بتـــــاريخ : 11/19/2008 9:38:16 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1056 0


    غبار المدن

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : إرادة الجبوري | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    النوم هو مايكمل أحلامنا الناقصة.. ربما لن يكون هذا مبرراً كافياً لكي تكون حكايتي مقنعة وليس مجرد وهم محض. أما عن استسلامي لرحلته بسهولة فأعتقد أنها مسألة تخضع لي أولاً وأخيراً، وإن كنت الآن لا أتذكر أسباب خضوعي. وعلى أية حال فهل من الضروري أن نتذكر فحسب؟ ماذا لو كان ذلك وهماً؟! ؟!إذا كانت المدن التي جبناها والوجوه التي سطرت حكاياتها على جبيني وهماً هي الأخرى، فماذا عني أنا؟ ألم يكن وجودي كافياً لكي تبدو حكايتي مقنعة مثلما بدت لي حكايته وهو يحدثني عن أوراقه التي لم تعد تتسع للمدن ولرحلاته الكثيرة!!‏

    قال لي غرقت سفينتنا أكثر من مرة. كنت أتصور أن البحر يلتهم الذاكرة. كم كنت أحمق حين ظننت أن رمال الصحارى يمكن أن تلفح الذاكرة وتمتصها محلقة في فضاء الصحراء الواسع. حاولت أن أترك الذاكرة عند المدن القريبة والبعيدة لكنها بدلاً من ذلك أودعتني ذاكرتها هي الأخرى. لم يضحك عندما علقت على ذلك وأطلقت عليه لقب ذاكرة متنقلة. وجومه وأنا أقول ذلك، أشعرني أن الأمر أكبر من كونه مزحة. وتراجعت عندما وجدته يعرف كل الوجوه والمدن والبحار.. الصحارى.. المدن النائية التي كانت قريبة في عينيه.‏

    وأنا أسترجع هذا الآن لا أجد غرابة مثلما أستغرب انصياعي له. أهي مسألة تخضع لي أم أن إصراره الخفي كان السبب وراء ذلك؟‍!‏

    في الحقيقة لم يكن هناك إصرار واضح لكن اختياره لي من بين كل الوجوه التي عج بها المقهى في ذلك اليوم الصيفي اللاهب هو مايبيح لي استخدام مفردة "إصرار".‏

    أراه الآن وهو يقف عند عتبة باب المقهى متفحصاً الوجوه دقائق ثم يتوجه مباشرة إلى الزاوية التي أجلس فيها. وبدون أية كلمة مهما كان نوعها يسحب كرسياً ويجلس قربي. أتذكر مشاعري في تلك اللحظات، كانت مزيجاً من الحنق والاستياء سرعان ماغادرني قبل أن يتفوه بكلمة. لكني مع هذا حاولت أن أصرخ في وجهه أكثر من مرة وأبتعد... لا ... ليس الأمر دقيقاً هكذا. كنت أرغب في أن أصرخ في وجهه وأهرب. أهرب؟ نعم، أهرب، لا أعرف إلى أين ولكن الهروب بمعناه البسيط العميق هو ما رغبت به. وقد تكون مفردة تمنيت أدق من رغبت. تمنيت وتمنيت لكني أخيراً تمنيت أن لا تتحقق أمنيتي.‏

    جلست فترة طويلة قبل أن ينظر إلى وجهي ويقوم بحركة دلت على قراره بترك المكان. لم يقل لي اتبعني لكني وجدتني أسير وراءه.‏

    طوال ساعات سيرنا كان صامتاً. لم يقل لي غير كلمات لاتحمل معنى واضحاً وزعها بين فترات الصمت الطويلة جمعتها اليوم كلمة كلمة وهمسة همسة والتفاتة التفاتة وتقطيبة تقطيبة وابتسامة ابتسامة فبدت لي حكاية مقنعة.‏

    أما أنا فوجدتني أخرج عن صمتي -أنا الرجل الصامت دائماً- شيئاً فشيئاً وأحدثه عن أشياء لا أفقهها لكني أشعر بها الآن جيداً مثلما شعرت بها وقتها.‏

    كان صوت خطواته واضحاً على الرغم من الشوارع المزدحمة بالفوضى والضجيج.. صوت تشكل بإيقاع ساير خفقات قلبي مبدداً ارتباكها.‏

    كانت الطرق التي سرنا فيها متداخلة بشكل غريب.. طرق تكمل ملامح بعضها بعضاً أدت بنا إلى مكان لايمت إليها بصلة... مدينة لاتمنح أسباباً أو تفسيرات موضوعية لما يجري فيها. وربما لعدم وجود ذلك شعرت بموضوعيتها التامة.. كان الرجال فيها ذوو وجوه نحيفة ووجنات بارزة يسيرون ورؤوسهم مطأطئة الشوارع مهجورة على الرغم من ازدحامها بالناس.‏

    لم أر شخصاً يبتسم والأغرب لم أشاهد أطفالاً. كان الأطفال ملتحين.. والنساء متشحات بالسواد. كل شيء كان يوحي بالحزن وكانت بنايات المدينة رثة.. مغبرة وكأنها خرجت للتو من جوف صحراء.‏

    شعرت بالصمت يخنقني لكنني مع هذا لم أتكلم.‏

    قال لي: "انظر لقد توحدت خطواتنا".‏

    وجدت أن كلماته بلا معنى.. أيخرج عن صمته لكي يقول لي هذا!!.‏

    أتراه كان منشغلاً طوال تلك الساعات بمراقبة خطواتنا!!.‏

    الآن فقط أدرك مدى ألمه لعدم استجابتي لمشاعره وهو يقول تلك الكلمات. استجابة كانت المسافة بيني وبينها مسافتنا عن الحلم الذي يكمل أحلام يقظتنا الناقصة وعن المعاني والأشكال والصور التي تتسرب من بين أصابعنا حالما نحاول الإمساك بها.‏

    قادني إلى شارع مقفر.. هل كان قديماً؟!.‏

    حدق إلى وجهي وكأنه يقول لي ألا تتذكر هذا الشارع.‏

    أحسست بأني أعرف هذا الشارع جيداً ولكن هل يمكن أن تتقلص الشوارع... تتغير ملامحها.. تجتاحها السنوات مثلما تفعل التجاعيد بوجوهنا!!‏

    أعرف أني سرت بهذا الشارع من قبل. كان ذا غرابة مألوفة. أشار بيده إلى بناية صغيرة يرتفع الشارع الإسفلتي إلى مسافة وصلت شبابيك طابقها الأول.‏

    هبطنا السلم المؤدي إلى بوابتها الكبيرة ذات الطراز القديم. كنت أنتظر منه أن يقرع الباب لكنه لم يفعل.‏

    توقف برهة وكأنه يتفحص الصدأ الذي غلف أكرة الباب.‏

    أثار استغرابي أن الباب فتح بسرعة وبدون أدنى صرير قبل أن يلمسها.‏

    سرت إلى جانبه في دهاليز رطبة مظلمة ذات رائحة مميزة. تصطف على جانبيها غرف عديدة مغلقة اتخذت أبوابها الخشبية لوناً أسمر يلفه سحر خاص تنبعث منه روائح قديمة باردة.‏

    تجولنا في عتمة الممرات التي أحدثت في داخلي أثراً عميقاً فكان عليّ أن استعين بحدسي وبالضوء الذي يتسلل من كوة بعيدة مبعثراً بعض عتمة الممرات.‏

    شعرت أنني مسير بحلم يشكل خطوطه نور غامض يحيط بصاحبي. صاحبي؟!! يالجرأة المفردة!! أشعرت به صاحباً في تلك اللحظات؟... ربما.. ربما.. غير أني الآن أعرف أن ما أحسست به كان حقيقياً أكثر من كونه رغبة مضللة ألوذ بها من حيرتي ومشاعري المرتبكة.‏

    كنا نسير متقاربين لايفصل بيننا غير خيط متذبذب من العتمة يتأرجح حول نقطة ضوء كان يتحرك مع خطواتنا.‏

    كان الجو حاراً على الرغم من عتمة المكان ورطوبته.‏

    اتجهت نقطة الضوء نحو نهاية الممرات... توقفت عند السلم الحديدي الأسود... تسلقت درجاته. كنت أتمسك به من خلال نقطة الضوء. تلمست حديد السلم.. أنعشتني برودته فجلست على إحدى درجات السلم واضعاً جبيني على حافته..‏

    أغمضت عيني.. كنت منهكاً فغفوت تماماً مثلما كان يحدث لي عندما كنا صغاراً ونحن ننتظر حلول الظل الكثيف تحت افريز بناية مدرستنا التي كنا نراها هائلة الحجم بسقوفها المرتفعة وأعمدتها الضخمة في تلك الظهيرات اللاهبة. ومن طول انتظارنا كان الظل الذي يكونه الإفريز يضلل تميزنا للبوابة والنوافذ.‏

    "انهض مازلنا في البداية".‏

    تسلل إليّ صوته الرخيم مصحوباً بنسمة باردة جعلتني ارتجف برغم حرارة الجو. ربما كان الخوف!! لا.. لم يكن خوفاً بل خشوعاً.. خشوعاً!! أجد الآن صعوبة في اختيار المفردات المعبرة تماماً عما شعرت به. وهذا لايعود لقصور في اللغة بل لاختلاط مشاعري وتشوشها. اختلاط مربك لذيذ أستطيع تذوق مرارته الآن. كل شيء كان مشوشاً بانتظام أمامي.. ابتداء من تداخل تفاصيل المكان.. العتمة.. الرائحة القديمة المميزة لخشب الأبواب ولنظافة الممرات وحتى الإحساس بالخشوع والرهبة... الاستخفاف.. اللامبالاة الملغومة بالحزن واليأس.. الإحساس المتصاعد بالدهشة وأنا ألمس الأشياء وكأني أفعل ذلك للمرة الأولى!!.‏

    أحسب أني وجدت ضالتي هذه المرة. شعرت بأن كل شيء يحدث لي للمرة الأولى. نقطة ضوء يحيط بها خيط متذبذب من العتمة كانت تقود، بانتظام، عالمي المشوش المرتبك.‏

    ردد صوته "انهض حان الوقت". فتحت عيني. الوقت!!‏

    سألته: وقت ماذا؟‏

    ابتسم لي بطريقة أعترف الآن بعدم قدرتي على وصفها. ابتسامة ساخرة بمحبة.. مستخفة بحزن... ابتسامة أضاءت وجهه وخبت على شفتيه. ابتسامة تنفستها. تشربتها.. أحسست بها وهي تدخل رئتي.. تتحسس دقائق جسدي.. تتوزع بين كريات دمي.. تتلبسني. ابتسامة قدمت أجوبة لحيرتي وارتباكي وأسئلتي التي وجدتها حمقاء. ابتسامة جعلتني أنتفض وأسير إلى جانبه متابعاً نقطة الضوء. قال لي "إذا واصلت المشي هكذا ستكون أحدب قبل الأوان".‏

    -قبل الأوان! ماذا تقصد بقبل الأوان"‏

    ومن دون أن أنتظر جواباً وقبل أن يركن إلى صمته قلت له:‏

    "الممرات معتمة ونقطة الضوء هذه دليلي. إن تصميم البناية غريب بعض الشيء. نقطة الضوء المتسللة من كوة السلم، الكوة الوحيدة في البناية من الأشياء التي لم أجد لها تفسيراً -ما انفكت تتجول في المكان".‏

    كنت أنظر إلى وجهه منتظراً أن يقول أي شيء لكنه لم يفعل سوى الابتسام بامتعاض بل بانزعاج غادره مسرعاً. سار أمامي هذه المرة فحاولت اللحاق به. اختفت نقطة الضوء.‏

    توقفت عند المكان الذي اختفت فيه نقطة الضوء.. هي لم تختف بل تركت خطواتنا وتابعت مسارها نحو كوة السلم منضمة إلى خطوط الضوء الواهنة..‏

    التفت إليّ وقال بصوت حنون "ألا تأتي؟" وواصل الخروج من دون أن ينتظر جوابي. كان يعرف أن قدري هو اتباعه.‏

    تتبعته متجاهلاً "صور" الأسباب... أسباب دخولنا هذا المكان بالذات.. تجولنا في الممرات.. نقطة الضوء.. غفوتي.. مغادرتنا المكان من دون أدنى إشارة أو تعليق.. حيرتي.. ماحدث ويحدث.‏

    خرجت خلفه فانغلق الباب بقوة وكأن يداً خفية كانت بانتظار خروجنا، وربما خروجه وحده. خروجه وحده؟ ماذا لو كنت قد تلكأت بالخروج. أكنت سأكون سجين ذلك المكان؟ إذا كانت هذه هي الحقيقة، لم يفعل هذا؟‏

    ماذا فعلت له لكي يتجشم عناء الرحلة ليفعل هذا بي؟ كان يستطيع التخلص مني بسهولة في أحد شوارع المدينة الغريبة هذه حيث لايكترث الناس لأي شيء يحدث مهما كانت خطورته.‏

    رأيت هذا أمامي. لا أحسب أن هذا مجرد هذيان. لا.. ليس الأمر كذلك.. شاهدت رجلاً يطعن امرأة ويغادرها بدون أن يكترث حتى بمسح سكينه (الملطخ) بالدماء..‏

    كانت المرأة غارقة في بركة من الدم والناس يمرون من أمامها من غير أن يتعبوا أنفسهم بإلقاء نظرة عليها. كانت الشوارع مزدحمة ومع هذا كنت أراها خالية.. فارغة تماماً أتذكر أني توقفت عند المكان راغباً بالصراخ لكن الكلمات لم تمتلك شجاعة الخروج فاحتمت بعتمتها. بعد فترة طويلة نسبياً حضرت امرأة شاحبة، متشحة بالسواد مع طفلين أشارت إليهما بحمل المرأة وعندما لم تسعفهما، أيديهما النحيفة سحباها من شعرها وسارا مخلفين خطين متوازيين من الدم.‏

    كان رفيقي ينقل نظره بيني وبين مايحدث ثم لمس الإصبع الصغير ليدي اليسرى.. جفلت وأنا أشعر بلمسته الباردة. لمسة بعثت في برودة قارصة أوقفت تصبب عرقي. كنت محموماً ثقيل الخطوات كل جزء من أجزاء جسدي محمل بالتعب وقدماي لا تكادان تساعداني على الوقوف ومع هذا كان علي أن أستمر في تتبعه.‏

    كان يستطيع التخلص مني بسهولة لكنه لم يفعل. استدرجني إلى هذا المكان المنعزل.. و.. ماذا؟ قد تكون الحمى فعلت فعلها معي وإلا ما الذي جعلني أفكر بهذه الطريقة. إذا كان ينوي قتلي حقاً لِمَ دعاني للخروج! كان بمقدوره أن يتركني وأنا أقف في مكاني حزيناً أتأمل اختفاء نقطة الضوء وينسل بهدوء. أعرف أن هواجسي لم تكن في مكانها. ومع هذا أثرثر بها الآن ربما لكي أخفف عبء الشعور بالذنب الذي اعتراني وحاول إزالته بنفس الابتسامة التي لايمكن وصفها.‏

    كان علي أن أعاني وأقطع معه تلك الرحلة الطويلة لكي أفهم هذا الدرس وأتمثله لكني لم أعد أمتلك شجاعة الاستمرار في الصمت الذي يغرينا لكنه يثور علينا قبل أن نثور عليه. وهنا تكمن الخطورة.. خطورة أن يثور الصمت بوجهنا قبل أن نفعل منتصراً علينا في النتيجة. أجدني الآن مهزوماً أمام الصمت الذي تخلى عني جاعلاً مني ثرثاراً جائراً في مشاعري التي أعلنت ثورتها هي الأخرى... أجدها تنفلت من عتمة في الداخل حرصت على جعلها ملاذاً دائماً لأيام لاتجد فيها الروح ما تقتات عليه.‏

    أقول هذا على الرغم من أنني لا أفقه ما تعنيه هذه الكلمة "الروح" لكني بالتأكيد أشعر بها مثلما شعرت بنقطة الضوء تلك التي اختفت وهو يسير أمامي مسرعاً، مغادراً المكان. حزنت لاختفائها وربما بكيت. نعم... بكيت. تحسست طعم الدموع المنحبسة في بلعومي، كنت مثل طفل فقد مايعده أعظم شيء حدث له في حياته. كان يسير مسرعاً من دونما سبب. سبب! يالحماقتي وأنا أتفوه بهذه الكلمة. وأبدو مضحكاً الآن إذا مابحثت عن أسباب.‏

    يومها كانت ومضة البحث عن سبب ماتفتأ تنطفئ قبل أن تكون فكرة أو أن تخرج كلمة، فكيف اليوم. اليوم!! ترى هل اختلف الأمر؟ ماالفرق بين مامضى واليوم وماسيأتي إذا كانت المشاعر والمخاوف والهواجس والأحزان والدهشة والفرح.. إذا كان كل شيء يتلبسنا بالطريقة نفسها.. يترك المرارة نفسها وإن كان ذلك بدرجات مختلفة!! هل فتشت حقاً عن أسباب أو تفسيرات لما جرى أم كان ذلك صورة للبحث وليس البحث نفسه؟ نعم.. "الصورة كانت شاغلي. إذن ما بالي اليوم أطرق باب هذه الكلمة أنا الذي أملك الكثير من الأسباب التي تجعلني لا ألتفت إليها. التفت إليها؟ ترى ما الذي يجعلني أقول هذا.. هل أصبحت في عداد الماضي لكي أقول هذا؟ لم تكن خلفي أو أمامي.. كانت داخلي.. كانت؟ لا.. ليس هذا ماأريد قوله إذ إنها ماتزال في داخلي على الرغم من تمردها.‏

    أعرف أن اللغة غير قادرة أحياناً على استيعاب ما مررت به وربما لهذا السبب كان أكثر مني تمسكاً بالصمت. الصمت الذي وجد فيه: الأم الغنية الخصبة الممتلئة بالولاء والصدق والامتنان للأشياء التي تنام في حضنها محتمية من ثرثرة الكلام المدمرة.‏

    تركنا المدينة.. مدينة واحدة من مئات المدن الذي جبناها. سبعة أيام ومئات المدن. كيف يتداخل الزمان والمكان.. هل يمكن أن تكون المدن لصق بعضها هكذا. أي جغرافية هذه التي تجيز للجبل أن يكون محشوراً بين بحر وصحراء وسهل!!‏

    أظن أنني قلت سبعة أيام. لست أنا، من قال هذا، بل أوراق التقويم والتي هي من صنع البشر أيضاً. لذا فلن أعول عليها في تحديد الزمن الذي استغرقته رحلتنا. وبقدر ما يتعلق الأمر بي يمكنني القول إنها كانت ساعات طويلة حسب.‏

    ساعات يمكن أن يمتد طولها أو يقصر وفقاً لضربات قلبي، وبصورة أدق وفقاً لخطواتنا إذ أن الاثنين متلازمان. أو وفق مشاعري تجاه مايجري أمامي في تلك المدن.‏

    في يوم واحد إن جاز لي التعبير رأيت مالا يمكن أن أراه بمئات السنين. مدناً قديمة رأيتها تخرج من جوف البحر وأميرات عاشقات لصعاليك.. أبطال.. وعربات ملكية.. وصيفات.. جنود.. ملوك.. شهداء وخونة. سمعت قرع الطبول.. طبول الفرح والحرب.. طبول تعلن عن ارتفاع عروش وتهاوي رقاب.. صوت الطبول ربما هو الصوت نفسه المعلن عن الأمور المتناقضة غير أن الجو برمته يمكن أن يشكل حدس السامع ويعلمه بجلية الأمر.‏

    هذا ماحدث بالضبط في أثناء مرورنا بمدينة ارتدت الحرب.‏

    وجدنا -رفيقي وأنا- أنفسنا بين رائحة الخيول وعرق ممتطيها. كان صهيل الخيول وصوت سنابكها وحشرجة الأمهات التي بدت بعيدة، قريبة وصراخ القادة وصمت الجنود غمغمة متقطعة ذوبتها قرعات الطبول وغطت عليها. ومع هذا كنت أسمع صوت خطواته بوضوح.. خطوات سايرت خفقات قلبي مبددة ارتباكها.‏

    رفعت رأسي وجدت أن مدينة الجبل ارتدت الحرب هي أيضاً، جبل وسهل وسهل وجبل ارتديا الحرب وكانت حشرجة الأمهات وصمت الجنود ورقة رهان كل منهما. اخترقنا مدينة السهل من غير أن يكترث بنا أحد وتوجهنا إلى مدينة الجبل، من أعلى قمة الجبل شاهدنا الحرب تدور في مدينة الصحراء.‏

    لم نستطع تمييز مقاتلي مدينة السهل عن مقاتلي مدينة الجبل.‏

    لاشيء يمكن أن يرى غير نقاط سود بعيدة تقترب من بعضها بعضاً وتبتعد. تتداخل.. تبتعد.. تقترب.. تتداخل ثم تلتصق برمال الصحراء وتضيع بين حبات رملها غير المتناهية العدد.‏

    ساعات طويلة مضت والمنظر ذاته يتكرر بإيقاع يتسارع ويخبو: يخبو ويتسارع مع قرعات الطبول. الطبول التي لم تكف عن الصراخ حتى رأيت نسوة متشحات بالسواد من مدينة الجبل ومدينة السهل يتوجهن إلى مدينة الصحراء بعيون ترنو إلى الأفق كل واحدة منهن كانت تسير وحيدة مثل قطرة مطر يوحد بينهن انهمار المطر والريح والعاصفة. رأيتهن يبحثن بين رمال الصحراء كل من انفراد. لا أتذكر كم بقيت أبحث معهن حتى شعرت بصاحبي وهو يلمس الإصبع الأصغر ليدي اليسرى باعثاً فيَّ برودة قارصة أوقفت تصبب عرقي.‏

    "ألا تأتي معي". قال هذا بنبرة بديهية لاتساؤولية.‏

    حملت نفسي بتثاقل وسرت وراءه. سمعت أصوات الطبول هذه المرة تقرع بالصوت اللاإنساني نفسه والناس يسيرون بصخب والبهلوانات يقومون بعملهم على أفضل وجه. امتلأت الشوارع بالزينة وصوت ارتطام كؤوس الانخاب كان يكمل نشاز قرع الطبول. قلت له "يبدو أن مدينة الجبل هي المنتصرة".‏

    ابتسم لي بانزعاج بل بامتعاض غادره مسرعاً واستمر في المشي. وصلنا مدينة السهل فرأينا الشيء نفسه: قرعات الطبول.. البهلوانات.. الشوارع المزينة... الأنخاب. لم أقل شيئاً، احتفظت بكل شيء لنفسي وقد يكون إدراكي للعبة هو ما جعلني أصمت. وإن كنت أتحفظ كثيراً في قول ذلك. ولا أقصد التحفظ على اللعبة بل على إدراكي لكونها لعبة.‏

    توجهنا إلى مدينة الصحراء. كانت هادئة.. لاطبول ولابهلوانات.. لازينة. صوت الصمت الصمت هو الطاغي... صوت إنساني قريب جداً طغى على صوت خطواتنا. خطواتنا التي امتصتها رمال الصحراء فلم أعد أسمعها.‏

    كانت خفقات قلبي تساير صوت الصمت الذي لف المكان والنشيج الصارخ الصامت لعيون النسوة المتشحات بالسواد اللواتي كن منشغلات برمال الصحراء.‏

    توقف صاحبي كثيراً في هذه المدينة. لمست الإصبع الأصغر ليده اليسرى وقلت له "ألا تعتقد أن هذا يكفي؟".‏

    لأول مرة أراه يحدق إلى وجهي بهذه الصورة. نعم.... لأول مرة. لست واهماً حين أقول هذا، نظر إليّ بامتنان وتقدير كبيرين. أحسست أنه يراني للمرة الأولى وأنني لست بأقل منه على الرغم من أنه لم يشعرني بذلك أبداً، لكني كنت أحمل الإحساس بأني أقل منه بكثير، أما أقل منه بماذا فهذا أمر آخر لايمكن التعبير عنه. قال "كنت بانتظار أن تقول هذا".‏

    خرجنا من مدينة الصحراء بلا أدنى تعليق ثم وصلنا إلى مدينة أحسب أني أعرفها. قلت له وأنا أحدق في خطواتنا "انظر لقد توحدت خطواتنا".‏

    كنت منشغلاً بمتابعة خطواتنا ولأني اعتدت صمته لم أرفع رأسي لقراءة وجهه. لم أكن أنتظر منه جواباً.‏

    شعرت بسعادة شفيفة الحزن تتسلل إلى دقات قلبي أردت إخباره عنها. رفعت رأسي. لم أره. اختفى مثلما اختفت السعادة التي ومضت في قلبي مخلفة حزناً شفيفاً نبيلاً. لم أسأل عنه أحداً واحتفظت بما أعرف لنفسي. كان يمكن أن يستمر الرجل الأحدب الذي هو أنا بالصمت. الصمت الذي اعتقدت أني نجحت في إغرائه ليحتمي بي وأحتمي به لولا ذلك الشاب الذي رأيته يجلس في ركن منعزل من مقهى يعج بالرواد والوحيد الذي اختارني من بين كل الوجوه وأنا واقف عند عتبة باب المقهى مثقلاً بأوراق لم تعد تتسع لغبار المدن!!.‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()