بتـــــاريخ : 11/20/2008 9:26:33 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1342 0


    بــوح ليلـــي

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : مســعود بوبو | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    ها هو ذا نهار آخر يغادر حمّامه الشمسي ويرحل، وعلى تمهل يهبط ليل فاتحاً دفاتر المصالحات.. في الخارج تتأوه ريح واهنة.. تخبو الظلال والأصوات وتُنهي المدينة حديثها، فتتسع الشوارع، وتطول، وتبترد.‏

    قال "أبو الوليد": الموسيقى المبتدأ، الليل موسيقى... فهذا عصر يزداد الناس فيه انكفاء على دواخلهم... يزدادون انسحاباً من الكل، وكتماناً لما في أنفسهم.. وهجراناً للموسيقى، مع أنها الوجبة الأساسية التي ينبغي أن تعد في كل دعوة لصديق.. "في البدء كان الموسيقى"...‏

    -في البدء كان الكلمة يا أبا الوليد... الحوار هو القنديل الوحيد الذي لا ينطفئ في ليل العلاقات الحميمة... في التواصل والبوح، الحوار هو الأبقى.. وفي الاستمتاع، يبقى النظر، والاستماع... والليل هو الملاذ والمصلى.. ويخيل إلي أنه خُلِق الليل قبل النهار.. الظلمة قد تلد النور، ولكن النور لا يلد الظلمة... والليل هو -المجال الحيوي- للحب المعافى، على لغة الصحف..‏

    -قد يكون ذلك، ولكن قل لي: ما مفهوم الحب في تقديرك؟ وإذا نحَّينا الموسيقى جانباً الآن فلمن ينفتح قلبك؟‏

    -يبدو لي يا أبا الوليد أن الحب اكتشاف متأن... يجيء بعد مؤالفة ومحاكمات داخلية نغفل تفصيلاتها ومراحل تناميها فينا... وليس منزعاً غريزياً مباغتاً، أو رد فعل آلي: نرى فنحب.. تلك شهقة الدهشة، شهقة الإعجاب أوالمفاجأة أو الفرح.. صعقة الكهرباء إن شئت، ولكن ذلك كله يتلاشى وقد يكون انطفاؤه سريعاً كاشتعاله في أحيان كثيرة. تغضبني تصرفات "بانة" حتى تراني أغتلي من الداخل.. وعندما رأيت أنني لم أستطع -مرة واحدة- أن أغضب منها عرفت أنني أحبها...‏

    وفي مثل هذا الليل الجليل، والناس منصرفون إلى إحصاء أموالهم، أو ديونهم، أو إلى حصر أغلاط النهار، أو حصر ما قدموا فيه للآخرين من خير ومساعدة.. منصرفون إلى عملية مراجعة شبيهة بالاعتراف أو بالنقد الذاتي، أو متكتفون كالتلاميذ المهذبين أمام "التلفاز" في مثل هذا الوقت ينفتح قلبي لهؤلاء جميعاً... وأجرؤ على القول إنني أحبهم.. وأعرف أنه حب ليس من طرف واحد... إن آلاف القلوب مفتوحة لك في المقابل، ما دمت تفتح قلبك بصفاء.. يقول القدماء.. لكي يحبك الناس، ازهد بما في أيديهم ...فاذا كنت لاتطمع بشيء من الآخرين..لا تريد بدلاً أو تعويضاً، ولا تنتظر مردوداً منهم فهذا أصدق معيار لتقويم الحب والعلاقة.‏

    -أنت كالمراوغ.... تخرج من الموسيقى لتدخل في موسيقى معتقة.. أو أنت أسير الموسيقى، وحتى لا تحرم منها تدخل الآخرين إليها... في مثل هذه الحالات بمن تتدثر؟ بالناس أم بالوطن؟‏

    -الليل هين ومؤالف يا أبا الوليد، فلمَ تُصِّعب علينا الأسئلة؟‏

    -لأنها -نفسها- تزحمني أحياناً... تنبت كالورد، وكالشوك وكالشجر في أوراقي ودفاتري وتفك بمناقيرها عرى قمصاني وتلج إلى الداخل.. تندس تحت وسادتي.. وتمشي معي في الصباح إلى المكتب... تدخل فناجين القهوة وكؤوس الشاي.. وغيرها... أنت تستطيع أن "تحتوي" أسئلتك الخاصة.. تستطيع أن تكبر عليها، لكن الأسئلة العامة هي المعضلات.‏

    -أنت أنت يا أبا الوليد- ولنقلب الشريط فنقول: إنك تبحث عن الأجوبة العامة وعلى الحالين يبقى القول صعباً، والصمت أصعب.. نحن في حاضرنا ومستقبلنا... في شؤوننا نبقى روحانيين... نبقى متلقين منفعلين، لا فاعلين.. نحن في العالم الثالث نبدأ بناء بيوتنا من السقوف، لا من الأسس.. الأشياء لا تبدأ من الأرض، من الأصل.. إنما تنزل من عل كالكلمات المتقاطعة العصية على الحل.. نتلقى بيانات عما هو بيِّن، ونختصم في التساؤلات وسوء الفهم.. وفي النهاية، وبحكم الدربة الطويلة على تقليب الأمور على ألف وجه من الظن والحَزْر والتخمين والاجتهاد... قد نصير أكثر أهل الأرض مقدرة على النفاذ إلى الحقائق، واستنباط ثروات الأرض الثمينة...‏

    قد يكون الأمر أحياناً أن تنصرف إلى عملك بجد وصمت وتعقُّل.. أو بصمت ولو بغير عمل، وأن تكف عن التساؤل وتتعلم أن لكلٍّ دوره المرسوم ومجاله المحدود... أنت جزء من آلية السيرورة اليومية المنظمة، ولست العصفور الدوري الذي يتقافز هنا وهناك.... وأحياناً يطيب لليل أن تصير فيه كالصوفي أو الرومانسي.. تنظف نفسك من الأسئلة حتى الصباح، وتحيل الوطن أطفالاً خليين ترفرف حقائبهم المدرسية أجنحة عصافير جذلة... تمد بين غيومه وبينك أواصر قربى... تراه شمساً دافئة تصل إلى الجميع، وتسكاب مطر سخي يستغرق الأرض والفصل، وشجراً مخضراً يمتد بأجراس المواشي في السهول الوسيعة... تراه وئاماً يعبق في صدور الناس كمحبة المسيح، ويخفق في الأعالي كالرايات المعززة، ويمتد كظلال المآذن وأصدائها ماسحة بيد اللّه وجنات الحقول... تمتلئ بالوطن وبالليل وتستمرون...

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()