بتـــــاريخ : 11/19/2008 8:34:39 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1451 0


    الطابور

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : مصطفى فاسي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الطابور مصطفى فاسي

    الشركة الوطنية لتجارة السيارات (سوناكوم) القاعة واسعة، قاعة البيع، محسب رخامي طويل يمتد على طول القاعة في الجانب المقابل للمدخل ويفصل بين عمال البيع الذين لا يكفون عن الحركة في المساحة الواسعة التي أُتيحت لهم، والدخول والخروج من باب يؤدي إلى مقر التخزين الرئيسي، وجمهور المشترين الذين يؤلفون صفاً طويلاً متجمداً يمتد نصفه على طول المحسب، بينما يدورالنصف الباقي ليمتد بجانب جدار الصالة ويصل إلى الباب الرئيسي للقاعة الواسعة والمؤدي إلى الشارع. بعض المصطفين يحملون الجرائد اليومية ليلهوا أنفسهم بأخبارها، التي شاهدوها وسمعوها مساء الأمس وصباح اليوم في الإذاعة والتلفزة، بعضهم يتابعون الأخبار الرياضية بينما بعضهم الآخر يشتم البيروقراطية والبيروقراطيين، وهم جميعاً يراقبون باهتمام شديد ساعاتهم ورأس الطابور حذرا من تسرب بعض (القافزين) من حين لآخر دون التمتع مثل الآخرين بالقسط الضروري من الانتظار في الطابور، مع العلم بأن قلة فقط هم الذين كان العامل المختص الجالس بجانب آله الكومبيوتر يلمح إليهم بالإيجاب بعد مساءلة آلته مما يبعث الأمل في نفوسهم فيعودون بقطعة أو قطعتين من بين العشر أو العشرين قطعة من قطع السيارة التي طلبوها منه، بينما يخلف معظم الواقفين الصف وفي نفوسهم حسرة، وهم يلعنون السيارة ومخترعيها، واليوم الذي خرجت فيه إلى حيز الوجود مفضلين عليها الحمير والبغال والإبل والمشي على الأقدام...‏

    كانت الساعة حوالي العاشرة والنصف، وكان العمل قد توقف منذ حوالي نصف ساعة، وكانت قد كثرت الهمسات والأحاديث والإشارات، وحركات الدخول والخروج... الصف مازال مثلما كان، بل ربما ازداد طوله، بينما ازدادت كثافة الدخان في أرجاء القاعة...‏

    في هذا الجو بالذات دخل... كان يميل قليلاً إلى القصر.. وإلى النحافة، أصلع قليلاً، يميزه شاربان متميزان برقتهما وطولهما قليلاً، دخل من الباب واتجه مباشرة إلى عامل الكومبيوتر، كان وهو مايزال بعيداً عنه بأكثر من خمسة أمتار يرفع يديه منفرجتين وهو يتحدث في ابتسامة عريضة، وملامح الاستبشار بادية على وجهه مما جعله يبدو غريباً كل الغرابة عن جو القاعة:‏

    - أهلاً خويا عليلو، واش راك؟! لابأس؟! ياإلهي... خويا عليلو العزيز.. ياخي عليلو ياخي...‏

    كان يتكلم وهو يقبله قبلات حارة على الخدين، كان عليلو يبدو مندهشاً قليلاً ومستغرباً، كأنما وجد نفسه مورطاً في أمر لم يكن يتوقعه، ولم يتمكن إلا بعد توقف القبلات وتركيز النظر من تذكر اسم صاحبه:‏

    - آه... السعيد...، ياخي مارانيش غالط، زرتنا براكة، ياسيدي كيف حالك؟!‏

    - كيف حالي.. الحمد لله.. كيف حالكم أنتم... ياخي زمان ياخي... لا واحد منكم يجي يزورنا... لا واحد يطل.... هذي الصحبة والا خليني... لو كان غير بعيد واش عليه.. ياخي خطوتين فقط من هنا، أنا هنا، هنا فقط بجنبكم في الحي المجاور لكن يظهر أنكم تنسون بسرعة، دعنا من اللوم ياسيدي... قل لي كيف هم الجماعة؟! كيف أحوالهم؟! كيف...‏

    ودون أن يتفوه عليلو بكلمة واحدة، وقبل أن ينهي محاولة ابتسامة يغلب عليها لون الصفرة ببينما القلق يبدو واضحاً من عينيه كان الآخر قد واصل دون انتظار الجواب:‏

    - حميدو.. كيف هو حميدو العفريت؟! آه.. لو أراه، سأجذب إذنه اليمنى الطويلة بيدي هذه مثلما كنت أفعل دائماً، آه.... حميدو... لكن قل لي أما زال مثلما كان ينام وقت العمل ولا يصحو إلا ساعة الخروج...‏

    ودحمان... آه... دحمان الأصلع، كم كنت أسخر من صلعته التي تذكرني عندما أمسد عليها وأصفعها بزجاج السيارة الأمامي "الباربريز"، لابد أن صلعته تكون قد ازدادات توسعاً على حساب بقية رأسه... ربما لم يعد في رأسه شعرة واحدة وخاصة أنه -كما قيل لي- قد ترقى في منصبه وصار رئيس مصلحة، هنيئاً له على كل حال، والله يستحق كل خير.. ولكن قل لي، أهو هنا؟! آه لو آراه... آه... دحيمن ياسي دحيمن..‏

    إيه... وزد.. نسيت، الله يلعن الشيطان.... الجيلالي، والصادق، ورابح، وغيرهم.... قل لي... قل لي عليلو، كيف هم؟! كيف أحوالهم؟! هل هم بخير؟! هل هم في صحة جيدة؟! هل مازالوا هنا يبيعون قطع الغيار؟! ألم يملوا بعد؟!‏

    - مازالوا.... مازالوا جميعاً، وأنت؟!...‏

    - أنا... أنا الحمد لله الذي فرج علي وأراحني من أتعاب هذه الشركة.. الحمد لله... خرجت من هنا ودبرت أمري... فتحت محلاً للبيع... بيع قطع الغيار، أنت تعرف.. الواحد يصعب عليه أن يغير مهنته، مهنته التي يعرفها جيداً، هو ليس محلاً كبيراً، ولكن الحمد لله هو كاف تماماً، ثم هو يقع في موقع ممتاز كما قلت لك قريب من هنا.. والأمور تسير بالنسبة إلي بشكل ممتاز.. الحمد لله، الحمد لله:‏

    عيب عليكم، يجب أن تزوروني أنت وكل الأصدقاء، تعالوا على الأقل لكي نسترجع الذكريات الجميلة مع كأس شاي أو قهوة، إلا إذا كنتم نسيتموني.. أنا من ناحيتي لم أنسكم ولن أنساكم أبداً، كيف يمكن للواحد أن ينسى تلك العشرة الطيبة، أكلنا مع بعضنا العيش والملح ثم ننسى؟! هذا محال.. محال...‏

    الجو مايزال مثلما كان.. الداخلون والخارجون والشاتمون، والمدخنون الخ...‏

    وعليلو يقف بجانب الكومبيوتر وقد ابتعد عنه قليلاً يبدو وصاحبه يكلمه بأنه -وهذا حسب نظرته الغائبة- منشغل بأمور لا يعلمها إلا الله.‏

    - تعرف عليلو؟! لقد كدت أنسى تشغيل الكومبيوتر، الإنسان ينسى، سبحان الله.. حتى أنت لم أتعرف عليك إلا بصعوبة، وفقط بعد أن اقتربت منك كثيراً، إلا أنت فإنني لا يمكن أن أنساكَ، ولكن ربما لم أتعرف عليك بسرعة بسبب كثرة الدخان، الإنسان نساي كما يقولون، ومع ذلك فأنا لا أنسى الأصدقاء، أما هذه الآلة.. الآلة العجيبة فلا أدري إذا كنت ماأزال أعرف طريقة تشغيلها، هي تختلف عن تلك التي كنت من قبل أشتغل عليها، فالآلات تتجدد كل يوم، آه... تلك الآلة كنت ألعب بها لعباً عشر سنوات في مصاحبتها، ألا تكفي لكي أعرفها، ويبدو، يبدو أن هذه بدورها لا تختلف كثيراً عن الأخرى، ثم أن مفاتيح التشغيل واحدة لا تكاد تتغير.. لابد أنها ليست صعبة التشغيل...‏

    مازالت نظرة عليلو تائهة في اللانهاية، ومازال صاحبه يتحدث ويقترب من الآلة:‏

    - عليلو..... يمكنني أن أجربها.... يا أخي، لقد اشتاقت أصابعي إلى لمس مفاتيح هذه الآلة... وأنا في الوقت نفسه أريد أن أعرف ما إذا كانت توجد لديكم بعض قطع الغيار، نعم نعم، أريد فقط أن أعرف، وسأتصل فيما بعد بالسي دحمان لكي يحول لي مجموعة منها، يا أخي الواحد صار يفتح محله من الصباح إلى المساء دون أن يبيع شيئاً، وماذا يبيع، ماذا نبيع مادمنا لا نشتري، ماذا نبيع، والله أفكر أحياناً أن أبيع المحل نهائياً وأبحث عن شغل آخر آه يا صديقي...‏

    كانت أصابعه قد امتدت إلى مفاتيح الآلة وبدأت تمسها مساً رقيقاً عندما أمسكه عليلو من كتفه بقوة ودفعه دفعة قوية في اتجاه باب الخروج وهو يصيح وراءه:‏

    - اخرج.. اخرج من هنا، أبتعد عني، دعني أشتغل، اخرج.. يالطيف.. يالطيف، كان عليلو يدفعه نحو الباب، وكانت أنظار الجموع تأكله من الخلف.‏

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الطابور مصطفى فاسي

    تعليقات الزوار ()