تمكنت من ترديد الجملة كاملة بعد أسابيع من المران المستمر، خلال اليقظة وفي أحلامها. كانت أكثر قدرة على لفظ هذه الكلمات في كوابيسها اليومية، إلا أنها لم تستطع أن تسمعها بصوتها. جربت أن تسجل ذلك صوتياً. أحضرت "المسجلة" وبقوة ضغطت على زر التسجيل. مرت دقائق بدت لها زمناً طويلاً قبل أن تردد الحروف.. الحروف التي طالما عرفتها في أفكارها.
انتظرت أن يسعفها ألمها، ولكن لاشيء. أغمضت عينيها بقوة وشدت على كل عضلة في جسدها. شعرت بحرارة الدم في عروقها. تحسست قطرات العرق على جبينها. تركت كرسيها واتجهت نحو النافذة. توقفت قليلاً وكأنها تستنجد بالعالم خارج النافذة. فتحت النافذة وغمغمت "من تراه يساعدني؟" عادت إلى كرسيها وصرخت بالكلمات دفعة واحدة وبسرعة. مرت دقائق قبل أن تضغط على زر الإرجاع. سمعت حشرجة غير مفهومة. ثم حل الصمت. ضغطت على زر الإرجاع مرة أخرى. حاولت أن تتعرف على صوتها. استغربت عدم وضوح الكلمات. أثار امتعاضها قبح الصوت وعدم ارتباطه بها. انتابها إحساس أكيد بأن الصوت لم يكن صوتها. تأكدت من ذلك وهي تستعيد العبارات مرات عديدة.
لا الصوت صوتها ولا الذات هي ذاتها. أرعبتها هذه النتيجة التي حاولت عدم مواجهتها منذ زمن بعيد لم تعد تتذكره. كانت تتهرب من ذاتها أو مما تبقى منها وتؤجل التوقف عند إطلالها. شعرت بالألم يعتصرها وكأنه مدية تخترق أعصابها بهدوء ومهارة.
"لِمَ لمْ أنقذ روحي؟ يا إلهي لم تخليت عني!" سمعت نفسها وهي تمضغ الندم بتنويعات تباينت في شدتها وصدقها. كان بعضها بصوتها الذي ظنت يوماً أنها تعرفه وأخرى بأصوات أنكرت أنها تمت إليها بصلة، إلاّ أن هذا الانكار لم يخفف من احتقارها لذاتها بل عززه. شعرت بالإعياء وبأنها ضعيفة جداً. استلقت على سريرها. حدقت إلى نقطة بسقف الغرفة. جربت أن تتحرر من أفكارها بالتركيز على تلك النقطة: التحرر من ماضيها وثقل الحاضر. أتقنت هذا في الماضي. كان بإمكانها الوصول إلى ما أسمته يوماً "الصمت الأزرق" كلما أرادت ذلك. وكانت تشعر في لحظات الصمت الأزرق بأنها أخف وزناً وأن روحها تفيض بها... تخرج من جسدها وتحمله إلى مديات غير مرئية. في تلك اللحظات تشعر بأنها لا تسير بل أن خطواتها تمتزج كلياً بالهواء..
مثل الفراشة.
كانت سعيدة.
***
طوال أيام الحرب، كانا يتبادلان الأدوار لتقديم لوحة السعادة. فبينما تنهار هي تحت وطأة الحقيقة: حقيقة الموت المجاني. الموت بعبث. وحقيقة الدمار وتظاهرها الأحمق بالحياة، كان يقوم بدور المفسر للأحداث والوقائع على نحو معاكس تبدو معه كل الأشياء ممكنة وذات معنى، وبلمسة الحب السحرية -كما يسميها- يستأجر لروحها السعادة.
وما أن تمضي أيام حتى تلوح لها بوادر انهياره، فتسعى لجرعات الحب لكي تستعيد روحه المتمردة شيئاً من سكينتها. وبينما كانا يختنقان برائحة الدم، أجهدا نفسيهما في تحسس الأشياء بما ينسجم وتعلقهما بالحياة والهرب من مواجهة الدمار المحيط بهما: انشغلا كلياً بالهرب ولم يتصورا أن الخراب ينتشر كالغبار ويعلق بكل شيء حتى بروحيهما. منصهران معاً، كانا يشيدان سعادتهما فوق أرض من الجثث.
منذ متى افتقدت سكينة الروح؟ لا تتذكر جيداً، لكنها بدأت تعي ذلك عندما أصبحت الكلمات بينهما جثة تنخرها الذكريات الموجعة عن أيام أوهما فيها روحيهما بالسعادة.
لم يأت ذلك اليوم مبكراً، إذ أن انتفاضات الروح بينهما بدت تتباعد وتتقلص ولم يعودا بحاجة للعب الدور إذا ماباغتت أحدهما نوبة. فالانسجام مع الحياة (حياة تتداعى) كان أقوى من نوبات التذكر.
كانت أسرع منه في ذلك. وتمكنت من ترويض روحها على وضع قناع السعادة بشكل بدا لها مقنعاً وبأنه سيستمر. لم يكن هناك وقت للتأمل. إلى كرة ثلج تحولت حياتها. لا توقف ولا عودة. وقناع السعادة أصبح جزء من مسامات روحها الجديدة: الروح التي رسمتها لتحافظ عليه وعليها. لتقمع ذاكرتها في النهار وتطردها ليلاً بوصفات طيبة.
كانت تتقن دور السعادة.
***
النسيان أكثر إغراء ورسم صورة تنال إعجاب الآخرين ورضاهم تنهك الروح والجسد. لا مكان للألم وأشباح الموتى وصرخات استغاثة الضحايا وصافرات الإنذار وهي تباغتها في أثناء النوم تطرد بأقراص المهدئات.
غير أن تلك الصورة لم تكن خلاصها الدائم حتى بعد مضي أعوام على انتهاء الحرب. بدأت تتفاجأ وهي تهجس الخوف الكامن داخلها. فعندما تندس في فراشها تبدأ الذكريات بترميم ماتصدع منها وترفض الانصياع لقناع السعادة كجنين مكتمل النمو يرفض فراق الرحم.
قربه منها.. التصاقها به، كان يؤجل استسلامها للذكريات، غير أنها في لحظات خاطفة وهي بين ذارعيه تنبثق صورة ذاك اليوم الذي اندفعت فيه إلى النهاية، هرباً من أصوات الأطفال المختنقين المحاصرين بالموت في ملجأ العامرية وبكاء الأمهات وجزعهن.. عويل سيارات الإسعاف والإطفاء المتأخرة.. الصرخات.. أصوات قرع المحاصرين على الأبواب.. قرعهم وهو يخبو (يأساً).. الاستغاثات وهي تستسلم لصمت الموت.
وهي بين ذراعيه كانت تعرف أن الروح مثل النهر لا تعود أبداً، وأنها لاتستطيع إلا أن تتخيل طفلاً يحتضر بينما كانت هي تنعم بمداعبة شفتيه... عويل النسوة ووشوشات حبها بأذنه ونعومة كفه على عنقها والنيران تبتلع أجساد الرضع محولةً إياها إلى فحم.. ومثلما فقدت أقراص المنوم والمهدئات قدرتها على طرد الذكريات، أصبح يفجعها افتقاد السلام الروحي بعد احتدام جسديهما، وتمسكهما بقناع السعادة حتى وهما معاً.
استمرا برغم الكوابيس والذكريات. شبابهما منعهما من التوقف وتأمل ماحدث والحق أنهما كانا
يخشيان تلك اللحظات.
حصل ذلك في ظهيرة جميلة.. كانا يسيران معاً عندما سقطت أنظارهما على شجرة مشمش في أيام تبرعمها الأولى.
توقفت برهة ثم عاودت السير فجأة وكأنها تخشى شيئاً.
التفتت إليه. فوجدته يتأمل الشجرة. وبتردد مدّ يده إلى غصن من أغصانها. سقطت على كفه قطرة مطر كبيرة كانت ماتزال عالقة بأحد الأغصان. تنبه إلى ابتعادها فغذ خطواته باتجاهها، سارا من دون أن يتبادلا كلمة.
غمرتها موجة من الذكريات وهي ترى الشجرة: شجرة المشمش التي طالما رأتها مغطاة بندف الثلج. أحياناً كانت ترى أوراق زهورها البيض الرقيقة كأجنحة فراشات ضالة وعندما تطير الفراشات وتحل محلها الثمار ينتابها الحزن فتقول له:
-انظر لقد ذاب ثلج الربيع وحل الصيف.
فيواسيها مشاركاً إياها تعلقها الجنوني بالشتاء وبحثها عن بياض ضمير ويد في ثلجه.
-يشبهك كثيراً هذا الثلج، له تعلقك بالشتاء وولعك باعتدال الربيع. فراشاته البيض تظهر أواخر الشتاء لتذكر الربيع المندفع اللاهي بجمال فصل حزين.. لا تبتئسي، بعد الشتاء الذي تحبين ستعود الفراشات إلى أماكنها.
أترانا أدمنا مثلها لعبة الفصول؟
وهما يسيران معاً كانت تعرف أنه لابد أن تكون قد مرت بذهنه صورتها وهي تجلس على ركبتيه يسرح لها شعرها ويضع عليه إكليلاً من ندف الثلج والفراشات الضالة.
حينها كان موسم الأمطار قد تأخر، والسماء منخفضة، سوداء، ملطخة بالدخان. وفي اليوم الذي هطلت فيه الأمطار تسلق جدار منزل هجره أهله لينتزع لها غصن مشمش.
في ذلك اليوم احتفلا مع شجرة المشمش بينما كانت مجموعة صغيرة من الجنود محاصر بالموت. لم يكن أحد منهم يعرف بانتهاء الحرب. مرت من فوقهم طائرة معادية مختالة بمنظر الخراب الذي خلفته طوال الأيام الماضية. وكانت تحلق منخفضة وباطمئنان شديد، فاندفعوا لإسقاطها بأسلحتهم الخفيفة فعاد الطيار ليرش عليهم موته واحداً بعد الآخر. هكذا بتأن وبرود وربما بمتعة شيطانية.
عندما وصلا البيت، حاولا أن ينشغلا عن مواجهة أحدهما الآخر بالقيام بأعمال ليست ضرورية. ذهب ليسقي الحديقة برغم أمطار اليوم السابق بينما اتجهت إلى خزانة الملابس جامعة ملابسهما لكيها.
بعد أكثر من ساعة عاد إلى داخل المنزل فوجدها تقف أمام المرآة تنظر إلى وجهها بحزن. كانت تحاول أن تعود إلى الوراء لكي تخمن كم مرة أزهرت أشجار المشمش منذ ذلك العام.
كان الإنفعال الذي يحركها مؤلماً ويكاد يمزقها.
شعرت بقربه منها. حاولت أن تحافظ على ثبات وجهها وأن لاتلتفت إليه، مخبئة التماع دمعها. لم تكن تبكي، لكن عينيها كانت نديتين براقتين. أتعبها تصلب عنقها.
انهمرت الدموع فبادر لمسح وجنتيها. فاندفعت إلى صدره باكية بنشيج.
دفنت رأسها في صدره فاحتضنها بقوة مؤلمة. لكن ذلك لم يوقف الهوة التي بدأت تراها تتسع بينهما على شكل بقعة دم تبتلع الأطفال والنساء.. النخيل والطيور.. وتجرف كل شيء حتى الأحلام. فجوة تركتها الحروب ومضت من دون أن يعنى أحد بإزالة آثارها فتحولت إلى جرح حاولا علاجه بالنسيان والاستمتاع بجسديهما فلم يفلحا إلا بنبشه حتى تقيح. ظلت تبكي على صدره حتى هدأت ثم أفلتت من حضنه وتقوقعت على نفسها على أرضية أحد أركان الغرفة. اقترب منها. لم تقاومه وهو يحاول تقبيل شفتيها. ظلت تنظر إليه بفراغ. تعب وهو يحاول جعلها تسترخي قليلاً.
"كفى.. لقد تعبت "كانت هذه هي الكلمات الوحيدة بعد تلك اللحظات، لم يجد مايقوله فقبل جبينها وانسحب إلى وحدته بعد أن استولى عليه أسى طافح.
لم يعد الحب يجمعهما. إنه اليأس.
***
وحدها في غرفتها تتمرن على نطق كلمات تقولها له من دون أن تدع فرصة لهذيانات حزنه أن تباغتها. تحاول أن تعثر على صوتها بين بقايا شظايا روحها.
أجلس في غرفتي عند النافذة المطلة على قمم الأشجار. يظهر من الشرفة مقطعاً نصفياً لشجرة كمثرى ارتدت أوراقاً غضة تداخلت أغصانها مع أوراق زيتون معتقة الخضرة... غصن توت نافر نجا من مقص الفلاح تسلق وحيداً فدخل في انحناءة الشرفة. طائر حسون يختال بألوانه ويتنقل بين قمة شجرة الكمثرى وأسلاك الكهرباء الأربعة. يحط على السلك الأول فتنضم إليه ثلاثة عصافير تتبعهما حمامة تعثرت في الهواء قبل أن تقف على السلك الثاني.
أسراب من العصافير تنطلق فجأة من أعالي الأشجار في حدائق البيوت فتشكل في السماء منحنيات سرعان ما تتحول إلى موجات راقصة على امتداد أسلاك الكهرباء مكونة سلالم موسيقية تتناغم في حركتها مع طائر الحسون والحمامة اللذين أجفلتهما الأمواج فجازا نحو أعالي الأشجار.
تواصل الموجة الراقصة إيقاعها فتجزر نحو الأشجار بانتظار المد، وبين المد والجزر يحاول كل طائر أن يجرب صوته فتمتزج الأصوات في فوضى تشبه أصوات الأطفال عند أبواب مدرسة في نهاية يوم دراسي.
وعندما يتراخى ضوء النهار تتداخل أصوات الطيور مع إيقاع المد والجزر بوتائر متبادلة ولازمة واحد تكلل -عند آخر شهقة للنهار- بالصمت.
يتسلل الظلام بهدوء. يغطي قمم الأشجار فتغيب تفاصيل أوراقها وألوانها وتتحول إلى كتل صامتة تبدد العتمة من صلابتها تدريجياً. في هذه اللحظات تنتابني مشاعر مبهمة من أن شيئاً ما قد انتهى، وإن شيئاً جديداً لابد أن يبدأ من نقطة النهاية تلك... وأن ذلك الشيء الجديد المبهم يخصني وبمقدوره أن يجعلني أبكي متحررة من كل شيء حينها تمر صورتها أمامي وهي تروح وتجيء في غرفتها تحلم بلحظات صمت أزرق.
في تلك اللحظات تلح عليّ فكرة: ترى أما كان من الأجدى تركها تقول له ماتريد بالطريقة التي تشاء ووقت تشاء، مادامت الكلمات صورة لذكرى مشتركة بينهما؟
هكذا مثل ثلج الربيع الذي يتبدد، أترانا سنتساقط في اتجاهات مختلفة، ليختار كل منا سبيله: هي. هو. أنا.. هما يحاولان الحياة ويدومان كفراشات ضالة وأنا امرأة تكتب مستعيرة حياتهما عساها أن تصل إلى سكينة لحظات صمت زرقاء تحلم بها