في بركة القصر، كانت ابنة الملك الوحيدة، تستحم كل يوم، ومرة افتقدت سوارها الذي تركته على طرف البركة، فلم تجده، ومرة أخرى فقدت منديلها، وثالثة فقدت مشطها، ثم انتبهت إلى أن طائراً أبيض يسرقها أشياءها، وهي تستحم، فعجبت منه.
وذات ليلة، وهي في مخدعها، فوجئت بالطائر الأبيض يحط في نافذتها، ولم يلبث أن نزع ريشه، وهبط إليها، فإذا هو فتى وسيم، حلو الحديث، سامرها طوال الليل، وباح لها بحبه، ونام معها، ثم غادرها في الصباح، قبل أن تستيقظ.
وبينما كانت المربية تصلح لها فراشها، كعادتها كل صباح، وجدت تحت وسادتها صرة نقود، فأخذتها، وكتمت الأمر.
وقد داخل حب الفتى قلب الفتاة، وهو مايفتأ يزورها كل مساء، ليغادرها في الصباح، وحبه في قلبها ينمو ويكبر، وهي لا تعرف من هو؟ ولا تستطيع أن تبوح لأحد بشيء.
كما ألفت المربية أن تجد كل صباح صرة نقود تحت وسادة الفتاة، فتأخذها في كتمان، ولا تخبر أحداً.
وجاء يوم لم تستطع فيه الفتاة أن تبقى على صمتها، فباحت لأمها بأمر الفتى، الطائر، فأوصتها أمها أن تطلب منه هدية، وإن هو جاء، تتعرف بها عليه.
وإذ سألته، أخبرها أنه يترك لها كل صباح صرة نقود، تحت الوسادة، فأدركت عندئذٍ أن المربية هي التي تسرقها الصرة، فأمرتها أن تترك إصلاح الفراش، فثار الغيظ في صدر المربية، وكانت قد عرفت أمر الطائر الذي يزورها كل مساء، فقررت أن تكيد لها.
وذات يوم نزلت الأم والبنت والمربية إلى الحمام، فاغتنمت المربية الفرصة، وادعت أنها نسيت شيئاً في البيت، واستأذنت في الرجوع إلى القصر، ثم عمدت إلى زجاج، فحطمته، وهشمته، ثم فرشت به أرض الغرفة التي يهبط فيها الطائر، ثم رجعت إلى الحمام، وأخذت تغري البنت والأم بالبقاء في الحمام حتى يدخل المساء.
ولقد كان لها ذلك، فقد دخل الليل، وأقبل الطائر كعادته، وهبط في النافذة، فجرّحه الزجاج المحطم تجريحاً، وما إن رجعت البنت إلى القصر، حتى أسرعت إلى غرفتها، ففوجئت بخيط دم يمتد من النافذة إلى أسفل الجدار، فأدركت فعلة المربية، وكتمت غيظها.
ومرت الأيام والطائر لا يزورها، وهي تنتظر في شوق، حتى برّح بها الحنين، وأمضّها الانتظار، فانزوت، وانطوت على نفسها، في كرب وضيق، فاعتلّت ومرّضت، وكادت تشرف على الهلاك.
وإذ أُعجز الاطباء شفاؤها، أخبروا الملك أن داء ابنته في فؤادها، لا في جسمها، وأن لاشفاء لها سوى التسلية والسلوان ولما سألها أبوها عن أمرها، باحت له بمكنونات صدرها، فأمر الملك ببناء حمام، تقعد فيها، لتستقبل الزائرات، وليكن أجر الاغتسال فيها حكاية غريبة، تسلّي بنت الملك.
وتناقل الناس خبر الحمام، فأقبلت النساء عليها من كل صوب، حتى وصل الخبر إلى القرى المجاورة، والأرياف، وكانت إحدى النسوة قد سمعت بالحمام، فأسرعت إلى جارتها تخبرها، وترتجي عندها قصة، فاتفقتا على أن تقصدا المدينة، في الصباح، للذهاب معاً إلى الحمام، ونامتا مبكرتين، وقد علقت إحداهما جرساً في بيتها، مربوطاً بحبل ويتمد إلى بيت جارتها، حتى تنبهها في الصباح الباكر.
وحدث أن مرّت أثناء الليل، قطة بالحبل، فاهتز، وقرع الجرس، فنهضت التي علقت الجرس في بيتها، ومضت في لهفة إلى خارج البيت، وإذا رأت القمر يتوسط السماء، حسبته الشمس، لغفلتها وظنت أن جارتها قد غدرت بها، فسبقتها، وماكان منها إلا أن انطلقت في الفلاة، متجهة نحو المدينة، ولكنها مالبثت أن أدركت خطأها، فلما أرادت العودة إلى قريتها، ضلت الطريق، فخافت الليل والوحش والصمت، فقررت أن تصعد إلى شجرة، لترقد فيها.
وعلى غصن مريح، نالها شيء من النعاس، ولكنها انتبهت إلى أن الأرض قد شقت، وخرج منها خلق غريب، وإذا جوقة من المغنيين تقعد في شكل حلقة، يتوسطها سرير رقد فيه فتى ملفوف الجسم بالضمادات، يبدو عليه الكرب والضيق، وبين يديه سوار ومنديل ومشط، ولم تلبث الجوقة، أن غنت غناءً حزيناً، بكى له الفتى الشاب، وهو يقول:
ثم أمر الجوقة، أن تنصرف، فانصرفت، ثم غاب، وقد أخذت الشمس في السطوع،
ونزلت المرأة من مرقدها على الشجرة، وقد ملأ النور الكون، فدهشت لعجب مارأت، وانطلقت إلى المدينة، تمني نفسها بالحمام، ففي جعبتها قصة ستعجب من غير شك ابنة الملك.
ولقد وقعت القصة من بنت الملك موقع الدواء من الداء، فهي قصتها، ولم تلبث أن انطلقت مع المرأة، إلى حيث رأت مارأت، وصعدتا معاً الشجرة، وباتتا تنتظران الليل، وظهور الفتى وطال بهما الانتظار، ولكن ما إن توسط القمر السماء، حتى حدث ماحدث بالأمس، ومع الصباح اختفى كل شيء، ورجعت المرأة إلى قريتها، فرحة بما أجزلت لها بنت الملك من عطاء، على حين مضت بنت الملك حزينة مكتئبة، لا تعرف كيف يكون لها الوصول إلى فتاها، وما الدواء الذي يمكن أن يشفيه.
وبينما هي في بعض الطريق، سمعت حمامتين تتناجيان، فتقول إحداهما للأخرى: "كم أنا حزينة لجراح الفتى؟"، وتجيبها أليفتها، "قد يزداد حزنك إذا علمت أن شفاءه بنا"، وتسألها صديقتها: "ولكن كيف؟"، فتجيبها: "إن شفاءه في لحمنا ودمنا، وذلك بأن تأخذنا بنت الملك، فتذبحنا، وتعتصر دمنا، ثم تحرق ريشنا ولحمنا، وتعجن الرماد بدمنا، وتصنع منه مرهماً، تمسح به جراح الفتى، فيشفى"، وتجيبها صديقتها: "إني لأفرح إذ شفاؤه فينا، هيا، فلنمكّن بنت الملك من أنفسنا".
وكانت بنت الملك قد أصغت إلى تحاورهما، ففعلت بما سمعت، ومضت فتنكرت في زيّ طبيب، وأخذت تدور في الممالك والبلاد، تنادي على دواء لكل العلل والأمراض، ومافتئت تحملها بلاد، وتضعها بلاد، حتى بلغت بلد الفتى، وكان مرورها بقصره، فناداها أهله، وهي الطبيب، فصعدت، فرأت الشاب، فعرفته، وهو لايعرفها.
وأمرت في الحال أن ينقل الفتى إلى الحمام، وهناك غسلت له جروحه، وهي متنكرة، ودهنتها بما صنعت من دم الحمامتين ورمادهما، وأقامت عنده تسهر على علاجه، حتى شفي، وزال عنه السقام.
ولما سألها الفتى ماتطلب من جزاء، رفضت أن تأخذ أجراً، ولكنها رجته، وهي ماتزال متنكرة، أن يمنحها منديله، هدية، وكان هو نفس المنديل الذي سرقها إياه، وهي تستحم في بركة القصر، فتردد الفتى، في البدء، ولكنه لم يلبث أن قدّمه إليها، فشكرته، ورجعت قافلة إلى بلدها.
وفور وصولها، عمدت إلى نافذة مخدعها، فأصلحتها، وكنستها، وفرشتها، بالدمقس، ومضت تنتظر زيارة الفتى.
ومامرّ إلا يوم أو يومان، وإذا الطائر يهبط في النافذة، مع المساء، كعادته من قبل، وكانت الفتاة ترقد في سريرها، وقد ارتدت لمقدمه أجمل ماعندها من الثياب،
وتزينت بأغلى الحلى والأساور، وحملت المنديل في يدها، وما إن هبط من النافذة، حتى امتشق حساماً مصلتاً، يريد قتلها، لإيقاعها به من قبل، كما اعتقد.
ولكنها رفعت يدها تريه المنديل، فعرفها، ودهش لأمرها، فقصت عليه ماكان، وعرفته بأبيها الملك، وتمت خطبتها إليه، ولم تلبث أن زفت في أروع احتفال وعاشا معاً في سعادة وهناءة.
تعليق:
جميل جداً أن يتجلى المحب على حبيبته في هيئة طائر، رمز الحرية، وطالما حلم الإنسان بالتحليق، بمافي التحليق من علو يؤكد النزعة الغريزية، ولكن في تساميها الجليل، وقديماً تحدثت الأساطير عن تجلي رب الأرباب زيوس، على إحدى نساء الأرض في شكل طائر البجع، وطالما حلم الإنسان بالطيور، رمز التواصل واللقاء.
ومن الجميل أيضاً أن يتعامل ذلك المحب الطائر مع أشياء المرأة الخاصة من سوار ومشط ومنديل، في مداعبة ناعمة بريئة.
ولكن لابد بعد ذلك من أن يحاط ذلك كله بقدر غير قليل من التنغيص والعذاب، تأكيداً لما في الحياة من منغّصات، ولكن العبرة بالخواتيم، التي هي دائماً سعيدة.
ويلاحظ الفارق بين الأميرة وخادمتها، وماهو الفارق الطبقي، إنما هو على مستوى آخر، إذ تتعلق الأولى بالحب والطائر والسمو، وتكابد العذاب حيث يكون مطهر الروح على حين تتعلق الثانية بالمال، وتصطنع الدسائس والمكر، وتجعل الآخرين يتعذبون، دليلاً على طوية غير نقية.
ومن هذا التناقض تكون الحياة في صراعها الدائم، وتحركها الأزلي الأبدي.
والحكاية في مجملها حلم جميل، أو فانتازيا رائعة، وليس وراءها أكثر من السمو والتحليق والعيش في عالم الأحلام والعواطف والعذابات الحلوة التي تصفو معها الروح وتصل إلى السعادة المطلقة.
ما أحوج الإنسان إلى تأمل هذا العالم، من خلال الكلمة، أو الصورة، أو الأغنية، أو الموسيقا، ففيها إشباع حقيقي لقوة لا غنى عنها، وهي الخيال الحرّ كالطائر الحرّ الذي لم يقتبس اسمه إلا من حريته المبدعة