يوم طلبت لخدمة الاحتياط في الجيش، انتابتني شتى الظنون والوساوس، والحسابات كما انتابت غيري من مواليدي، ذلك راجع بالتأكيد لواقع الحرب المتواصلة منذ سنين طالت، والتي تزداد أحداثها حدّة وقسوة وتوتراً، ومايشاع من تضارب الأفكار والآراء، وتوارد الأخبار عن جبهات القتال، أمر طبيعي أن يشغل بالي وبال من حولي، خبر استدعاء مواليدي للخدمة في الجيش من جديد، حيث استطعت أن أُرتب الأمور على أسرع مايكون، وما يتطلب الأمر، خاصة ، وأن عائلتي كانت تعتمد عليّ فقط، في إدارة وتمويل شؤونها المعاشية، ولم أترك ضياع وقت سواء في إدارة شؤون البيت أومراجعة دائرة التجنيد، خوفاً من حدوث ما لا تحمد عقباه. أخذت تأشيرتي، حيث أُحلت إلى مركز تدريب أو تجمع في بغداد.
ولحظة شروعي بالسفر، كان الجميع يشيعني، والسؤال يلح منهم؛ هل أخذتَ كذا؟! ألم تنسَ شيئاً..؟! لا تنس أن توصل لنا بالأخبار التي تطمئنا، إلى غير ذلك.. من أشياء وأفكار ووساوس، كانت تنتاب كل إنسان في زمن الحرب الحرج، حين باعدت المسافة بيننا ارتسمت كل صورهم أمامي. وكلما ابتعدت عن مدينتي، شعرت بذلك، كان البعد عنهم يؤلمني كثيراً. لذا قلت لنفسي، وما نفع التفكير بهم دائماً..
كان المعسكر واسعاً، بقينا في داخل ساحته الواسعة النهار بطوله، وعند نهاية العصر، دعينا للتجمع، وكالعادة قرأت أسماؤنا، وأدخلنا إلى قاعات واسعة، منتشرين هنا وهناك، كثرُ اللغط والحديث، وتصاعد بسرعة دخان السجائر؛ وطغى على فضاء القاعة، حيث ارتخى الجميع على فرشهم يتهامسون ويدخنون، ويتكهنون، ويشاكس بعضهم بعضاً، بينما "وبسبب طبيعتي" انشددت أول مادخلت إلى القاعة، وافترشت بطانيتي، ثم أرخيتُ ظهري على الحائط، حتى انتابتني الوساوس، منشغلاً بطرق أسمعه، يتوالى من خلف الجدار. كانت الطرقات متتابعة، صادرة إثر ضربة مطرقة على مسامير. نمّت عن مهارة نجار، حسبتها أول الأمر حالة إصلاح لكرسي مثلاً، فتركت أمر الانشغال بها، ورحتُ أتحدث مع زميلي عن شؤون الخدمة، والخسائر التي تلحقنا جرّاء الخدمة هذه من عجز مالي. وفي أي الجهات سيكون نصيبنا. وبأن الله هو الوحيد الحامي، وأن ما قدّر للمرء لا يأتي إلاّ من أمر الله، وبأن الحرب قد طالت كثيراً فشتتتُ كل شيء، وحمّلتنا أكثر ممانستطيع، وها إننا ندفع الثمن غالياً. وإن الله كفيل بإزالة مثل هذه الغمة عن هذه الأمة، وبأننا نوكل الأمر لله وحده، بعد أن يئسنا من رحمة الإنسان السادر في غيّه. وكثر الحديث، لكن أُذنيّ كانتا تلتقطان الطرقات باستمرار، وكنت ألوك الكلمات بآلية مع صاحبي، وأصغي إليه دون استيعاب، فقط هذه الكثافة من الطرق، كل ما كان يملأ أُذني ورأسي، وحين خلد الجميع إلى النوم، واستسلم صاحبي لسلطانه، أرخيتُ جسدي على البطانية، واستقر رأسي على الوسادة دون أن أُضيع لحظة للإصغاء إلى الطرقات تلك، بحيث ازداد رنينها، وملأ القاعة التي خلدت إلى الهدوء، واضمحلت كثافة الدخان. بينما الطرق أخذ بالازدياد، بل إنه استمر هكذا، دون أن يتوقف، ضربات متوالية، ونقرات على رؤوس المسامير. وبضربات منتظمة، تصدر عن يد نجار محترف، قلت مع نفسي: مالي ومال هذا..؟! ربما هناك تصليح لبعض الأثاث. لكني عدت مع نفسي مجيباً: وهل يعقل هذا، ألم يستغرق التصليح هذا وقتاً طويلاً سيما ونحن قد تجاوزنا منتصف الليل بساعة تقريباً، ألا يخلد هذا الطارق إلى النوم والراحة، ويترك مابيده إلى الغد..؟! وتكاثفت الأسئلة، وازدحمت في رأسي، وأنا أصغي إلى الطرقات وتواليها المنتظم الذي أرقني كثيراً، ودفعني إلى التسلل من فراشي، ومغادرة القاعة، مندفعاً بهدوء تام إلى الباب الذي بجانب باب قاعتنا، مدركاً أن الصوت يأتيني من خلف رأسي تماماً، وهذا يعني أن ثمة قاعة أو غرفة أخرى يشتغل داخلها نجار، فقد أستطيع تنبيهه وأترجاه أن يكف عن الطرق. لكي نخلد إلى الراحة، منتظرين الغد الغامض. رحت أسير بهدوء وأقترب من الباب، وجدته موارباً، دفعته قليلاً، ثم تلصصت لأرى ما بداخل الغرفة، إذ انكشفت عن قاعة واسعة جداً. مزدحمة بالخشب، وآلات القطع والمناشير وآلات التنظيف، كانت تلك الآلات العملاقة، متوزعة على زوايا القاعة والأرضية، وقرب منضدة الخشب المتكدس والأخشاب دون تقطيع، وبجانبها قطع من الخشب المقطع إلى أشكال محددة ومتساوية، بعضها يتكئ على الجدران، وثمة رجل يحمل مطرقة بيده ويضرب على قطعة خشب يحاول تركيبها على مستطيل. حين لمحته داهمني هاجس غريب. ابتعد عن الصندوق الطويل. ثم حمل قطعة خشبة مهيئة بشكل مناسب. وضعها على وجه الصندوق. ثبتها بمسمار واحد قرب الرأس والآخر قرب القدمين، حتى بان شكله واضحاً، تابوت طويل بقياسات ثابتة، حمله صعوبة، ووضعه إلى جانب آخر، تكدست فيه التوابيت بانتظام، وضعه على مجموعة كانت مرصوفة فوق بعضها، ثم عاد مقرباً منه أجزاء لآخر. وبدأ بالتركيب والطرق، بينما انسحبت بهدوء عن مدخل القاعة، دون أن يراني. وددتُ أن أنطلق خارج المعسكر راكضاً، لكن التوابيت كانت تلاحقني. تتركز إلى جانبي، وكل واحد منها يفتح غطاءه، ويطلب مني الدخول إليه، لكني أزيد من جريي وركضي السريع على فراش بارد، حتى انبلاج الفجر.