بتـــــاريخ : 11/20/2008 8:10:00 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1077 0


    كوميديا الكاتب في الزمن الكاذب

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : حســــــب الله يحــيى | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    اكتب، الكتابة نزهة.‏

    اكتب. الكتابة خلاص.‏

    اكتب. اكتب.. اكتب.‏

    تعلمت أن تكتب.. أتقنت الحرقة جيداً.. وصار بمقدورك الآن أن تبوح بكل ما تعاني في داخلك، أن تقول كل ما تعرف، أن تحقق موقفك، أن تعلن عن الخطأ، أن.. أن.. أن.. غير أنك تحس.. فتكتم إحساسك بالأشياء.‏

    تنظر.. وتسمع.. وتشم وتدرك وتعلم.. وعن كل الأمور تتغافل، تتجاهل.. كان اهتمامك بالأشياء حكمة، كان الصمت عن كل ما يعرفه.. معرفة قطوفها دانية، كأن العمر المديد، يجعلك بل يلزمك أن تسكت وتتأمل:‏

    وتهدأ.. بأقراص مهدئة.‏

    وتنام.. بأقراص منوّمة.‏

    وتتوسل النسيان أن يلغي منك ذاكرتك.. أن يقتلها فيك.. أن تكون كلمة النسيان نفسها منسية.‏

    اكتب.. الكتابة ذاكرة يقظة، وأنت لا تريد أن تتذكر ولا أن تحس باليقظة.. فكلاهما عذاب وأرق وجنون ومحن.‏

    وما دمت تملك بقايا أسنان، فإن بمقدورك أن تكون بمعدة مملؤة، يمكنها أن تهضم رغيف كامل مندى بماء زلال.‏

    بقدمين تمشي، بيدين تنجز أعمالك، برأس كامل مرتاح يمكنك أن تفكر، بعينين ترى طبيعة بهية وسماء مشرقة، بأذنين تسمع كل أغاني الشباب التي تعيد إليك ما انطفأ من سنوات عمرك، بمقدورك أن تشم كل العطور التي تعلن شاشة التلفاز عن وفرتها في الأسواق.‏

    من الأبناء: أنت فرح باثنين.‏

    من الزوجات.. لك واحدة تتمتع بالوفاء.‏

    من الأشجار.. لك شجرة تين وشجرة توت وشجرة برتقال.‏

    من العمل.. لك راتب تقاعدي.‏

    من السكن.. لك بيت يحتوي على غرفتين.. وفي كل غرفة نافذة.‏

    من العافية، لك دفتر صحي.‏

    ما الذي ينقصك.. لئن تكون في قمة السعادة؟‏

    ما الذي تنشده.. لكن تكتب عن شمس تشرق وتضىء الكون وعصافير تنشد، ونسائم عليلة تهب عليك؟‏

    لا عليك.. من أخبار تسمعها في آخر الليل، تروج لها إذاعات معادية لبلدك.. فغدا يكذبها مصدر مسؤول.‏

    لا عليك.. من الأسعار اللاهبة للمواد الغذائية الضرورية التي تحتاجها، اليوم يعلن التلفاز عن التسعيرة والأمر بالالتزام بها.‏

    لا عليك.. إن تمشي لساعات أو نهار، حتى تقوم بتسليم أجور الماء أو الكهرباء، دون استخدام سيارة للأجرة.. فهذا هو السبيل لإيقاف التلاعب بأجور النقل وجشع السواق الدائم. وبناء جسد قوي.‏

    لا عليك.. أن تنتظر تناول حبوب هيبتون لتخفيف تصاعد ضغط الدم بعد أسبوعين أو شهر.. فحقك مضمون.‏

    لا عليك.. أن تعاني قلقاً على بيتك وعلى قنينة الغاز بالذات من اللصوص.. يمكنك الاتفاق مع زوجتك ومع ولديك وذلك بتنظيم جدول للخفارات ليلاً نهاراً.. وبإمكاك استخدام سكين المطبخ، أو مسحوق نفاث السام في مواجهة اللصوص.‏

    لا تشغل رأسك بشيء.‏

    لا شيء يستحق أن يجعل شعر رأسك ناصع البياض.‏

    لا تدع قلبك يخفق لامرأة.. ليست هناك امرأة تستحق أن يخفق لها قلبك.. فكلهن يطلبن منك خفية.. أن تكذب.‏

    لا ترأف بأحد.. الرأفة ذل.‏

    لا تقبل طفلاً.. القبلة دلال.‏

    لا تبتسم لأحد.. الابتسامة نفاق.. والابتسامة بلا سبب من قلة..‏

    لا تحزن لشيء، لا تبك، لا تفكر بالغد.‏

    الحزن والبكاء والتفكير، حالات لا تلائم من هو في مقامك الرفيع.‏

    مثلك.. يتباهى بأنه عرف جيداً آخر الأزياء الرجالية والنسائية التي تعلن عنها المجلات وشاشة التلفاز.‏

    مثلك.. يعرف حفلات هذا المساء، يعرف المطاعم الأفضل دائماً.‏

    مثلك.. يعرف ويعلّم زوجته كيفية استخدام الكريم الأساس للحصول على وجه ناعم وبشرة رقيقة.‏

    مثلك.. يحفظ كل الأغاني.. وإلا فليس من المنطق أن يتداولها الجميع وأنت.. أنت ابن هذا الزمن.. على جهل بها.‏

    مثلك.. مثل وعيك وقلمك الأنيق، ملزم بالكتابة عن تجربة تحويل التمور الرديئة التي تعطي علفاً للحيوانات إلى منتوج صالح للبشر ويعطيهم طاقة حرارية تضاهي عسل النحل الأجنبي المغشوش، والتين المغلف، والفاكهة المشتهاة.‏

    اكتب.. اكتب.. الكتابة مسؤولية، ومسؤوليتك أن تقول الحقيقة للناس، وإلا أصبحت خائناً لبلد أخرجك من العتمة إلى النور، وجعل منك آدمياً يمشي على قدمين بزوج من الجوارب الملونة وحذاء يطول انتعالك له أكثر من خمسة أيام على التوالي.‏

    صار بمقدورك أن تتعلم لغات المستعمرين والصهاينة في غضون أربع وعشرين ساعة.. وتنسى لغة قومك وأجدادك.. وكأنك لست من سلالة الجهل.. التي تخلت عن كل شيء وصارت تناقش مسائل ما بعد الحداثة.. حتى تستبق الأعداء وتنتقل من حظيرة الأمية إلى حظيرة العلم بالمعلوم والجهل بالمجهول..‏

    اكتب.. فهذا زمن حرية تتقاسمها مع كتبك الأثيرة في غرفة منزلك التي تنطلق من نافذتها أشرعة كلماتك.. وتذوب بانصهار تام في الحرارة الموجودة خارج وداخل النافذة.‏

    اكتب.. لا شيء يحول دون ممارسة الكتابة.‏

    اكتب.. لا تفكر بأمور صغيرة، لا تليق بمقامك الكبير.‏

    ذلك أنك من الوعي بحيث تكتفي بوضع صورة ملونة يمكن اقتطاعها من إحدى المجلات المترفة والصادرة من مكان آمن مترف مرفه، رسم فيها رغيف في دورة القمر ووجهه البهي وعلى مقربة منه يقف قدح الشاي المعطر، منتصباً، نشواناً، مزهواً بلونه المحمر العجيب، يفوح منه بخار شهي.‏

    اكتب.. لا تتوقف.‏

    هناك سيولة نقدية ورقية يمكن أن تملأ بها جيوبك.. كل ما في الأمر أن تكون مرناً في تعاملك مع ما تراه وتسمعه وتشمه وتحسه وتتذوقه.‏

    - مثلاً..‏

    مثلاً، لا تقل إننا نعيش في فوضى اقتصادية.. حدد المسؤولية، قل إن المواطن هو السبب.. فلو قام كل مواطن بمقاطعة شراء المواد الغذائية.. لتلفت، وصارت أسعارها زهيدة.‏

    - مثل آخر..‏

    - نعم.. مثل آخر، لا ترش ولا ترتشي.. فتلك ظاهرة سيئة ينبغي عليك فضحها بطريقة تقديم وقبول الهدايا.. تعبيراً على المودة والتلاحم في صفوف المجتمع.‏

    مثل ثالث..‏

    - هناك أمثلة كثيرة.. وأنت تريد العد والإحصاء.. مثلاً.. المواد الفاسدة والمغشوشة والرديئة التي تباع على أنها من أفضل النوعيات.‏

    - ما الذي يمكن للكاتب أن يقول عنها؟‏

    - الأمر سهل، سهل جداً.. قل إن مادة الملح التي تستخدم لادامة بعض المواد.. يمكن أن تكون فاسدة.. قل الملح فاسد، والبحر الذي دفع به إلى الضفة هو المسؤول عن هذا الفساد وينبغي معاقبته، بعدم السباحة فيه، ومقاطعة العبور إلى ضفته الأخرى.. حتى يعود إليه رشده فلا يلقي إلينا بملح فاسد مستغلاً بعض مشكلاتنا الآنية.‏

    اكتب.. الكتابة تبرير، وأنت خير من يبرر الأخطاء، إن كانت هناك أخطاء فعلاً. مع علمنا أنها غير موجودة كما تشير كل أجهزة الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة.‏

    اكتب.. فقنينة الحبر موجودة..‏

    وما دامت قناني الحبر موفورة لك، فمعنى هذا أنك مدعو للكتابة، وأي تخلف عن أداء هذه المهمة الوطنية.. تعني.. إنك عاجز أو خائن..‏

    أبعد تهمة العجز والخيانة عنك.. واكتب.‏

    غازل من لا تحب.. مهمة الكاتب أن يستلهم.‏

    كن سعيداً.. وأنت في قمة الحزن، فالكاذب من يتجاوز المحن الشخصية، وصولاً إلى الفرح والشموخ الإنساني.‏

    شيد قصوراً من الآمال.. لا من الرمال. فهذا هو الفرق بين فحولتك الابداعية، والبراءة العابرة لطفولتك المضاعة.‏

    ارسم العالم من حولك مزهواً بالخضرة.. امح من مخيلتك شيئاً اسمه الليل.. وان لاحاك والزمك الكتابة عنه، قل إنه مصدر الإلهام وموطن الخيال والمسرات..‏

    اكتب.. اكتب.. اكتب.‏

    وظل الكاتب يكتب.. ويكتب حتى آخر يوم في حياته مستجيباً لخوف لا يعرف مصدره - كما يقول بعضهم مع أن الجميع يعرفون مصدر كل شيء - وعندما تقرر طبع أعماله الكاملة.. فوجئ القاصي والداني القريب والبعيد. العدو والصديق، الغافل واليقظ. الصادق والكاذب.. الشجاع والجبان، إن كل ما تركه الكاتب.. لم يكن إلا حزمة من أوراق بيض.. وإلى جانبها قنينة حبر مملؤة بالماء.. وقلم حبر معبأ بالهواء..

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()