وكان زوج الأولى، السمان، يحب المامونية(1) ، ويطلب منها أن تعدّ له كل صباح صحن مامونية، حتى أنها ملت وضجرت من تكرار الطبخ، كل يوم، ففكرت، ثم اهتدت إلى حل، وكان زوجها قد اختزن في الدار أكياساً من الدقيق والسكر وصفائح من السمن، مما يبيعه في دكانه، فعمدت إلى ماكان اختزنه، فأفرغت أكياس الدقيق في البئر التي في الدار، ثم أفرغت بعدها أكياس السكر، ثم صبت صفائح السمن جميعاً، ثم أخذت تخبط الدلو في البئر خبطاً، وفي الصباح كالعادة، طلب منها زوجها أن تهيئ له صحن مامونية، فأسرعت إلى البئر، وسحبت الدلو، فسألها زوجها عما تفعل، فطلبت منه أن ينتظر، ثم صبت الدلو في الصحن، وقدمته له، ونظر فيه، ثم سألها: "ماذا فعلت؟!"، فأجابته: "لقد مللت من طبخ المامونية كل يوم، فطبخت لك منها في البئر مالا ينفد، تأكل منه كل صباح"، وأسرع الزوج إلى غرفة المؤونة، لينظر إلى ماكان قد اختزنه من السمن والسكر والدقيق، فوجد الغرفة فارغة، فعرف ماصنعت، وما كان منها إلا أن صحبها معه إلى بيت أهلها، في المساء، وقعد إلى أمها وأبيها يحدثهما عما فعلت، فأنكرا عليه شكواه، ولا ماه، وحمدا لابنتهما ذكاءها، وأثنيا عليها، واتهماه بسوء الفهم، وقلة التدبير، وعاتباه، وعنّفاه، فغضب، وترك زوجته، وخرج.
أما الابنة الثانية، التي كان زوجها بائع صابون، فقد لاحظت أن فناء الدار مايزال ترابياً، غير مرصوف بالبلاط، وكانت تتعب في كنسه كل يوم، كما كانت تعاني من الغبار الذي تثيره الريح، ففكرت، وتأملت في أكياس الصابون المودعة في إحدى الغرف، ثم مالبثت أن اهتدت إلى حل ذكي، فعمدت إلى أكياس الصابون، وأخذت تفرغها جميعاً في فناء الدار، ثم أخذت تصف قطع الصابون في أرض الدار، وترص بعضها إلى جانب بعض، حتى فرشت أرض الدار، جميعها، ولكن السماء لم تلبث أن تلبدت بالغيوم، وزمجر الرعد، وهطل المطر، ولما كان المساء دخل الزوج، عائداً من عمله، وما إن وضع قدمه على أرض الدار حتى انزلق، ووقع على قفاه، وحاول النهوض، فانزلق ثانية ووقع، وتنبه إلى الأرض، فوجدها مفروشة بالصابون، فعجب للأمر، ونادى زوجته، فأسرعت إليه، ولكنها قبل أن تبلغه، وقعت هي الأخرى، ثم نهضت بصعوبة، ولمّا سألها عما فعلت أخبرته أنها بلّطت فناء الدار، فأدرك مافعلت، ثم ماكان منه إلا أن أخذها إلى بيت أهلها، ليشكو لوالديها فعلها، ولكن والديها دافعا عن ذكائها، وحسن تدبيرها، واتهماه بالإنكار وسوء النية، فترك زوجته وخرج، وقعدت الابنة الثانية، إلى جانب أختها، تعيد كل منهما على الأخرى قصتها، وتتبادلان المديح، وتذكران الأزواج، وسوء تقديرهم زوجاتهم.
أما الابنة الثالثة، وكان زوجها بائع حناء، فإنها لاحظت مع قدوم فصل الشتاء أن سقف بيتها ما إن تسقط بعض حبات المطر حتى يكف، فخرجت إلى السطح، فوجدت فيه بعض الشقوق، فتأملت فيه وفكرت، ثم اهتدت إلى حل، وماكان منها إلا أن عمدت إلى أكياس الحناء التي كان يختزنها زوجها في البيت، فحملتها إلى السطح، وأخذت تفرشه بها، وتندّيه وترصّه، وتسدّ به الشقوق، وهي تحسب أنها تطليه بالإسمنت، وتلوم زوجها في سرّها، وتتهمه بقلة الذكاء، ولما انتهت، نزلت من السطح، مزهوة بمافعلت، ولكن السماء لم تلبث أن تلبدت بالغيوم، وقصف الرعد، وهطل المطر غزيراً، وفي هذه الأثناء رجع زوجها إلى البيت، ولما دخل إلى الدار، رأى الحناء تسبح في الفناء، مع المطر المنساب، ولما سأل زوجته عما فعلت، أخبرته مزهوة، فأدرك مبلغ خسارته، وماكان منه إلا أن مضى بها إلى أهلها، وأخبر والديها وأختيها، بما فعلت، ففرح الجميع بذكائها، وأنكروا عليه سوء تقديره، ولاموه وعنفوه، فترك زوجته، وخرج.
وانضمت البنت الثالثة إلى أختيها، ومضت كل واحدة منهن تعيد على الأخرى حكايتها، آسفات على ذكائهن، وحسن تدبيرهن، ناعيات على الأزواج الذين لا يقدّرون ذكاء الزوجات.
تعليق:
حكاية اجتماعية طريفة، غالباً ماتروى على سبيل المزاح والتسلية، وهي ناجحة في فن السخرية وإثارة الضحك، ولكنها لا تخلومن دلالات اجتماعية.
ولعل أول ماتدل عليه هو جهل المرأة، وحرمانها من التعليم، وزواجها في وقت مبكر، مما يقودها إلى أفعال ومواقف ليست ناجمة عن غباء، كما يبدو الامر في الظاهر، وإنما هي ناجمة في الحقيقة عن قلة خبرة.
كما يلاحظ أن الأخوات الثلاث هن من أسرة فقيرة، وقد تم تزويجهن إلى ثلاثة رجال أغنياء، تاجر سمن، وتاجر صابون، وتاجر حناء، فكان هؤلاء الرجال قد اشتروا الزوجات الفقيرات بأموالهم، فعمدت الزوجات إلى تبديد أموال الأزواج المكدّسة انتقاماً.
ولا بد من أن يلاحظ أيضاً دافع الزوجات إلى مافعلن، ألا وهو شح نفس الأزواج، على الرغم من غناهم، فأحدهم يلح على طعام واحد لايكاد يغيره، والآخر لايطلي سطح بيته ماجعل الماء يكف منه، والثالث لا يفرش فناء داره بالبلاط مما يعرضه للتحول إلى طين.
وهذا كله يؤكد أن الزوجات لم يفعلن مافعلن عن غباء، إنما عن ردة فعل على شح نفس الأزواج وبخلهم.
كما تدلّ الحكاية على مجتمع لا تعمل فيه المرأة، وتعيش فيه عالة على زوجها، وهي لاتخرج من بيتها، ولا تتصل بالناس، ولذلك لا تحسن التصرف، وهي تعاني بعد ذلك كله من الطلاق، وتصبح بسببه قعيدة البيت، لاهمّ لها سوى الثرثرة، واجترار الحديث عن أسباب طلاقها، لملء فراغات كثيرة في النفس والوقت والمجتمع.
وعلى كل حال فإن تصرّف الزوجات لا يخلو من مبالغة، كما لا يخلومن بعض الجهل وعدم الدراية وسوء التدبير، وهذا مامنح الحكاية طرافتها، وقدرتها على تحقيق عنصر السخرية وإثارة الضحك.
وللحكاية روايات أخرى مختلفة، يبلغ في بعضها عدد الزوجات سبعاً، لكل منهن حكاية مختلفة.
(1) المأمونية : نوع من الطعام، يصلح للفطور، تشتهر به مدينة حلب، ويصنع من السمن والسكر والسميد الدقيق الخشن).