بتـــــاريخ : 11/20/2008 8:24:20 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1239 0


    الردهات

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : جاسم عاصي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الردهات جاسم عاصي

    لم أشعر بالضعف والخور، مثلما أنا عليه الآن، خاصة في لحظة انتصابي أمامه وجهاً لوجه، معتبراً أن المسألة يمكن أن تمر كما اعتدت، وبشيء من السهولة المرتبكة، لكني أدركتُ أن هذا الأمر بات مستحيلاً إزاء التوسلات و التشنجات التي لاحظت خلالها، أن كل أحزان العالم قد تجمعت في وجهه، وأن تلك الغضون والتجعدات، ماهي إلاّ طيات لحكايات وأوجاع، كان قد استجمعها في كل سني عمره.‏

    ولم يطلق عنانها غير الآن، ولا أدري لم شعرت به مثل محاصر داخل مساحة ضيقة، حيث تزداد ضيقاً، وهو يتلوى، ربما وصل به ذلك إلى حد الاختناق.‏

    كنت وقتها أزداد حسرة على كل ماضاع من العمر، وانطفأ من ضياء في حياته، ولا علم لي، أكان يحس بذلك أيضاً؟! أم أن ماذهب به، أنساه كل شيء؟! ربما انمحت كل ذكرياته، غير أني عدلت عن رأيي وأنا أستعيد في ذهني كل الأيام العصيبة التي مررنا بها سوية. كان يقترب مني بشيء من الإلفة، مستدرجاً إياي إلى هدفه، وحين أمانع يطأطئ رأسه ويتوسل كالطفل، إلى أن يلتصق أنفه على جبيني، إذ يفرغ كل الحب المختزن دفعة واحدة، كمن يشم عطراً فواحاً، إنه يشم رائحة نادرة في هذا الطفل الذي رعاه، والذي هو أنا، وكم كنت أتوجع لفعلته هذه، أعلو معه، أتسلّق سلّم البيت، وفي جسدي تنشب ذئاب البرد أنيابها، وفي تعداد المرّات التي نتسلق بها السلّم سوية، وجدتُ أن ثقل جسدي والنعاس يعيقاني عن المواصلة، وهو يستنهض فيَّ أحاسيس نائمة أستدير نحوه وأقول:‏

    - وماذا بعد..؟‏

    - فقط هذه المرة..؟‏

    - وكالمرة السابقة ، لاشيء..!‏

    - لا تقل ذلك، لأنه ينتظرنا على السطح..‏

    - لاشيء على السطح، لاشيء..!‏

    - بل توجد أشياء، وأنت لا تعرفها.. لنصعد...؟‏

    أخذتني الرعشة المفاجئة، وأنا أحدق في السرير، حيث ولجت الردهة، وتذكرتُ أن دخولي الجناح هذه المرة، لم يكن اعتيادياً، كان جمع منهم يقف على الجانب. انتبهوا لحضوري الذي كان مفاجئاً، تبعني بعضهم، وهم يلهجون باسمي، استدار البعض نحوي، استغربتُ، ما الذي جعلني بهذه الإلفة، عند هؤلاء! أعلاقتي البسيطة أم اهتمامي بهم دون النظر إلى جنونهم...؟! لا أدري، كل الذي أعرفه أن ثمة مساحة مليئة بالأزهار تلك التي عرشت في دواخلهم، واستقرت صورتي وسطها، شيعني الجميع. أسرعت وأنا أحييهم بأسمائهم، قصدت الردهة، وداهمني شك بحدوث شيء لأبي.. ولم تستقر نظراتي إلاّ على السرير الذي وجدته فارغاً منه، لا يحتله جسده الضئيل، ماهذا الصراخ الذي سمعته؟! وماهذه المشاهد الجنائزية التي أحاطت بي؟! كنت قد بكيت دهراً، كما بدا لي.. وأنا أحدق بهذا الفراغ، حتى تحولت الردهة إلى حيز ضيق، كل شيء يضيق وتمنيتُ البراري والصحراء، كي أستجمع حزني وأُطلقه دفعة واحدة، وأروح أنوح وأصرخ دون أن يسمعني أحد، أي دهر مرّ بي ساعتها، وأي فاجعة احتوت جسدي؟! استجمعت حزن السنين، وقلت في نفسي، أو ربما صرخت، كمن يصرخ في وادٍ، لكن النداء تبعثر وانطلق من بين فتحات الشبابيك وتخلل البرد والهواء وعمَّ الفضاء، فقد سمعتُ صداهُ يتردد، وكدت أن أنفجر ببكاء طويل، لولا تدارك أحد النزلاء للأمر حيث قال:‏

    - لقد غبت طويلاً يا أخي...!!!‏

    اتجهت نحوه بنظراتي، وتجمعت كومة من الأسئلة في رأسي، غير أني عجزت عن النطق بل رددت كالمهووس:‏

    - أين هو الآن؟! قل أين هو؟!‏

    - قال: - دخل إلى دورة المياه..‏

    حدقت به وبالسرير، وارتجفت فجأة، كأن أرضاً معشوشبة حلت محل هذه الردهة، ذات الرائحة العفنة، كان السرير رطباً، تنبعث منه رائحة البول والعفن، وضعت حاجياتي فوقه، ثم أسرعت خارج الردهة، كانوا جميعهم بانتظاري في الوقت الذي كان فيه والدي متجهاً نحوي، مطأطئ الرأس كعادته، يعاني من ثقل رأسه، أو أنه يبحث عن شيء مافي الأرض، إن رأسه يرغمه على ذلك..؟! إذ فقد السيطرة عليه. وحين رفع رأسه ولمحني، تسمّر في مكانه كالملدوغ، أخذ يحدق بي بانكسار تقلصت تقاطيع وجهه، حيث بدت عيناه منتفختين، ووجهه كالليمونة الجافة، التصق جسدانا، راح ينشج كالطفل، وأنا أضغط على عظام ظهره، وحين تمثل وجهه أمامي، لاحظت ضمور أوداجه، حيث نبت ذقنه، فبدا بياض شعره واضحاً، وهو الذي ماترك شعرة بيضاء في شاربه، قدته من يده إلى الردهة، وكالعادة امتلأ وقتي بالانشغال به، وراحت دعاباتهم تستجمع فيَّ الشجاعة، أنستني كل حزني، عدا ما أقوم به داخل الردهة، من طقوس أسبوعية، قلتُ : لم أجد مايفاجئني، إلاّ تلك اللحظات، ومازلت أُدقق فيها، وأبحث عن الشيء الذي قيدني، وكبلني بالضعف فحين كنتُ أهمُّ بمغادرة الردهة كالعادة، قال:‏

    - أرجوك ياولدي.. لا تتركني لوحدي بينهم..؟‏

    استغربت للأمر، قلت:‏

    - وهؤلاء..؟ ألم يكونوا معك دائماً..؟!‏

    - هل يعوضون عنك ياولدي..؟‏

    - ولكن سيخففون من وحدتك.‏

    - بل سيزيدون عذابي، إنهم يهيمون في الليل.‏

    تصورته داخل صحراء موحشة قلت في نفسي: أي وحشة تعاني أيها الرجل، وأنت في لحظاتك تلك..؟! وكم أحسست بالوحشة القاتلة..؟ آه.. لو تعلم مبلغ ألمي لما ردّدت هذا أمامي. وبدون تفكير منّي خضعت إلى تلك القبضة من كفه، التي شدَّ بها يدي، ولم تكن قوية فقط، بل إنها أحدثت في جسدي ارتعاشات لم أحس بها من قبل ، بعدها امتدت أشياء لم أتبين معالمها، بقدر ماخضعت لمشيئتها، تسلل كل شيء إلى جسدي، ولم يبق في رأسي سوى ماقاله... أخذ يكبر، ويكبر حيث يتردد صداه، وإحساس بقوة يده التي تضغط على يدي حينها استسلمت له وقلت:‏

    - لا عليك.. سأبقى معك كما تحب..‏

    - ولم أفكر بالكيفية التي سأحقق بها رغبته، بل أخذتني قوة لذلك، فقط أجلسته على السرير، حيث أصبح مطمئناً لمكوثي معه، فهدئ جسده وارتخى، وراح يمضغ بعض الطعام الذي أحضرته كالطفل المدلل.‏

    في الليل، كان عليّ أن أظهر أمامه، فقد عرف مكان اختبائي تحت سريره، ولا أدري كيف استطعت أن أقضي كل ذلك الوقت، وأنا أقوس ظهري، يمتلئ أنفي برائحة البول. حيث خرجت له، كان لظهوري مكانة المارد، ابتسم وكأنه ينتظرني، انبرى قائلاً:‏

    - انظر إنهم هناك في الخارج ينتظرونني..‏

    - من هؤلاء...؟‏

    - كلهم ، ألا تعرفهم..؟‏

    - لا والله..!‏

    - ألم أقل لك عليك الاختفاء بهم دائماً..؟‏

    اندهشتُ ، مازالت ظلال الفكرة مرتكزة في ذاكرته، كما كان يقودني من يدي، يرتقي السلّم بهدوء، ورغبة وتعطش، يدنو شيئاً فشيئاً، ندرك سوية السطح، يباغتنا البرد أختض، يرتجف جسدي، أهتز كالشجرة، لم يبال هو بالبرد، ظلام دامس ، أشباح تتراقص في الظلام، صور متداخلة شتى ، عيناي مليئتان بالنعاس، جسدي واهن، مشحون بالهواجس، وحين أفتح زر المصباح يمتلئ السطح بالضوء، يخرج مسرعاً، لاشيء ينتظره، يدور في الأركان ويردد وهو يؤشر بيده:‏

    - انظر.. انظر..‏

    ولحظة لا يعثر على شيء يشعر بالخجل. أقوده، ويقودني إلى الباب وهو يردد:‏

    - ربما رحلوا. بعد أن ملّوا الانتظار..!‏

    تتكرر الحالة، يطلب فتح الباب:‏

    - إنهم في الخارج.‏

    - لاشي، لاشيء البتة..‏

    ويتردد في رأسي: - إنهم في العالي، إنهم في الخارج..‏

    جسد مليء بالملل والتوتر، يلاحظ شرودي وضجري، يربت على كتفي، يضحك، يأخذني من يدي إلى الخارج، حيث ساحة الجناح، خارج الردهة، يطوف بي رواق الجناح، برد وصقيع، مصابيح مضاءة في الردهات، أصوات شخير وزفير غير منتظمة، روائح عفنة، تنبعث من الداخل، ويكمل الدورة، يتركني حيث يذهب إلى دورة المياه، أسرع إلى الردهة، أبتعد عن البرد، وحين يدخلها يجلس على السرير ينظر نحوي ويقول:‏

    - ألم أقل لك إنهم في الخارج ينتظرون..؟‏

    أجبته: - نعم كما قلت.. كما قلت..‏

    ويردد: - لقد جاءني يوسف ليلة أمس..‏

    - إلى هنا..؟‏

    - نعم.‏

    - متى...؟‏

    - في الليل، وجلس على السرير.‏

    - في الليل أيضاً..؟‏

    - نعم دخل من هنا.‏

    وأشار إلى الشباك..!‏

    تصورت يوسف يصغر شيئاً فشيئاً، ثم ينّدس من بين فتحات الشباك، بعدها يستعيد حجمه، تألمت لهذه الفكرة، قلت:‏

    - أبعد عن رأسك هذا يا أبي.‏

    ضحك، رفع ساقيه، وضعهما على السرير، ثم قرفصهما كعادته، لفهما بدشداشته كان يتكور على الأريكة أمامي هكذا.. وحين لا يعثر على الراحة التي يبحث عنها، يدير رأسه إلى الجهة الأخرى، ثم يلملم ساقيه، وهكذا، غير أنه ينهض ويروح يسترق السمع من النافذة، وكأنه يسمع أصواتاً لا أسمعها، ويقول لي، اسمع، اسمع، بينما أهرب إلى الغرفة الثانية، أشرع بالنشيج.‏

    ***‏

    كان الليل يعصف بالأشجار، وأنا أحس بالتعب الشديد وبالإعياء، كأن أمعائي تخرج من فمي، وهو يقودني مرات ومرات إلى الخارج، ويشير إلى الشباك، بينما تنهك قواي، وفجأة باغتني بالصراخ، أخذ ينشج ويصرخ، حاولتُ تدفئته بالبطانية، لكني لم أستطع، كان يصرخ ويسب يوسف، ويلعن الجميع، ويردد جملاً متقطعة لم أسمعها منه من قبل.‏

    - دعوها تدخل.. دعوها.. فإني بانتظارها من سنين طويلة دعوها، وتساءلت مع نفسي من تكون هذه؟! وحين أعاد كلماته مرات، ومرات، وأضاف إليها، حتى تيقنت أنها أمي ليس إلاّ. هذا الرجل في رأسه صورة لاتفارقه مطلقاً. ازداد صراخه، سمعت وقع خطوات في فناء الجناح، اختبأتُ تحت السرير كانت الممرضة تحمل بيدها إبرة الزرق، وما إن اقتربت منه حتى همَّ بالانصياع لها، كانت لها سطوة عجيبة، وزرقته الإبرة، وأخذته من يده، قادته إلى السرير، أجلسته، رفع المعين ساقيه، وضعهما فوق، ثم دثراه بالبطانية الرطبة وهو يردد: لقد كان هنا، ولدي كان هنا..‏

    التفت المعين إلى الممرضة ثم قال:‏

    - نفس الشيء، كل يوم يردد هذا، ياللمسكين كم يحب ولده..؟!‏

    ثم خرجا من الردهة..‏

    ***‏

    خرجت من تحت السرير ، بعد فترة طويلة، وبعد أن سمعت أنفاسه تنتظم، فكرتُ في نفسي؛ ما الذي دفعني إلى مثل هذا؟! وكيف سأتخلص من المأزق؟! نهض أحدهم، أخذ يتجول في الردهة، باحثاً عن شيء ما مفقود منه، أو كأن نداءً ما أفزعه من فوقه، اقترب من أحد النزلاء، سحب طرف البطانية من على جسده، بعد أكمل سحبها، أخذّها ثم فرشها على سريره. استدار كرة أخرى إلى أحدهم، فعل نفس الشيء، حتى تجمع لديه عدد من البطانيات، رتبها على الفراش بانتظام، بينما بدأت أجساد الآخرين ترتعش، وتختض كجسدي، حاول سحب البطانية من على جسد والدي، لكني تمسكت بها بقوة، ثم غادر المكان، حيث اندس تحت الغطاء السميك الذي وصنعه لنفسه من أغطية الآخرين، كان الغضب يمور في داخلي، نظرتُ إليه بصرامة وشدة. لاحظتُ الضعف قد أحاطهُ من جميع الجهات، سحبت البطانيات منه، وأنا أقف أعلى رأسه، ثم أعدتُ له واحدة فرشها على جسده. وضعتُ كل واحدة على جسد صاحبها، ثم اقتربت منه، وحدّقت به ثانية. كان ضعيفاً كطفل، عدت إلى مكاني، جلستُ على البلاط، كأني أجلس على قطعة ثلج. كانت ظلفات الشبابيك تثير أصواتاً كالأنين بفعل الريح التي بدت شديدة في هذا الليل الموحش، إذ يمتزج حفيف الأشجار بنباح الكلاب. حاولت أن أستجمع جسدي، وأقلصه علّه يسيطر على قوة البرد، ويقاومها، بينما عيناي مكبلتان بالنعاس، وجسدي بالإعياء، ولكن إحساسي بالخوف والحذر منعاني من النوم، ويبدو أن إغفاءة قصيرة، أخذتني، إذ أحسستُ بوجود شخص ما يقف جنبي، حدقت به، وجدتهُ هو، ذلك الرجل الذي سرق البطانيات ولم أستطع تحريك جسدي، وهو يقف هكذا فوق رأسي، فكرتُ بأنه جاء لينازلني الثأر، كانت عيناه يتطاير منهما الشرر. ندمت على فعلتي معه. كان يجب أن أعامله باللين، ولا أقسو عليه كل تلك القسوة، فلربما سيشرع بضربي بشيء يحملهُ في يده، ازدادت حدَّة نظراته، حاولت أن أقول له شيئاً، لكني كتمتُ ضعفي أمامهُ، وهو يواصل التحديق بي هكذا، كمن ينتظر حركة ما ليسدد ضربة قاضية إلى خصمه الراقد بفعل النزال على الأرض، ولشدة ما استغربت حين وجدته يضحك ثم تتسع ضحكته إلى قهقهة عالية ويقول : هل تخرج للنزهة..؟‏

    وجدتُ أن ذلك مخرج أتخلص به من قسوته، فلانتَ تقاسيم وجهي، نهضت معه قلت: - لابأس..‏

    سحبني من يدي برفق إلى خارج الردهة، وأخذ يسير بي في الفناء، وحين صرنا على مقربة من الباب الرئيسي قال:‏

    - لقد تذكرتُ أنهم يغلقون الأبواب في الليل.‏

    - صحيح ، كيف نسينا ذلك، لنعد إلى الردهة.‏

    - لنتمشى في الفناء.‏

    أخذنا نسير ببطئ، ويده تمسك بيدي، وما إن وصلنا إلى نهاية الممشى المستطيل، حتى عاد إلى بدايته، قلت في نفسي، أما يكفيه كل هذه الدوران، فقد تعب جسدي، وغدوت كحصان ناعور هرم، ولم أعثر على مايعيق استمراره قلت له:‏

    - لنعد إلى الردهة فالبرد شديد ...!‏

    قال: - كيف إنه الربيع.‏

    قلت محاولاً الابتسام أمامه:‏

    - لكنه ربيع بارد، أشعر أن أطرافي تتجمد.‏

    قال: - لابأس لندخل.‏

    راح يسير بهدوء إلى سريره، بينما قرفصت قرب سرير والدي، لاحظت أن أنفاسه تتلاحق، كان جسدي منهكاً، كأني ركضت مسافة طويلة جداً، اشتد البرد، أصابتني رجفة، لم أشهدها من قبل. إذ تجمع كل برد الجبال في عظامي، وأخذ ينهشها، كيف غامرتُ بذلك؟ قلت في نفسي، وشعرتُ أن بيني وبين الدفء أميال طويلة، محفوفة بالصقيع، والثلج والأسوار، وأن الوصول إليها، متعذر بهاتين الساقين الكليلتين، أحس بأنني أفتقد السيطرة عليهما، فكرت بالاندساس مع أبي في الفراش وأتدثر ببطانيته، غير أني طردت الفكرة من رأسي خوفاً من يقظته، وهو المرتاح الآن، بعد رحلة طويلة من الشقاء.. طأطأت وكورت جسدي على بعضه، محاولة مني توفير قسطٍ من الدفء الوهمي، تذكرتُ القطارات الليلية ، وكيف كنا نقطع الصحراء داخلها، هكذا، دون غطاء، نتثلج وتتجمد أطرافنا، يملؤها صقيع الصحراء الليلي، وتيارات هوائها، من خلال شبابيك القاطرات المشرعة. تذكرت برد محطة -أور- وعراءها الواسع، وأصوات الذئاب وهي تخترق فضاء الصحراء، ووحشتها وصرير العربات، بينما تأتي الصرخات صرخات النزلاء، مختلطة بعواء الكلاب السائبة بين الأجنحة، كانت الحركة في الخارج ضاجة تصورت العالمين المنفصلين عن بعضهما، هذا القابع داخل الأسوار العالية الملساء، والأجنحة المغلقة على النزلاء، ثم الردهات والأسرّة، ومافيها من حياة، وذلك العالم الضاج بالكثير الملون، والذي انفصلت عنه الآن بحكم الصدفة، هل يتشهى النزلاء، ذلك العالم مثلي..؟ وهل بقيتْ منه قطع متناثرة في رؤوسهم؟ أم أنهم نسوه وإلى الأبد؟! كيف لا يحصل ذلك..؟ وأنا أشعر أن بيني وبين ذلك العالم مسافات لا يمكن اختراقها في وحشة هذا الليل، وأقفال من الصعب معالجتها.. فكرت بالهرب الآن، لكن كيف أستطيع ذلك، وبأية طريقة، وإذا عُثر عليّ. ماذا يكون مصيري؟! وبأي حال سأكون حين أُمسك؟!‏

    وأنا أعالج مزلاج الباب ولربما سيكون هناك قفل كبير كما هو في السجون، يتعذر على النزلاء إزالته، وفتح البوابة، راح جسدي يرتخي على البلاط، وأنا مأخوذ بهذه الأفكار، مدوراً في رأسي فكرة الهروب، أياً كانت النتائج غير أن نظراتي إلى السرير أبعدت عني الفكرة، كيف أتركه في العراء، هكذا، من الممكن أن يكون النزلاء تحت سطوة هذا الرجل أو غيره، ووالدي مع من يسحب عنهم الأغطية كل ليلة، أو يشبح رؤوسهم، بما يحمله من أداة، فالغلبة هنا للقوة، وكذا فعل هو، وفعلتُ أنا أيضاً، حين أعدتُ بطانياتهم، على أجسادهم المرتعشة الذاوية شعرتُ بثقل رأسي، وأنا أتذكر مادار بيننا من حديث، ونحن نخطو داخل الفناء البارد، وأنا أصغي إليه دون كلام، لأني لا أفهم منه شيئاً. ذكريات مبعثرة في رأسه، وحين أفهم بعضها فإنه يضيعها في ترهات جديدة.‏

    كانت فكرة الخروج تلح عليّ، وإحساس بالندم يداهمني، ويحز برأسي ولحم جسدي، رحت كالعادة أقضم أظافري، وأنتف شعرات من شاربي، كمن ينتظر شيئاً مريباً، سيحدث. قلت في نفسي، سأنتهي من نتف آخر شعرة في شاربي، حتى ينبلج الفجر، لكني لم أترك عادة قضم الأظافر، بل واصلتُ المراوحة بينهما هكذا.‏

    ***‏

    حين ابتدأتْ تباشير الفجر، كنتُ قد أعددتُ نفسي. كان كل شيء هادئاً، سمعت من يدير قفل الباب ويخرج، كان الفجر واضحاً، حيث ابتدأت العصافير تصدر زقزقتها على الأشجار، وتتزاحم، بينما همد الجميع، في الردهات، خرجت ببطء إلى الفناء، حدقت في الباب الرئيسي لم أجد أحداً قربه، عدت إلى السرير، أيقظت أبي، انتزع نفسه بصعوبة، كان لمفعول الدواء أثر واضح على جسده، حدق بي، عانقني، كأنه يراني لأول مرة، ابتسم، أخذته من يده نحو الفناء، وسرنا بحذر. وكانت الردهات على غفوتها تصدر منها أنفاس النزلاء، ولهاثهم، حاولت أن أكون هادئاً وأنا أُدور مزلاج الباب الحديد، وحين حللنا خارج الجناح تنفستُ براحة، كأن أثقالاً ضخمة قد أُزيلت من على جسدي، قدته عبر الممرات المحفوفة بالأشجار، بينما لاحظتُ أن الأجنحة الأخرى قد بدأت تستقبل حركة الفجر، فرحت لذلك، وما زالت فيَّ رعشة الليل وصقيعه، فقد كبلتُ جسدي بالوهن، غير أني حزمت أمري، وجددت طاقتي، وأسرعت معه، كان يتعثر بسيرة الواهن القوي، ولحظة مثلنا أمام الباب الرئيسي، فرحتُ أيما فرح، وأنا أشاهده مفتوحاً، بحيث بدت حركة السيارات على الشارع الرئيسي أمام المستشفى، ازدادت سرعتي نحوه. عليّ اجتياز البوابة، والخروج إلى الشارع، حيث أُطلق المكان نهائياً، كانت أقدامنا تقترب من البوابة، وشيء مايداخلني، كالضحك أو الفرح، متناسياً كل التعب الذي عانيتُ.. وما إن انتقلت أقدامنا إلى الخارج، حتى أحسستُ بيد ما تمسكني وتمسك أبي بقوة، يد قوية، سيطرت علينا نحن الاثنين.. يد أعادت كل التعب إلى جسدينا.. حيث تسمرنا على الأرض بثبات ولم يصلني سوى أنين الرجل وتثاؤبه، حيث قال لزميله في غرفة الاستعلامات:‏

    - استيقظ ، ثمة نزيلان يحاولان الهرب في هذا الفجر..‏

    - واقتادنا سوية عبر الممر المحفوف بالأشجار..

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الردهات جاسم عاصي

    تعليقات الزوار ()