر عودتك,لم نصدق حتى قرأنا أسمك في قائمة الاسرى,بل دعني اصدقك القول,لم اصدق حتى رأيتك بأم عيني,اعذرها يا ولدي,لاتفكر بها,لتبدأ حياتك من جديد,نحن جميعاً معك,ابنتك تنتظرك,كلنا ننتظر حياتنا الجديدة معك...
طال صمته,فعاودت امه حديثها وقلبها يتمزق لحال ولدها: قل شيئاً ياسعيد,قل شيئاً يانورعيني,قبل صغيرتك,افعل اي شيء غير هذا الصمت.
لم يجبها سعيد,ازاح الطفلة عن حضنه,وغادر...
خرج من بيته,جال في الطرقات,مازالت المدينة كما تركها منذ ستة اعوام,شوارعها,مبانيها,ناسها,لم يتغير شيء,هو وحده الذي تغير...هل تفهم كريمة ماذا يعني ان يقضي المرء ستة اعوام من عمره في زنزانة الاسر؟
هل تفهم كريمة الليل عندما يهبط معلناً انتهاء يوم آخر يلحق بقافلة العمر المتعبة,كيف يكون قاسياً؟
ستة اعوام,من الاغتراب والفراق والانتظار,افكار كثيرة,وأماني كثيرة,ومخاوف اكثر,تتجمع على المرء لتزيد من وطأة القيود وقسوة الفراق...
ياليته قتل في المعركة,وانتهت رحلة عذابه...
ياليته قضى نحبه في زنزانته كما حدث للكثير,وبقي مفقود الاثر الى الابد...
الامل الوحيد الذي كان يداعبه في تلك السنوات,ويجعله يتمسك بالحياة هو رؤية وجه كريمة مرة اخرى!!!
مازالت كلماتها تقرع اسماعه,آخر كلماتها عندما ودعته على عتبة الباب وهو يحمل حقيبته ليتوجه الى الحرب: سأظل انتظرك ياسعيد,حتى لو امتد الدهر ألف عام.سأبقى على عتبة هذا الباب امد بصري الى البعيد,اسمر نظراتي الى المجهول,حتى تعود.
كانت هذه الكلمات عزاءه في سنوات محنته,كان يحدوه الامل ان يجدها تقف على عتبة الباب,تبتسم له...فقد عاد.
كلمات ابيه رعناء لامعنى لها,يواسيه : ( سيعوضك الله بخير منها ),انه لايريد امرأة اخرى,ولم يفكر بكريمة على انها امرأة يعود اليها...
كلا,لقد كانت كريمة حلمه الذي سهد معه ليالي الاسر الحالكة الظلام...
كانت كريمة,الذكرى التي جعلته يقاوم ليحيى...
كانت الطهر في زمن الرذيلة,الحب في زمن الجفاف,الوفاء في زمن الغدر...ولكنه الآن يعود فيجد كل ذلك سراب,وهم خدر وجوده السنين المنصرمة.
طاف المدينة بجسد منهك,وروح مضطربة,وفكر مشوش,اضطربت الاشياء امامه,وبات لايفهم كثيراً من الملامح التي تظهر امامه وتحيط بوجوده,وبعد عدة ساعات عاد الى البيت بطريقة آلية,فهو لم يفكر بالعودة الى البيت,ولكن قدماه ساقته الى هناك...
دلف الى بيته,فأحاطته النظرات الملتهبة قلقاً وحزناً,وبطريقة آلية صعد الى غرفته...
وعند الصباح,طرقت امه بابه عدة مرات,لم يجبها,حاولت فتحه,كان مغلقاً...
اخبرت والده واخوته...اسرع الجميع...دفعات قوية وتحطم الباب....
كان هناك ...معلقاً بحبل من رقبته..وتحت قدميه كرسي مقلوب,كل شيء كان صامتاً,سوى عقارب الساعة التي ما برحت تطوي مسيرتها الزمنية برتابة ولا مبالاة.