-هذا الولد بكفة وأخوته الستة بكفة أخرى.
وعندما يمضي يوم ولا يأتي على ذكر ولده كان أحد الزملاء يستفسر بصورة عفوية:
-ماأخبار، الولد هذا اليوم.. يا عصام أفندي.
في الحارة كانت والدته أم سلام تقطع حديثها الحميم مع جاراتها، وهي تشير إليه عندما يدخل المكان وتقول:
-كل مشاكلنا من هذا الولد.
بالمقابل، كان عصام أفندي وزوجته أم سلام يصران في كل مناسبة أن هذا الولد يملك من الذكاء ما يعادل ذكاء أخوته مجتمعين، وقد كان متفوقاً في صفه لا يحتاج إلى من يعلمه في البيت أو يُسَمِّع له.
لكن أين المشكلة في قصة هذا الولد فهو، لا يعتدي على الأطفال الآخرين، ولا يكسر زجاج نوافذ البيوت البعيدة أو يعذب الحيوانات الأليفة كما أنه لا يشاغب في المدرسة أو يقلق راحة الجيران. وكان هادئاً في البيت يحب أن يظل صامتاً واضعاً نفسه في زاوية قصيّة مع كتاب مدرسي أو مجلة مصورة.
المشكلة أن سامر -وهذا هو اسمه- كان يتصرف مع أهله -وهوابن عشر سنوات- مثل الكبار لذلك فقد كان يضع الأسرة مرة بعد أخرى أمام أزمة حقيقية يبتكرها خياله النشيط.
كان يشارك في أحاديث الكبار، مما كان يسبب الإحراج لأهله أمام الضيوف، وقد أحب ذات مرة معلمة غريبة عن البلدة كانت تتردد عليهم وذلك عندما لاطفته كعادة الكبار مع الصغار، وقالت له ضاحكة عندما شاهدته يدور حولها:
-لقد قررت.. أن أتخذك خطيباً لي.
فصار يزورها في المدرسة ويضايقها في الشارع عندما يسألها أين كانت وإلى أين هي ذاهبة.
أما الأمر الذي كان يسبب الصداع لرأس والده فهو مناقشته الدائمة لحقوقه في الأسرة فقد كان يطالب بالمصروف مثلما ينال أخوته الكبار، ويناقش فيما يبتاعون له من لباس وحاجات أخرى بالمقارنة مع ما يفوز به بقية الأخوة، ثم زاد في الأمر فصار يطالب بشراء أي شيء شاهده في السوق ونال إعجابه.
وكان أن قام بما أثار حنق والده إلى أقصى حدود الحنق وجعله يفكر بمنتهى الجد في أن يضع حداً لتصرفات هذا الولد، فقد كان عصام أفندي وبحكم كونه موظفاً يستدين حاجات الأسرة خلال الشهر، فكان لهم سمان خاص بهم وكذلك بائع قماش وألبسة جاهزة، بائع الألبسة هذا كان يعرف أفراد الأسرة جيداً، فأم سلام كانت تصحب أولادها معها لتقيس عليهم اللباس وعند انصراف سامر من المدرسة وكعادته.. جعل طريق عودته إلى البيت يمر من السوق، فقد كانت الفرجة على المعروضات، تشكل إحدى هواياته، وعند توقفه أمام واجهة بائع الألبسة لفتت بصره بشدة بدلة بيضاء زاهية من قطعتين بنطال قصير مربوط بازرار كبيرة حمراء مع قميص زينت صدره فراشات حمراء أيضاً. دخل المحل وطلب من البائع الذي عرفه فوراً أن يريه البدلة عن كثب الصقها بجسمه فكانت على مقاسه مرر يده عليها فأعجبه ملمسها الناعم ورائحة قماشها الجديد فقال للبائع وبلهجة الكبار:
-سآخذها معي إلى البيت إذا وافق والدي على الشراء أخبرك غداً أو أعيدها إليك..
صارحه البائع:
-هذه البدلة مرغوبة وهي آخر قطعة من هذا الطراز إذا لم تعدها غداً صباحاً سوف أسجلها على حساب الوالد وأنت تتحمل مسؤولية ذلك.
وافقه على هذا الحل وحمل البدلة وهو يكاد يطير بها.
في البيت وعندما أعلم والدته بتصرفه هذا زمت شفتيها بعد أن همت بالصراخ لكنها آثرت عدم الدخول في جدل عقيم مع هذا الولد اللجوج واكتفت بالقول:
-عندما يأتي أبوك سوف يتصرف معك ولا أستبعد أن تنال منه ضرباً مبرحاً فقد قرر البارحة أن نتوقف عن استدانة أي شيء فقد حدث خلل كبير بين الراتب ومقدار الديون.
وكما توقعت أم سلام فإن عصام أفندي لم يتمالك نفسه أمام هذا التصرف الجديد لهذا الولد فقد ضربه بقسوة أكثر من أية مرة سابقة وان ركبه الندم بعد ساعة إلاأنه لم يظهر ذلك فقد كان يريد أن يضع حداً له وبصوت زاعق وهو يرفع يده مهدداً طلب من الولد أن يعيد البدلة إلى البائع في الصباح.. في طريقه إلى المدرسة.
وهو يتلمس، مكان صفعات أبيه على خديّه، المحمرة. اكتشف أن قرار ابيه، لا رجعة فيه. فكان أن استسلم. وراح ينظر إلى البدلة. كمن يودع حبيبةً. سوف تزف إلى عريس آخر.
وحرد في إحدى زوايا غرفة الجلوس وأمامه البدلة موضوعة على أحد المقاعد. ولم يتفقده أحد ما. فقد تضامن الجميع على إدانة تصرفه الأخير.
عندما حل المساء انسل إلى المطبخ وكان جائعاً. فأكل ما وجد في طريقه. وغادر إلى (الحوش) فلم يجد أم سلام والبنات. وعلم أنها تزور أسرة منيف أفندي. تحرك في داخله، إغراء كبير. حرضه على اللحاق بها. فأولاد منيف أفندي هم رفاقه، في المدرسة. وكانت حديقة بيتهم كبيرة.. وبها مراتع كثيرة للعب. غسل وجهه، وسرّح شعره، ولبس حذاءه، ويمم شطر باب الدار. لكنه توقف، أمام غرفة الضيوف. فكر.. ماذا لو لبس، البذلة، في مشواره، هذا. نفض الفكرة، من رأسه بشدة. لكنه، عندما صار في الشارع توقف ثانية. وفكر.. يلبسها، في هذه الزيارة. وسيحاذر عدم الحاق، أي وسخ بها. وباستطاعته ذلك. من المعروف، عنه. أن ثيابه تظل نظيفة أياماً. قبل أن تتسخ. وزيادة في الحيطة. لن يلعب هذا المساء.
أعجبته الفكرة. فقام ينفذها. فاجأ دخوله، أم سلام. حتى أن فنجان القهوة كاد أن يندلق على ثيابها. رمقته بغضب مكتوم. لكنه تجاهل ذلك. وهو يسلم، ويقف أمام أحد الكراسي. دون أن يجلس عليه، خوفاً من أن تتكسر طيات البدلة. وعندما اندفع إليه أترابه. تراجع إلى الخلف، وهو يمد يديه إلى الأمام. كان يريد أن يجعل، بينه وبين الناس والأشياء، مسافة أمان. حتى لا تتسخ البدلة.
خرج مع الأولاد، إلى الحديقة. عند المدخل توقف، مستنداً إلى إحدى الشجيرات. دعوه إلى اللعب. لكنه رفض، بشدة.. إلى درجة الرعب. تعجبوا من موقفه، الغريب، هذا. فتركوه. وهم يهزون أكتافهم. وأخذوا يجرون، في فضاء الحديقة. وهو يتفرج عليهم. بعد فترة جاء الأولاد، بالكرة. وراحوا يتقاذفونها بأرجلهم، فيما بينهم. صاحوا به:
-يلزمنا مهاجم..
تذكر، إنه المهاجم الوحيد، في فريق الحارة. لكنه حرك يديه، بشدة رافضاً عندما هم أحدهم بقذف الكرة، في اتجاهه.. وعندما يئسوا، منه. اندمجوا في لعبهم. بحيث نسوه، بعد فترة.
كان يراقب لعبهم، العقيم، بعصبية. فقد فشل أي منهم، في خرق الدفاع. والسير بالكرة، إلى المرمى.
تحرك خطوة، إلى الأمام. فتذكر البدلة، التي يرتديها فتراجع خطوتين، إلى الخلف. ودخل في صراع. مع إرادته. بين تحرقه، إلى اللعب. وبين المحافظة على نظافة البدلة اللعينة، التي ستعاد غداً صباحاً، إلى بائعها، نظيفة، من دون سوء.
لكنه وجد نفسه، فجأة.. وقد نسي، تهديدات ابيه. ونسي قراره.. في أن تبقى البدلة نظيفة.. حتى الغد. فهجم على الكرة، وهو يصيح:
-ليحدث، ما يحدث.